“الهارب”.. قصة كارلوس غصن الفرنسي الناجح واللبناني الفاسد
يقال في الأمثال السائدة “الهروب نصف الشجاعة”، وهو قول لا يخلو من سخرية مضمرة تعرض بمن لا يقوى على المواجهة، فكيف يكون الحال حينما يتعلّق بحالة غريبة تخرج عن المعهود؟
ذلك ما يبسطه فيلم “الهارب.. الحالة الغريبة لكارلوس غصن” (Fugitive: The Curious Case of Carlos Ghosn) الذي عُرض عام 2022، وهو يعرض سيرة المدير التنفيذي لتحالف “رينو نيسان” كارلوس غصن ورحلته نحو المجد، قبل أن يجد نفسه عالقا في سجن انفرادي في اليابان، ثم محاصرا في لبنان بعد مغافلة الرقابة بطريقة استعراضية.
تُعرض مقدمة الفيلم على وقع الأخبار الحصرية التي تعلن اعتقال كارلوس غصن، ثم تبسط اللقطات الموالية رؤيتين؛ رؤية كارلوس التي تعرض ما لقيه من تعسف في اليابان واعتداء على حقوقه، وتصنف ما وقع له بالمؤامرة الدولية والاستهداف الشخصي، ضمن “نظام قضائي ينهي حياة المرء حالما يُعتقل”، ورؤية خصومه الذين يتهمونه بالدكتاتورية والفساد وخيانة المؤتمن. وبين صورة الضحية والجاني يوجه الفيلم آفاق انتظارنا نحو قصة مثيرة وحقائق خفية، ويتولى محاكمة لم يكتب لها أن تتم في المحاكم.
كارلوس غصن.. “قاتل التكاليف” وصيّاد الأرباح
يصر الفيلم على رسم صورة كارلوس غصن العبقري الذي يتحدى تقاليد إدارة الأعمال في المنظومة الاقتصادية الفرنسية، فقبل بروز نجمه كان يحكمها قانون الوراثة وتحتكرها العائلات الكبرى، أما كارلوس ابن اللاجئ اللبناني بالبرازيل فقد وصل إلى فرنسا سنة 1996 من طريق مخالفة تماما، فتجربته الناجحة في شركة الإطارات “ميشلان”، وعمله رئيسا تنفيذيا لها في أمريكا الجنوبية؛ مهدت له السبيل نحو هذا العالم.
هناك ترأس إدارة شركة متعددة الجنسيات، واستطاع في غضون سنتين فحسب أن ينقل الشركة من التعثّر والخسائر إلى جني الأرباح الكثيرة، وكانت عملاقة صناعة السيارات الفرنسي “رينو” تعيش أزمة مالية تهدّد كيانها، فدفعتها خسائرها إلى التخلي عن النهج المحافظ والتقاليد الموروثة لتحتضن عبقرية كارلوس. فقد كان المدير الصارم والحاسم والقائد الملهم، بحسب “لوي شويتزر” المدير التنفيذي السابق الذي انتدبه للمؤسسة.
وسريعا ما أسهم توقد ذهنه وقدرته على الإلمام بالتفاصيل الدقيقة للمؤسسة العملاقة في تحدي المنظومة التي كانت ترفضه باعتباره جسما غريبا، فأعاد هيكلة سياسات “رينو” جذريا، متخذا أصعب القرارات، بما في ذلك إغلاق مصنع بلجيكا، والتخلي عن ثلاث آلاف وظيفة دفعة واحدة.
وكان أثناء الأزمة صارما في تعامله مع الانتفاضة العمالية التي جدّت سنة 1997 نتيجة لقراراته التعسفية بحقهم، وباتت المجالس تلهج باسم “قاتل التكاليف”، بعد أن ارتقى بالمؤسسة من الخسارة والمديونية إلى تحقيق الأرباح الكبيرة.
