“بين يديها”.. كفاح امرأة أفغانية في مستنقع الساسة والمقاتلين

مع الأسف تظل بعض المآسي ضرورية لإنجاز فيلم وثائقي مؤثر، وتظل مصائب قوم عند مخرجي الوثائقيات فوائد. لم يكن “تماني أيازي” و”مارسل متاليزيفن” مخرجا الفيلم الوثائقي “بين يديها” (In Her Hands) يتوقعان وهما يصوران شيئا من سيرة ظريفة غفاري المرأة الأفغانية الشجاعة في عالم ذكوري مُعادٍ؛ أن الرياح ستجري بما يشتهي الفيلم، وتجعله توثيقا للحظات فارقة في حياة أفغانستان، وذلك حين هرب الرئيس أشرف غني، وسقطت كابل سريعا بين يدي حركة طالبان في وقت وجيز.

هروب ظريفة.. وطن يطرد أبناءه رغم التضحيات

يبدأ الفيلم بمشاهد الفوضى في مطار كابول إثر سقوط العاصمة بأيدي طالبان، وتعلّق الأفغانيين بطائرات النقل العسكرية الأمريكية في 15 أغسطس/آب عام 2021، وتساقط بعضهم على الأرض من علو قاتل، فيجعل من تلك المشاهد الصادمة التي جابت العالم خلفية لهروب ظريفة، ثم يعود القهقرى فيأخذنا إلى مدينة ميدان وردك، وهي المدينة التي كانت المرأة تتولى عمادتها، فيعرضها محاطة بالجبال، حيث ترابط جيوش طالبان.

تحثّنا الصور الصادمة على التفكير في مأزق الحداثة الأفغانية المنشودة، فحرية الأفغاني اليوم رهينة تأبيد الاحتلال الأمريكي المسمى على نحو مناور بـ”القوات الدولية”، ودونه حكم طالبان وسيوفها المسلولة.

وفي خضم هذا المشهد السريالي الذي تفقد فيه معاني الوطن والاستقلال والحرية والكرامة دلالاتها، تلتقط ظريفة حفنة من تراب أفغانستان وتضعه في عقد إزارها وهي تتجه إلى طائرة لا تعلم إلى أين ستحملها، فقد ضاق الوطن الذي دفعت حياة والدها ثمنا لحريته الشوهاء، وكادت تدفع حياتها أيضا فجأة، وتحوّل إلى جحيم، وها هي تحاول الهرب منه بأي ثمن.

ماذا حدث ليكون انهيار حكومة أفغانستان بهذه السرعة، ولتكون الخسارة بهذه الفداحة؟

تعليم فتاة واحدة ينقذ أجيالا.. معركة المرأة الكبرى

يتابع الفيلم مسيرة ظريفة غفاري، وقد منحته الأحداث الطارئة عمقا غير منتظر، فيتتبع سيرة مناضلة تقف بشجاعة على مشارف خطوط النار، فتتحدى الصعاب لتكون أول امرأة تتولى عمادة مدينة أفغانية، ونموذجا للمرأة الناجحة المشاركة في نهضة البلاد.

لكي تحقّق ظريفة كل ذلك كان عليها القتال ضد الجميع، بما في ذلك والدها. ولأنها تؤمن بأن التعليم مفتاح التقدم وسر خلاص المرأة الأفغانية من عبوديتها في مجتمع ذكوري معادٍ، فقد تحدت خوفه عليها لتحصل درجات علمية عالية، فتحصّل البكالوريوس ثم شهادة الماجستير، وتقنعه بمشروعها السياسي.

أما معركة ظريفة الأكبر فكانت عملها على إقناع الأهالي بقدرة المرأة على الإسهام في الحياة السياسية بكفاءة، ففي نجاحها تشجيع لبنات جنسها. لذلك لا تنفك تعرض في خطاباتها الحماسية وسط الجماهير أحلامها في أرض اعتزلت الأحلام منذ أمد، فتذكر بأن تعليم فتاة واحدة ينقذ أجيالا بأسرها من براثن الفقر والجهل والتخلف، عساها تتدارك سنوات من الحروب المدمرة والجهل المقدّس.

