“بعيدا عن النيل”.. موسيقى النهر الدافئة تعزف ألحان التعايش في أمريكا

كانت الموسيقى وستظل وسيلة للتقارب بين الشعوب ونبذ خلافاتها، وهي -بما تتوفر عليه من جماليات وقيم- قادرةٌ دوما على إيجاد المشتركات الإنسانية بينها.

هذه الفكرة المركزية تبناها “مشروع النيل” لموسيقى بلدان حوض النيل، وقد شاركت فيه 11 دولة أفريقية تتقاسم جغرافيا مياه النهر العظيم وترتوي شعوبها منه، وقد حوّلها على يد المخرج المصري الأمريكي شريف قشطة إلى فيلم وثائقي يحمل عنوان “بعيدا عن النيل” (Far from the Nile)، وخلال عرضه الدولي الأول في الدورة الماضية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي (2022) حصل على جائزة أفضل فيلم غير روائي ضمن مسابقة “آفاق السينما العربية”، محققا بذلك أول علامات نجاحه الفني لأهمية المسابقة وتخصصها.

أسوان.. مهد المهرجان ومنطلق الفكرة السينمائية

يروي المخرج في عدة مقابلات صحفية أن فكرة إنجاز فيلم عن المشروع الموسيقي انبثقت بعد زيارته لمدينة أسوان وتعرفه على المشروع والمشاركين فيه، ومن لحظتها قرر توثيق هذه التجربة التي وجد فيها ما يشجع على توسيع آفاقها عبر نقلها إلى الشاشة، وعدم الاكتفاء بما تقدمه من وصلات موسيقية ورقصات تعبر عن ثقافة شعوب حوض النيل فحسب، بل عبر توثيق تفاصيل الرحلة التي تقرر تنظيمها لبعض أعضاء الفرقة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل تقديم عدة حفلات موسيقية في مدن وولايات مختلفة، وذلك ضمن إطار “مشروع النيل” الموسيقي الذي كان يجد له صدى واسعا في كل مكان يحل فيه حَملَة أفكاره الإنسانية.

تدوم الرحلة حسب ما هو مخطط لها أكثر من 3 شهور، ويقدم خلالها المشاركون في المشروع عروضا موسيقية وغنائية، مصحوبة بإيقاعات شعبية راقصة تُعبر عن ثقافة كل شعوب حوض النيل، وتعكس المشتركات الثقافية فيما بينها، والأهم أيضا تشاركها نفس القيم الإنسانية مع بقية شعوب العالم.

خلق الثقة.. رحلة اكتشاف الذات في بلاد الآخر البعيد

يركز الوثائقي كثيرا على الرحلة نفسها، لأنه أراد من خلالها استكشاف علاقة المشاركين فيها ببعضهم من جهة، ومعرفة المكان الذي يحلون فيه من جهة أخرى.

اختيار الولايات المتحدة مكانا للرحلة نابع من ازدواجية ثقافة مخرجه، فقد ولد وعاش جزءا من طفولته فيها قبل انتقاله إلى مصر، ومن بعد دوام تنقله الدائم بين المكانين، وإنجازه عددا من الأفلام الوثائقية في مصر، من بين أبرزها “القيادة في القاهرة” (Cairo Drive) عام 2013، وهو ما أكسبه ثقافة وهوية مشتركة ربما هي التي دفعته لخوض تجربة توثيق الرحلة الفنية سينمائيا، وجعلها تتجاوز محليتها، في مسعى منه لإتاحة الفرصة أمام المشاركين فيها لاستكشاف ذواتهم، وأيضا لمعرفة الآخر البعيد عنهم، وقد تطلب ذلك التوجه أولا وقبل كل شيء خلق ثقة بينه وبين المشاركين في الرحلة.

يلاحظ المُشاهِد بسهولة الانسيابية التي يتحرك بها المشاركون أمام الكاميرا، والطريقة السهلة التي يعبرون بها عن أفكارهم، مما يشير إلى تخطي صانع الوثائقي أولى العقبات التي تعيق نجاح أي منجز سينمائي وثائقي له علاقة مباشرة بحياة أشخاص حقيقيين، فهو يريد أن يجعلهم يشعرون بأنهم غير مراقبين، وأن تحركاتهم أمام كاميرته هي تماما كما في الحياة؛ عفوية لا تمليها عليهم تعليماته.