“نيسان”.. سحر القيادي الملهم وحلم الرأسمالية الجشعة
أبهر عمل كارلوس غصن النموذجي شركة “نيسان” اليابانية التي كانت تواجه في العام 1999 صعوبات مالية شبيهة بتلك التي عاشتها “رينو”، مما أغراها لعقد شراكة كاملة مع المصنّع الفرنسي، وتولى غصن إدارتها معيدا استنساخ تجربته الفرنسية، وكانت قد بلغت مديونيتها عند وصوله 20 مليون دولار، وفرضت على اليابانيين الرافضين لقيادة الأجنبي لمؤسساتهم قبول واقع أشبه بخسارة الحرب، حسب ما يقول الفيلم.
سريعا ما أخذ الرجل المسكون بالأرقام، والذي لا يكترث بالتبعات الاجتماعية والإنسانية في ممارسة هوايته، وفي “قتل التكاليف”، فلم يتردد في تسريح من كان أداؤه عاديا، ولم يحتفظ إلا بالموهوبين من الموظفين، وفرض تخفيضا بـ14 % في عدد العمال، ورفع في الوقت نفسه من طاقة “نيسان” الإنتاجية.
وفي أشهر معدودة تحوّل العملاق الياباني من مصنّع مفلس إلى مؤسسة تهيمن على الأسواق العالمية، ليراكم الأرباح في أزمنة قياسية ويوزّعها على المساهمين. وغدا كارلوس غصن الفرنسي المنقذ والنجم الفرنسي اللامع في سماء اليابان، فتزاحم صوره صور نجوم الغناء والسينما في تصدّر أغلفة المجلات، وكان يكفي أن يزور مطعما ليرفع من مبيعاته.
باختصار أصبح غصن رمزا للمدير المثالي والقيادي الملهم الذي تحلم به الرأسمالية الجشعة.
“ارتكاب هفوة لا تغتفر”.. وحش الأرباح يلتهم عمال الشركة
جمع كارلوس غصن في العام 2006 بين إدارة “رينو” و”نيسان” معا رغم جسامة المسؤولية، ومرة أخرى قرر التخفيض في تكاليف المؤسسة الفرنسية بـ20% دفعة واحدة، وكان لهذا القرار القاسي ثمنٌ دفعه الموظفون.
تسرد أرملة أحد الموظفين تضحيات زوجها المغدور، فقد كان يعمل لمدة 12 ساعة في اليوم، ثم فُرض عليه -بعد التخفيض من عدد الموظفين- العملُ لنحو 15 ساعة، ونحو 100 ساعة أسبوعيا بدون راحة، وهذا ما أثّر عميقا على سلامته النفسية والصحية، فقد أخذ جسده ينحل، وكانت تنتابه نوبات بكاء حادة، ثم جعلته حالة الاستلاب التي يعيشها يفقد إحساسه بالفضاء وبموقعه منه.
وفي لحظة يأس أقدم على الانتحار، ولم تكن حالته معزولة، فقد حاول موظفان الانتحار كذلك بعد أن تخلصت منهما المؤسسة بالطرد رغم تضحياتهما الجسام، وظل أحدهما مُقعدا لا يتنقل إلا بواسطة كرسي متحرك، وأكدت العدالة مسؤولية مؤسسة “رينو” عن ما يعانيه العمال من اضطهاد، وأدانتها بـ”ارتكاب هفوة لا تغتفر”.
لم يخن كارلوس غصن موظفيه الخلّص فحسب، بل خدع من وضعوا فيه ثقتهم أيضا، بداية بـ”لوي شويتزر” الذي انتدبه لرينو ومهّد له طريق المجد، فجمع بين الإدارة التنفيذية لـ”نيسان” و”رينو”، على خلاف وعده له بأن يكون ذلك لفترة محدودة، وحصّن نفسه ضد كل مساءلة، وجمع في يده كل السلطات، مستفيدا من نجاحاته اللافتة والأرباح التي يوفرها للمساهمين.
لم يقدّر كارلوس أن السلطة المطلقة خطر مطلق، فقد اتهم على رؤوس الملأ بعض الموظفين ببيع أسرار الشركة للصينيين متأثرا بإشاعة كيدية، ولينجو من المساءلة بعد الفضيحة الإعلامية، وللحدّ من غضب “ساركوزي” الرئيس الفرنسي وقتها ضحّى بمساعده، لكن منعرج مسيرته بدأ في الانحدار فيما بعد.