“وهل عُدمت الرجال من البلاد؟”.. سخرية وتهديدات

بدا كل شيء على ما يرام، فبعد الفوز بالمنصب ها هي ذي ظريفة تفوز بالحبيب المخلص، فبشير يؤمن بأهمية ما تفعله حبيبته من أجل البلاد، وهو يناصرها في نضالها ويساعدها على كسر التقاليد البائدة، وعلى فرض استقبال العائلة لخطيب ابنتها قبل الزواج، ويرافقها في رحلة سياحية إلى المنتجعات السياحية عبر الأنهار.

حارس ظريفة يتودد لطالبان ويتبادل معهم النكات حول محاولة اغتياله الفاشلة

يتقمص سائقها المتفاني دور ملاكها الحارس الذي يعمل على حمايتها من كل أذى، ويؤمن أنصارها بمشروعها الإصلاحي، فتتعالى صيحات التشجيع وتتوالى علامات الولاء، ويأخذ صيتها بُعدا عالميا، فتحصل على جائزة المرأة الشجاعة الممنوحة من الولايات المتحدة الأمريكية، لأنها تسعى إلى التغيير الجماعي، ويُحتفى بها رسميا، وتعتبر فخرا للأمة بأسرها.

تتحوّل ظريفة شيئا فشيئا إلى أيقونة تختزل حلم المرأة الأفغانية، لكن لن يفرش البساط الأحمر أمام أحلامها الوردية دون عقبات، فيردد الرجال في ذهول “هل ستحكمنا امرأة، وهل عُدمت الرجال من البلاد؟”.

تتواتر رسائل طالبان التي تهددها بالتصفية إن هي “لم تكفّ عن الدعوة إلى الديمقراطية، واتخاذها ذريعة لنشر الرذيلة”، وإن هي “لم تغادر ميدان وردك خلال أسبوع”. ولتردع كل من يتحدّاها توجّه رسالة بأن الحكومة عاجزة عن حماية أعوانها فتغتال والدها عبد الوصي غفاري، وتحاول تصفيتها هي بتفجير مدبّر، وتفاوض الولاياتُ المتحدة حاميتُها طالبانَ لانسحاب مشرّف من مستنقع ظلت عشرين سنة تتخبّط فيه، ولا تعرف كيف تخرج منه.

طموحات المرأة في عصر طالبان.. حلم يتبخر كالسراب

فجأة تكتشف ظريفة هول الحقيقة، فلم يكن عالمها غير أضغاث أحلام، فالحكومة التي “تبسط سلطانها على البلاد” بعد إزاحة طالبان إنما هي جسم من ورق، وجدار الصدّ الذي كانت تقيمه لمنع التفجيرات في مراكز المدن وفي الأسواق مجرد حاجز وهمي.

وليعمّق الفيلم هذه الفكرة يرافق مقاتلا من طالبان ينزل من قمم الجبال إلى ميدان وردك في سيارته، وكان يكفيه أن ينزع العمامة السوداء ويلبس القبعة الأفغانية ليعبر نقاط التفتيش ويتسلل إلى أعماق المدينة، فيتحرك بحرية ويفعل ما يشاء، أما في القرى المجاورة فلا ظل لوجود الدولة، فهناك تفرض طالبان نموذجها المجتمعي، وتقيم حكمها بين الناس بما ترى وتؤمن.

ظريفة هي أول امرأة تتولى عمادة مدينة أفغانية

أما صورة المرأة الفاعلة التي كنا نرى فقد كانت خادعة، وأفغانستان المنفتحة القادرة على احتضان حلم نسائها لم تكن إلا سرابا زال سريعا، مخلفا عالما منغلقا لا يرى أي مكان للمرأة وراء حجاب الجدران، أو البراقع الزرقاء التي تحجب الجسد بأكمله.