فنان النيل.. ترسيخ الجميل والمشترك بين الشعوب

يركز الوثائقي على سبع شخصيات رئيسية مشاركة في الرحلة، وتظل عدسته ملازمة لهم، تلتقط ما يلفت انتباههم، وتحتفظ بما تسجله من مفارقات تحدث لهم ذات دلالات ومعاني.

من مدينة أسوان انطلقت فكرة مشروع النيل

لا يميل الوثائقي إلى إثارة الخلافات الثقافية ولا السياسية، وهذا نابع من طبيعة الفنانين أنفسهم الذين يميلون إلى تغلب المشترك والجميل بينهم وبين بقية الشعوب والثقافات. وهذا متأتٍّ من طبيعة ثقافتهم التي ارتوت بماء النيل العذب، فرغم الخلافات السياسية بين بعض دول الحوض -وهي ليست بقليلة- فإنهم كانوا يتعاملون فيما بينهم ببساطة وطيبة تبعد عنهم شبح الصراعات، وتعزز لُحمة شعوبها، مما يشير إلى رغبة في ترسيخ الجميل المشترك وتغليبه على القبيح الطارئ.

يظهر هذا حتى في رؤيتهم للآخر البعيد عن نهرهم، الذي ربما يقابلونه لأول مرة عن قرب، فقد وجدوا في الأمريكي الحريص على حضور حفلاتهم شخصا محبا لمعرفة ثقافة الآخر والتفاعل معها، ولاقوا ترحيبا وتفاعلا مباشرا مع ما يقدمونه من وصلات تعبر عن ثقافة شعوب حوض النيل، أينما حلوا وقدموا، وأينما أقاموا الحفلات في مناطق وأمكنة مختلفة الطبيعية والمستويات، مثل المسارح المحترفة، أو في المدارس أو القاعات التابعة لبلديات ومدن أمريكية.

رحابة الأمريكي.. إنسان منفتح يتحدى انغلاق الساسة

يترافق مع كل عرض للفرقة المشتركة حوارات مع الحضور، تكشف مضامينُها عن رغبة في معرفة القادم إليهم من الطرف الآخر من الكرة الأرضية. الملاحظ أنه بالرغم من تزامن الرحلة مع متغيرات سياسية كبيرة كانت تشهدها الولايات المتحدة خلال حكم الرئيس السابق “دونالد ترامب” الذي كرس سياسة منغلقة لا ترحب بالآخر ولا بثقافته؛ فإن الناس كانوا يتعاملون مع ضيوفهم بكرم وطيب، معاندين سياسته المتناقضة مع طموحاتهم للعيش في كوكب واحد يسوده السلام.

على المستوى الشخصي تبرز الخلافات الثقافية، لكنها لن تكون عائقا لمعرفة الآخر بشكل صحيح، ولا تثير عداوات أو كراهية، في مشاهد كثيرة يعبر بعض المشاركين عنها بأسلوب فكاهي ومرح غالبا، ويبرز بشكل خاص عند العازف والمغني المصري عادل ميخا، وهو الشخصية المرحة التي تُشيع جوا من المرح على المكان.

أحد فناني فريق مشروع النيل خلال تواجدها في أمريكا للتعرف على الثقافات الأخرى

كما يطغى حضور البقية على المشهد ليُشبعوه حيوية وجمالا، مثل حضور عازفة الطبل الكينية الشابة “كاسيفا موتوت”، والتعليقات اللاذعة للمغني الإريتري إبراهيم فانوس، وحضور السودانية الخفيفة الظل آسيا مدني، ومثلها الأثيوبية “سلامنيش زيميني”، إلى جانب مساهمات مشاركين مصريين لهم الدور الكبير في إنجاح المشروع والرحلة معا.