هوس الشباب وبذخ العيشة.. جنون عظمة الدكتاتور
لا بد لمثل هذا النجاح الذي حققه كارلوس غصن من تغيير جوهري في شخصيته، فذلك الرجل الحريص المقتّر الذي يلبس القميص حتى يهترئ وفق مدبرة شؤونه اليابانية “كيكو ماتشيموتو”، والزاهد في طعامه؛ أصبح يشعر بحاجة إلى إعادة تأهيل نفسه كما يعيد تأهيل مؤسساته. فبحثا عن الشباب الخالد والمظهر الفاتن، يزرع شعرا للتخلص من الصلع، ويرفع من طوله سنتمترات بلباس أحذية خاصة، ويصحّح نظره بالليزر ليتخلص من النظارتين، ويحمل في معصمه ساعة يقدر ثمنها بين 150 ألف إلى 250 ألف دولار.
ولا يمكن أن نفهم هذا التحول بمعزل عن الخبر الذي تشترك فيه “ناتالي جيغوندات” الرئيسة السابقة لقسم التجديد في رينو نيسان و”كليمون لا كومب” الصحفي الاستقصائي، و”جون بول بادويل” المحامي. فقد حدث أن أخّر الاحتفال بذكرى التحالف بين “نيسان” و”رينو” ليناسب يوم عيد ميلاده الستين في قصر فرساي، بحجة أنه لم يستطع حجز موعد آخر في القصر يوافق المناسبة، ودعا للمناسبة الأصدقاء والمشاهير، ولم يتجاوز حضور المدراء وكبار الموظفين بالمؤسسة بمقدار الثلث من المدعوين، وفضلا عن ذلك فقد تجاهل “لوي شويتزر” المدير التنفيذي السابق الذي انتدبه لشركة رينو، وكانت تكلفة عيد الميلاد المقنع 630 ألف يورو دفعت من حساب المؤسستين.
إذن لا يتعلق الأمر بأزمة منتصف العمر كما يرى صناع الفيلم، وإنما بتغير جوهري في تطلعات كارلوس، ومن سوء حظه أن دخل قانون ياباني جديد حيّز التنفيذ يفرض كشف الجرايات الكبيرة، ليصدم الرأي العام بأن كارلوس قد خص نفسه بمرتب سنوي مكوكي قدره 8 ملايين يورو من “نيسان” وحدها، فضلا عن 1.2 مليون يورو من “رينو”.
ولنفهم ضخامة المبلغ يقارنه الفيلم بما يتقاضاه المدير التنفيذي لـ”تويوتا” على سبيل المثال، فيجده مضاعفا بما يزيد عن السبع مرات، وهذا ما صرف الأنظار إلى حياة البذخ التي بات يعيشها كالطائرة الخاصة، واشتراء العقارات واليخوت، والإنفاق الكبير على الحفلات التي بات يقيمها، وتحويل الأموال إلى الحسابات الخاصة، ليوقن الجميع أن الرجل قد دخل طور جنون العظمة التي ينتهي إليها كل دكتاتور، بعد أن يمسك بكل خيوط السلطة بين يديه دون رقيب.
صندوق الموسيقى.. خطة متناغمة للهرب من فك اليابان المحكم
مثّل اعتقال غصن حدثا سياسيا واقتصاديا كبيرا، ووضع صورة فرنسا في الميزان، وبعد ظهور أصوات ضاغطة على اليابان لمحاكمة “الفرنسي” في فرنسا بحجة ضمان محاكمة عادلة وفقا للمعايير الأوروبية؛ تراجعت السلطات الفرنسية عن دعمه، بعد أن أدركت دقة الادعاء الياباني.
تُرك كارلوس غصن اللبناني لقدره، ليواجه قضاء قاسيا يحدّد العقوبة أولا، ثم يعمل على تبريرها عبر المحاكمة وفق محاميه، ويعوّل على عدالة الرهائن، فيهدده بملاحقة عائلته، ويمنعه من التواصل مع زوجته أو الالتقاء بها باعتبارها طرفا في القضية.
غير أن إطلاق السراح الشرطي الذي حصل عليه بعد نحو سنة من السجن الانفرادي مثّل فرصة لتدبير أمر هروبه، وكان العقل المدبر لهذه المهمة المستحيلة هو “مايكل تايلور”، وهو عميل قوات خاصة أمريكية سابق.