بعد 15 أغسطس/آب 2021 انهار ذلك الكائن الورقي، وانتهى المطاف بظريفة لاجئة ذليلة في ألمانيا، لا تملك إلا تلمس التراب كلما اشتدت غربتها، ولم يبق لها إلا أن تتابع مظاهرات النساء للمطالبة بحقوقهن في أفغانستان عبر شاشات التلفزيون، أو مواقع الإنترنت حزينة، لأنها ليست بينهن عاجزة عن المساعدة.

“مدينتنا تعج بالفقراء، إنها لا تستحق القصف”

منح سقوط الحكومة المدعومة أمريكيا الفيلم خيطا جديدا ظل يلاحقه لتصوير الحياة في أفغانستان، وقد تحول هدفه بفعل التغيرات الطارئة من تتبع سيرة امرأة شجاعة إلى عرض سيرة وطن منكوب، فنقل السائق إلى مركز المشهد.

هذا الرجل المتفاني الذي راهن على ظريفة في التخطيط لمستقبله ومعاش عائلته أضحى عاطلا عن العمل، ويساوره شك حول مستقبله الفردي ومستقبل الوطن، وقد استتب الأمر لطالبان من جديد، وعادت عقارب الساعة إلى ما قبل 11 سبتمبر/أيلول عام 2001، فكيف له أن يواجه قدره ولا حيلة له ليتخطى الحدود كما فعلت ظريفة وعائلتها؟ وهل سيصنّف عدوا عند طالبان وهو الذي كان هدفا لهم لما حاولوا تفجير سيارة ظريفة؟

ظريقة تعود إلى أفغانستان وتحاول مد العون للنساء الفقيرات

يجوب السائق الجبال ويتسلى بالغناء للريح “مدينتنا تعج بالفقراء، إنها لا تستحق القصف”، ففي أرجائها متسع لتأملاته لحياته ما بعد ظريفة. يتحدث عن الأهالي العالقين بين فكي حوت لا ملاذ لهم غير الإدمان القاتل، فهم إن انضموا إلى الحكومة تقتلهم طالبان، وإن انضموا إلى طالبان تقتلهم الحكومة أو أمريكا، يتساءل في ألم “أليس الفقراء بشرا؟”.

معسكر طالبان.. خيانة للذكرى ونكاية بحلفاء الغرب

يدرك السائق أخيرا أن الناس قد انضموا إلى طالبان نكايةً في ساسة البلاد من حلفاء أمريكا، فقد وصلتهم مساعدات كثيرة استحوذوا عليها جميعا، ولم يفعلوا شيئا لتحسين حياة الشعب المفقّر. فلمَ لا يفعل ما فعلوا؟

لا يعدم الحيلة، فيمتدح حرية الحركة في عهد طالبان، وتخلصه من نقاط التفتيش الكثيرة، ويختبر إمكانية التصالح مع السادة الجدد، فيلتقي مدبر الكمين الذي نصب لظريفة وكاد يعصف بحياته، ثم يتبادل معه تفاصيل العملية، فهل يقبل به المجاهدون أخيرا؟

ها هو ذا يصلي معهم ويتبادل معهم النكت والضحكات ولعن الحكومة السابقة، لكن قلبه لا يطمئن إلى ما تخفيه السرائر، ولا شك أنه لا يخون ذكرى ظريفة، فهي نفسها تولت في شهر مارس/آذار 2022 التنسيق مع طالبان قاتلة والدها وسارقة أحلامها، فسمحت لها بزيارة البلاد وبتأسيس جمعية تحمل اسمها لمساعدة النساء، شرط أن لا تمارس السياسة.

فك الحوت.. أحلام مهدورة بين الحداثة والاستبداد

ارتقت الأحداث التي شهدتها البلاد في أغسطس/آب 2015 بظريفة إلى مستوى الرمز، فقد أضحت مثالا للمرأة الأفغانية التي تقتحم عالم السياسة المغلق لتنتزع حقها في الاعتراف والمشاركة، لكنها تقع ضحية للصراع بين التيار الحداثي ومتشدّدي طالبان.

