“إيراسموس في غزة”.. يوميات طالب إيطالي وقع في حب المدينة المحاصرة

بينما اختار زملاؤه مدنا إيطالية قريبة لفترة تدريبهم، فاجأ طالب الطب الإيطالي “ريكاردو” أصدقاءه وعائلته بأنه يريد أن يقضي فترة تدريبه في كلية الطب بمدينة غزة الفلسطينية، وهي المدينة التي توصف أحيانا بأنها أكبر سجن في العالم، نظرا للظروف الصعبة التي يعيشها أبناء المدينة، بسبب الحصار الإسرائيلي المفروض عليهم، والذي يقترب من الحبس الجماعي.

يرافق الفيلم التسجيلي “إيراسموس في غزة” (Erasmus in Gaza) للمخرجين “كيارا أفيساني” و”ماتيو ديلبو” رحلة الطالب الإيطالي إلى المدينة الفلسطينية التي أنهكتها الاعتداءات الإسرائيلية، ويسجل يومياته في المدينة التي سيقطعها اعتداء عسكري جديد سيكون الطالب الإيطالي شاهدا على بعض تفاصيله والدمار الذي سببه.

طريق الكاميرات والأمن.. رحلة الإيطالي الوحيد في غزة

لا يفرد الفيلم مقدمة طويلة للتعريف بالطالب الإيطالي، عوضا عن ذلك يقدمه في مونتاج سريع وهو بين أصدقائه في مدينة سيينا الإيطالية حيث يعيش، وسنرى والده في مشهد سريع وهو يتحدث مع ابنه الشاب عبر الحاسوب.

في الحقيقة لا يريد الفيلم أن يُعرّف بشخصيته الرئيسية بالطرق التقليدية الشائعة في السينما التسجيلية، بل يترك لمسارات الفيلم وأحداثه أن تكشف تدريجيا عن شخصية الشاب الذي اختار تجربة لا تعد شائعة أبدا، بل تحيط بها الأخطار والمجازفات، وستترك لا محالة آثارا على روح الشاب والطرق التي سيأخذها في المستقبل.

في مشهد يختزل العزلة التي اختارها “ريكاردو” في قراره الذهاب إلى غزة، يظهر الشاب الإيطالي وحيدا تماما في الطريق المدجج بالكاميرات والقوات الأمنية الإسرائيلية، وهو الطريق الذي يربط غزة بإسرائيل، ويعد الوحيد للمدينة الفلسطينية مع العالم الخارجي، عدا عن واجهتها البحرية، وهي مغلقة تماما من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي.

سيكون “ريكاردو” في المدينة الغربي الوحيد الذي لا يعمل في المنظمات الإنسانية الدولية، كما تخبره امرأة إيطالية تعمل في واحدة من المنظمات الدولية، وعندما ذكر لها أنه في المدينة الفلسطينية للتدريب في جامعتها، ضحكت قبل أن تقدم له مجموعة من النصائح.

كهرباء مقطوعة وقطاع مخنوق.. يوميات الحصار

لا مفر لزائر غزة من مواجهة الظروف الاستثنائية التي تعيش فيها المدينة منذ سنوات طويلة، فما إن يصل الشاب الإيطالي إلى الشقة التي سيقضي فيها أشهر تدريبه، سيجد أن الكهرباء مقطوعة في المبنى، وأنه سيرغم أن يعتاد على الظلمة وظروف أخرى، منها الحرب التي ستندلع قريبا.

ورغم أن الوضع العام يبدو قاسيا كثيرا في غزة، فإن الشاب الإيطالي سيجد كثيرا من الحب من أبناء المدينة، وسيكون أولهم محامي شاب اسمه آدم، وسيكون دليل “ريكاردو” في أسابيعه الأولى بالمدينة، ولاحقا سينضم له أطباء شباب سيساعدون بكل الحب زميلهم الإيطالي.

الإيطالي ريكاردو مع المحامي الفلسطيني آدم الذي أخبره عن الوضع العام في مدينة غزة

سنعرف عبر قصة المحامي الفلسطيني الشاب آدم، وقصص أطباء كلية الطب تفاصيل إنسانية كثيرة عن الوضع العام في المدينة الفلسطينية، وما تركته سنوات العنف والحصار على أبنائها. يتمنى المحامي الشاب أن يجرب الحياة خارج المدينة، وهي تبدو بعيدة للغاية، بل أقرب للمستحيل، فطلبه للتأشيرة السياحية كان يلقى الرفض باستمرار.