تناقضات البيئة والحياة.. ثقافة مختلفة في بلد مختلف

طيلة الرحلة يسمع المُشاهد من المشاركين تعليقات لاذعة عن برودة الجو وغلاء أسعار المواد الغذائية، والأطعمة التي لا يستسيغون طعهما رغم كبر حجومها، فيصفونها بأنها كبيرة وغالية، لكنها من دون طعم، على عكس تلك التي يأكلونها في بلدانهم، وقد ارتوت بماء النيل.

يجدون في هطول الثلوج في بعض المناطق التي يمرون بها أو يقيمون فيها صعوبة في فهم الكيفية التي يعيش بها الناس وسطها. سؤال يثيره التناقض الموجود بين طبيعة المكان الذي يزورونه، وبين القارة التي جاؤوا منها، فهي قارة لا يفارقها الدفء، ويلطف جوّها على مدار العام النهر العظيم الذي تنعكس عطاياه في أشعار سكان ضفافه، ويظهر جليا في أغانيهم التي حملوا قسما من دفئها إلى البلد الذي حلوا فيه ضيوفا على أهله.

لا يكتفي الوثائقي بعرض الجانب الإيجابي من المشهد الذي تتضمنه الرحلة الطويلة نسبيا، بل يلتفت إلى المجموعة نفسها، ويعاين الخلافات الناشئة بينها والطريقة التي تُعالج بها، فمخرج “بعيدا عن النيل” الذي يصنف ضمن فئة أفلام “سينما المؤلف”، لأن صانعه يقوم بتنفيذ أكثر المهمات الفنية بنفسه، فإلى جانب الإخراج فقد تولى شريف قشطة الكتابة وإدارة التصوير، بالإضافة إلى إكمال عملية المونتاج برفقة “بيير هاربر”.

ضحكات طوال الطريق رغم المشقة والتعب

ويعتبر منجزه بحق فيلم مونتاج بالدرجة الأولى، لأن جانبا مهما منه يقع داخل غرفة المونتاج، فمن بين أكثر من 400 ساعة تصوير أخذ صانعه حوالي 140 دقيقة فقط، ليصنع منها مادة سينمائية ممتعة وحيوية، لكنها لا تخلو من عرض لخلافات نابعة من طبيعة الشخصيات المشاركة فيه، إلى جانب أسباب أخرى لها صلة بالثقافات واختلافها من جهة، وبين الضغط المتولد بسبب كثرة العمل والرحلات الطويلة التي كانت تستنزف طاقة المشاركين، وتدفعهم أحيانا للتذمر منها من جهة أخرى.

روح التسامح.. ألحان النيل الدافئة تطفح بالحُب

يفرز الجانب الفني وعدم قدرة الفنانين على قراءة وكتابة النوتة الموسيقية حساسيات وصعوبات، ولأن عملهم جماعي ومعظمهم فنانون فطريون، فإننا نراهم يختلفون فيما بينهم حول بعض التفاصيل الخاصة بكل أغنية، أو مقطوعة موسيقية. صعوبة أداء بعضها يثير خلافات حول أسلوب أدائها، ويثير معه أحيانا غضبا وشعورا بالغبن، لكن اللافت في الأمر أن الطريقة التي تعالج بها المشاكل غالبا ما تكون هادئة، وتُعالج عبر الحوار الصريح، أو عبر تقديم مقترحات عملية بديلة تؤدي إلى إقناع الطرف المعترض.

الأمر نفسه يتكرر عند بروز خلافات شخصية متأتية من تعب الرحلات الطويلة وضغط برنامج العروض، أو حتى من خلال النقاشات حول مسائل اجتماعية وظواهر تخص بلدا أفريقيا يجد فيها الثاني غرابة.

روح التسامح هي الغالبة، وبالاستماع إلى كلمات الأغاني الجميلة التي يغنيها كل واحد منهم يفهم المرء من أين جاءت. ألحان أغنياتهم وكلماتها تطفح بالحب والرغبة في وصال الآخر رغم البعاد.

كلمات بسيطة تبطن معاني عميقة، وألحان تفيض عذوبة، وأصوات تصدح بنغمات ساحرة كتبها سكان النيل، النهر المقرون وجوده بالحياة نفسها، وبكل الآمال المبنية على عيشها بسعادة وسلام بفضل عطاياه.


إعلان