ظريفة أضحت أيقونة المرأة الأفغانية التي تقتحم عالم السياسة المغلق لتنتزع حقها في الاعتراف والمشاركة

وكما في الصراعات والحروب جميعا تكون المرأة الكائن الهش الذي يتحمل وزر الصّدام، فتؤسر أو تغتصب وتهان لإهانة الخصوم والحط من عزائمهم، وفي حالنا هذه تقصى من المشهد السياسي، أو تدفع إليه خدمة لأطراف الصراع لا دفاعا عن حقوقها هي، فالتيار المتشدّد يعول على صورتها وهي خاضعة مستكينة لفرض سلطانه وتشدّده، والتيار الحداثي يراهن على منحها دورا هامشيا ليقنع بمناصرته للحريات والديمقراطية وعمله ضد الديكتاتورية الدينية.

في الحالات جميعا تظل أداة تستخدم، وبعد استعمالها يتخلى عنها الجميع، فتجد نفسها لاجئة في ألمانيا حزينة محبطة تحصل على حرية ذليلة، وتُرغم على ترك أحلامها وأحلام فتيات وثقن بها.

لم تكن المرأة الأفغانية ضحية لتطرف طالبان فحسب، وإنما ضحية للحكومات المتعاقبة، ولطبقة سياسية متعفنة منشغلة بالفساد والصراع على الغنائم، لملء الجيوب على حساب أحلام البسطاء، فلم تكن قادرة على التجذر في المجتمع أو إقناع الأهالي بأنها تملك لهم قدرا مغايرا.

“لقد كان الصيف مريرا”.. خطة التخلص من المستنقع الأفغاني

كانت ظريفة والمرأة الأفغانية عامة بالقدر نفسه، فكانت ضحية للحسابات الانتخابية لدى الساسة الأمريكيين. وبالعودة إلى أثر “مذكرات هيلاري رودهام كلينتون: خيارات صعبة” ينكشف بجلاء حجم المأزق الأمريكي الذي وقعت فيه أمريكا بسبب تهوّر الرئيس “جورج بوش” الابن إثر أحداث سبتمبر/أيلول عام 2001.

تعرض “كلينتون” في سيرتها كواليس النقاشات بين الديمقراطيين منذ رئاسة “باراك أوباما” الأولى، وتكشف وقائع اجتماعه بكبار مساعديه لتحديد القرار الذي يجب اتخاذه منذ أيامه الأولى بالبيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2009. فـ”الصيف كان مريرا” على عبارتها والخسائر كانت فادحة.

الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بعد 20 عاما

ونتبيّن من سردها حالة اليأس التي باتت تعيشه الطبقة السياسية، بحيث غدا الجيش الأفغاني المتهالك أملها الوحيد في الخلاص. تقول: أملنا أن تكون الحكومة والجيش الأفغانيان في النهاية قويين بما يكفي ليتحملا المسؤولية، ويوفرا الأمن لبلديهما، ويصدّا التمرد ويبقياه بعيدا. عند هذا الحد ستنعدم الحاجة إلى المساعدة الأمريكية وتبدأ قواتنا بالعودة إلى الوطن.

حالما ارتقى “جو بايدن” نائب “أوباما” إلى سدة الحكم في يناير/كانون الثاني عام 2021 أحيا خطة الديمقراطيين، وسارع إلى التخلص من المستنقع الأفغاني دون ترتيبات تحفظ كرامة المرأة الأفغانية، أو اكتراث بمسؤوليات الولايات المتحدة التاريخية باعتبارها محتلة للبلاد.

ظريفة.. امرأة تمثل خيبة كل الشعوب

تخذل ظريفة وتظل تناجي الوطن بيأس، وتغامر لتعود إلى أفغانستان متنازلة عن ثأرها لدم والدها الذي اغتيل برصاص طالبان، فالنساء هناك يحتجن حضورها ومساعدتها لا عملها على الانتقام، وما أحلام ظريفة إلا صورة من أحلام الشعوب الساذجة التي صدّقت وعود السّاسة الجدد في العراق وليبيا وتونس واليمن، فكل الشعوب ظريفة، وكل طموحاتها أشبه بأضغاث أحلامها.


إعلان