بدا آدم بدلالة اسمه الرمزية كأنما ينقل هموم جيل كامل من الفلسطينيين والفلسطينيات الذين سُد باب المستقبل في أوجهم، وكان عليهم أن يواجهوا الاعتداءات الإسرائيلية الواحد تلو الآخر، والنفق إلى العالم الخارجي بلا أي ضوء على الجهة الأخرى.

حرب 2019.. ذعر يقذف بالطبيب إلى الضفة الغربية

يتفاجأ “ريكاردو” من مستوى طلاب كلية الطب حين يزورها وسط احتفاء رسمي من إدارة الجامعة، فالطلاب الفلسطينيون حسب “ريكاردو” يملكون الكثير من الخبرة التطبيقية، على خلاف ما اعتاد عليه في جامعته الإيطالية.

تبدأ الاعتداءات الإسرائيلية في فترة تدريب طالب الطب الإيطالي، فالأستاذ الجامعي يشرح لطلابه آثار رصاص إسرائيلي على رئة شاب فلسطيني، والنماذج كثيرة للغاية من حالات طبية تستحق الدراسة الأكاديمية لجرحى وقتلى بنيران الجيش الإسرائيلي.

وعندما يبدأ العدوان الإسرائيلي (صور الفيلم في عام 2019) يشهد “ريكاردو” على بعض فصوله، ويعرف الخوف عندما يرغم مع الشباب الذي يتشارك معهم السكن على النزول إلى طابق تحت الأرض من البناية للاختباء هناك، بيد أن شدة الاعتداء الإسرائيلي ستجبر “ريكاردو” على التوجه إلى الضفة الغربية ريثما ينتهي العدوان الإسرائيلي.

من فندق الشباب في الضفة الغربية يراقب “ريكاردو” الصواريخ تنزل على المدينة التي بدأ بالتعلق بها وأجبر على تركها، إذ أنه لم يشأ أن يغادر المدينة وقت الحرب، وفعل ذلك في النهاية رضوخا لرغبة عائلته في إيطاليا والمنظمات الدولية التي كانت في غزة.

وفي مشاهد شديدة التأثير تسجل كاميرا الفيلم “ريكاردو” وهو يتابع قناة الجزيرة الإخبارية التي كانت تنقل الحرب، وكان يسأل بين الفينة والأخرى أحد الموجودين في صالة الفندق أن يترجم له من العربية ماذا كانت تنقل قناة الجزيرة.

يتحدث “ريكاردو” بحزن واضح للغاية لكاميرا الفيلم من فندقه في الضفة الغربية قائلا: أنا من المحظوظين الذين كان بإمكانهم مغادرة غزة، لكن ماذا عن أصدقائي الفلسطينيين الذي لا يملكون هذا الحظ؟

الإيطالي ريكاردو يعالج أحد المصابين خلال حرب غزة عام 2019

يعود “ريكاردو” إلى غزة حين توقف العدوان الإسرائيلي، وتبدو السعادة عليه كما لو أنه عاد إلى بلده الأصلي، ويقرر أن يبقى لفترة أطول من الفترة التي كان ينوي البقاء فيها لغرض التدريب في مستشفى بغزة.

“عاشق الكنافة”.. شهرة في الإعلام الإيطالي والشارع الفلسطيني

تتصاعد وتيرة الفيلم عندما يستبدل في ثلثه الأخير المشاهد الطويلة بمونتاج سريع للحياة اليومية للطالب الإيطالي، فقد بدا سعيدا وراضيا كثيرا عن حياته في المدينة الفلسطينية.

نشاهد في هذا المونتاج السريع انغماس “ريكاردو” في فتره تطبيقه في المستشفى الفلسطيني الذي ستخيم عليه آثار الاعتداء الإسرائيلي، إذ يوثق الفيلم عمليات إسعاف ومداواة فلسطينيين كثر، أخبارهم لا تصل إلى نشرات الأخبار أحيانا، فهي تهتم عادة بالقتلى فقط، رغم أن ما تتركه الإصابات من آثار تتواصل معهم حياتهم كلها.

وكما هي الحياة بالعادة، يتنقل الفيلم دوريا بين الفرح والقنوط، فنرى “ريكاردو” يتحول تدريجيا إلى واحد من مشاهير المدينة بسبب فيديوهات كان تُنشر عنه وهو يتكلم العربية، وينطق كلمات فلسطينية خاصة بلهجته الإيطالية المحببة.