يشرح كارلوس خطة الهروب بشيء من الفلسفة، فمن عوامل قوة الشعب الياباني أنه منظم جدا، لكن عقل غصن العبقري حوّل نقطة القوة تلك إلى ضعف يستعمله في خطته للهروب، فقد كانت كل الترتيبات في المطارات مضبوطة مسبقا، وبعد مراقبة فريقه لعمل الأجهزة الديوانية حدد الثغرات، ليُنقل مع البضائع ضمن صندوق آلة موسيقية دون الخضوع للفحص بالأشعة السينية، ويُؤخذ بواسطة طائرة خاصة إلى لبنان عبر تركيا، ويتحدى دولة اليابان بأسرها، وكانت تلك آخر عروضه العبقرية وأكثرها إدهاشا.
“الطفل أبو الرجل”.. عقدة الطفولة تعيد إنتاج صورة الأب
يحاول الفيلم أن يفهم مسار حياة كارلوس غصن المتشعب، ويجد ضالته في علم النفس التحليلي، فيخلص إلى “الطفل أبو الرجل” وفق التصور الفرويدي، فكارلوس كان يحاول الانتقام من ماضيه البائس، فالطفل الذي يسكنه ظل يبحث عن الاعتراف بتميّزه وعن إبهار العالم، فقد هاجر إلى البرازيل مع أب لبناني متهم بقتل القس بولس مسعد، بعد أن كان يستغله لتهريب الألماس من أفريقيا، ثم حكم عليه بالإعدام، فهرب إلى البرازيل، مستغلا فوضى الحرب الأهلية.
كان كل نجاح يحقّقه حجة له بأن لا يؤخذ بجريرة والده، لكن البعد المأساوي الذي لم ينتبه إليه الفيلم في مسيرة كارلوس أنه كان يعيد إنتاج صورة والده، وهو يعمل على دفع التهمة عنه، بداية من تهريب الأموال والاستيلاء على العقارات، إلى الفرار من العدالة والعيش في المنفى القسري.
يتبين المتفرج من سيرة كارلوس غصن عقلا عبقريا، بقدر ما يدرك من ورائها كيف يدار الصراع داخل الأقطاب الصناعية أو بينها في نظام رأسمالي متوحش، لا قيمة تحكمه غير الربح الأقصى وتكديس أكبر قدر من الأموال.
“الفرنسي الناجح واللبناني الفاسد”.. فيلم يميل إلى الإدانة
رغم قيمة العمل الجبار الذي بُذل لجمع المعلومات وتصنيفها، فإن الفيلم وقع -من وجهة نظرنا- في خطأين جسيمين، فعلى المستوى الجمالي ظل الخط الفاصل بين الفيلم الوثائقي والعمل الاستقصائي واهيا جدا رغم التباعد الجوهري بينهما، فالأول يحلّل الظواهر وفق رؤية فكرية وجمالية، والثاني يعمل على كشف الخفي وتعرية المحجوب.
أما في عمل المخرج “لوكي بلاكستاد” فظلت الوظيفتان تسيران جنبا إلى جنب، ولعل استقاء أغلب المعلومات من “كليمون لا كومب” الصحفي الاستقصائي أبرز دليل على هذه الهوية المرتبكة.
وعلى المستوى المضموني، فقد كان الفيلم أميل إلى إدانة كارلوس غصن، فيقدر أن هروبه دليل على أنه قد ارتكب ما هو مخالف للقانون، فلماذا يهرب في صندوق أسود بائس إن كان بريئا؟
تقول مساعدة كارلوس الفرنسية “ناتالي جيغوندات” بشيء من التشفي “لقد بات عالقا الآن إلى الأبد، وخسر كل شيء، لقد كشف رياءه”. فيجعل من نفسه “محكمة شعبية وإعلامية” تدين المتهم، وتصدر الأحكام بعيدا عن قوانين التقاضي العادل. ويكشف عن مشهد ثقافي وإعلامي غربي منافق يجد فيه “الفرنسي الناجح” حين كان في ذروة المجد، و”اللبناني الفاسد” حين زلت به القدم.