وكانت قصة “ريكاردو” تحولت إلى حدث إعلامي في إيطاليا نفسها، وقبل أن يسمع بها الفلسطينيون، إذ سلّطت وسائل إعلام إيطالية الانتباه عليها لخصوصيتها، فمن النادر كثيرا أن يخاطر طالب بالتدريب في مدينة كانت محط اهتمام إعلامي في السابق بسبب التدمير الذي لحق بها في حروب واعتداءات سابقة.

ريكاردو في ضيافة إحدى العائلات الفلسطينية في غزة، بعد أن أتقن لهجة أهل المدينة

“أنت مشهور، الكل سمع بك”، يفاجئ شاب فلسطيني “ريكاردو” بالشارع، وأثناء توجهه مع صديق فلسطيني لأكل الكنافة الفلسطينية، حيث يقول “عندما أكلت الكنافة تغيرت حياتي”، يضحك “ريكاردو” عندما كان على وشك أن يبدأ بأكل صحن الكنافة في المطعم الذي اعتاد الذهاب إليه.

“عليّ أن أقاتل كل يوم في حياتي من أجل تحقيق أحلامي”

لا يدير “ريكاردو” ظهره للأسئلة الحساسة التي تُلِحّ عليه، فيدخل في مناقشة شائكة وصعبة مع أحد زملائه عندما يسأل عن الطالبات الفلسطينيات اللواتي لا يراهن في الحيز العام، كما يعتب كثيرا على زميل آخر له كان يحمل وجهات نظر مسبقة وغير حقيقية عن الأوروبيين.

كاد الطالب الإيطالي أن يقع في حب إحدى الفلسطينيات قابلها في حياته في المدينة، لكنها تتزوج من صديق مشترك لهم.

ستفتح الشابة الفلسطينية نافذة على حال الفلسطينيات في غزة، وتعكس بشخصيتها الفذة وثقافتها وطموحها جانبا غير معروف في النسيج الاجتماعي الفلسطيني، حيث تقول “عليّ أن أقاتل كل يوم في حياتي من أجل تحقيق أحلامي”، هذا ما تكشفه الشابة الفلسطينية التي تحاول أن تعمل منسقة لجهات إعلامية دولية في غزة، وهي الوظيفة التي ستنجح في النهاية في الحصول عليها.

أمثلة التاريخ.. بقعة ضوء بين الظلام والظلام

تدفع الظروف العامة الشاب الإيطالي إلى التأمل، فهو يرى أن التاريخ يصنع الأمثلة على أن الشعوب الحيّة لن تموت، يعود إلى تاريخ بلده وهو يحاول أن يستشرف مستقبل مدينة غزة المغلقة على نفسها، والتي تخلو تقريبا من الأجانب. ويقول: إيطاليا لم يكن يسكن فيها أي أجانب قبل مئة عام.

ريكاديو في غرفة العمليات في مستشفى في غزة خلال حرب عام 2019

يُعلّم “ريكاردو” أغنية إيطالية عن الثورة لأصدقائه الفلسطينيين، بينما يكرر في مناسبات مختلفة بأن بلده أصبح هذا المكان، ويقصد به المدينة الفلسطينية الصغيرة.

يعود “ريكاردو” إلى بلده من أجل التخرج من الجامعة، ويعرقل وباء كورونا خططه وخطط الملايين حول العالم بالاحتفاء بمناسبات خاصة وعامة، ولا نعلم بالتحديد ماذا يدور في عقله الآن، وأي الذكريات بقيت في باله من المدينة الفلسطينية، وإذا كان يملك خططا للعودة إليها أو متابعة علاقته التي بدت حميمية مع بعض الناس هناك.

يكاد الفيلم أن يبدأ بالظلام الذي واجه “ريكاردو” عندما وصل إلى شقته في غزة، وسينتهي أيضا بالظلام، في ذلك المشهد الذي صور الشخصية الرئيسية وهو يهرب إلى ملجأ البناية هربا من قصف إسرائيلي.

وما بين الظلام والظلام يمر الفيلم على نماذج معذبة من شباب فلسطينيين لا ينقصهم الذكاء أو الطموح، لكنهم محبوسون في مدينة اعتادت العنف والحرمان.


إعلان