“بلاد جبال الألب”.. ألوان الجمال والقسوة في القرى المعلقة بين السفوح

رغم أن غالبية أفلام الرحلة والطبيعة والحياة البرية تنطوي على قدر كبير من المفاجآت والجمال الآسر الذي تكتشفه العين لأول مرة، فإن فيلم “بلاد جبال الألب” (Alpenland) للمخرج النمساوي “روبرت شابوس” يتجاوز المناظر الخلابة المُدهشة، ليوثق لنا التنوع الثقافي لـ”بلاد جبال الألب” التي أطلقَ عليها المُخرج اسم (Alpenland)، بوصفها وحدة متماسكة تضم أجزاء من ثمانية بلدان أوروبية، وهي ألمانيا والنمسا وسويسرا وفرنسا وإيطاليا وسلوفينيا وموناكو وليختنشتاين.

لكن اهتمام المخرج انصبّ على البلدان الخمسة الأولى الكبيرة التي تغطي محاور الفيلم الستة المدروسة بعناية شديدة، من بينها زيارة لمزارعي الجبال في النمسا، والتعرّف على مصنع الأنصال والسكاكين والمقصّات في قرية بريمانا في إيطاليا، ومنتجعات التزلج في ماريبيل في فرنسا، وغيرها من المدن الألمانية والسويسرية ذات العلاقة ببلاد جبال الألب التي يبلغ طولها 1200كم، وتقدر مساحتها بنحو 190 ألف كيلومتر مربع.

ورغم اختلاف لغات ولهجات الثلاثة عشر مليونا وطرق عيشهم، فإنهم متفقون تماما بأن هذا المكان الساحر يحمل بذرة خرابه التي تتمثل بعنصرين أساسيين، وهما السياحة وتغيّر المناخ، فالأول يُدمر الطبيعة ويُضاعف الكثافة السكانية، ويُحدث الاختناقات المرورية، والثاني يساهم في ارتفاع درجات الحرارة وذوبان الأنهار الجليدية وشُح المياه.

أما شخصيات الفيلم الأربع عشرة فقد ظلت عالقة بين هذين القطبين المتنافرين اللذين يتوزعان بين الدفاع عن البيئة، وتبرير الجانب الاقتصادي الذي يحتاج إلى التوسع الصناعي والعمراني، ويستجيب للمتطلبات السياحية التي تترك أثرا سلبيا على جمال الطبيعة شئنا أم أبينا.

“جوزيف”.. مزارع جبلي ورث المهنة وورّثها

تبدو اللمسة الاحترافية للمخرج “روبرت شابوس” في كتابة السيناريو والمونتاج، إضافة إلى رؤيته الإخراجية التي تنفذ الهيكل المعماري لما يكتبه بدراية وعِلم بالتفاصيل الصغيرة، فقصة الشخصيات الثلاث الأولى سيتركها مفتوحة ليُنهي بها فيلمه نهاية دقيقة، ذلك لأن جملته السردية الافتتاحية لها علاقة وطيدة بالجملة الختامية للفيلم.

منها تبدأ القصة السينمائية وإليها تنتهي، حيث يتضمن هذا القسم ثلاث شخصيات تعيش في قرية مولتال النمساوية، وهم “جوزيف باخر” وأخته “ماريا” وابنته “جوليا”، ولكل منهم قصته، أما “جوزيف” فهو مزارع جبلي ورث المهنة عن أبيه، ويريد أن ينقلها إلى ابنته الشابة “جوليا” من دون أن يُجبرها على ذلك، وقد اصطحبها قبل يوم من العمل في جولة استطلاعية، وأراها المنحدرات والطرق الخطرة، لكن في اليوم الثاني سقطت بقرة صغيرة من حافة الطريق، بعد أن دفعتها بقرة كبيرة خلفها، الأمر الذي سبّب لها صدمة مروّعة لن تنساها بسهولة.

المزارع جوزيف باخر وابنته جوليانا التي صُدمت بسقوط عجل صغير إلى الوادي السحيق

خلاصة ما يخلص إليه “جوزيف” هو أنه لا يستطيع الاستمرار بمهنة الرعي بسبب كِبر سنّه، ولم يبق من عمره سوى سنوات قليلة، كما أنه لا ينصح الشباب بهذه المهنة لأنها خطرة، في مثل هذه المناطق المرتفعة جدا، ورغم أن العمل هنا أخطر من الوادي، فإنه لا يزال يفضّل أن يكون مُزارعا جبليا، على أن يكون مزارعا في الوادي.

تُوجز أخته “ماريا” قصة حياتها بقولها إنها أنهت المدرسة، وعملت في مَلبنة في عامها السادس عشر، وكانت وحيدة في المَرعى الجبلي مع سبع بقرات، وحينما تفاقمت وحدتها عملت طباخة في موقع بناء لمدة خمس سنوات ثم تزوجت، لكنها انفصلت عن شريك حياتها بعد خمس سنوات من الزواج، وعادت إلى بيت الأسرة بطلب من والدها الذي يحتاج إلى المساعدة في أشغال المزرعة.

تختصر “ماريا” شجاعة المزارِعة الجبلية حينما تقول: كانت أمي تلتقط البطاطا في ذلك اليوم، وفي المساء أنجبتني.

“نيكول”.. دعاية وكيلة العقارات المطلة على جبال الألب

تدور أحداث القسم الثاني في بلدة غارميش- بارتنكيرشن الألمانية التي تقع بالقرب من الحدود النمساوية.

يتوزع هذا القسم على شخصيتين رئيسيتين، وهما وكيلة العقارات “نيكول مُوجر”، والحرّاج “أكسل دورينغ”، أما “نيكول” فتؤكد بأن الناس نظرا للوضع الاقتصادي الراهن قد أصبحوا أكثر تشككا في سوق الأوراق المالية، لذلك فهم يفضلون الاستثمار في العقارات، أو “الذهب الملموس” الذي يُعدّ الخيار الأكثر أمنا.

نلتقي في هذا القسم بزبونة تريد شراء شقة مطلة على جبال الألب، بينما تقوم “نيكول” بالترويج لبضاعتها بطريقة ذكية ومُغرية تنعكس على ثمن الشقة، إذ يصل سعر المربع الواحد في هذه البلدة إلى 10 آلاف يورو من أجل الحصول على إطلالة على جبال الألب المغطاة بالثلوج.

“أكسل”.. حنين إلى الماضي وشعور بالاكتظاظ في البلدة العذراء

الشخص الثاني في بلدة غارميش- بارتنكيرشن الألمانية هو الحرّاج المتقاعد “أكسل دورينغ”، ومع أن سكان هذه البلدة لا يزيد عن 27 ألف نسمة، فإنه يعتبرها مكتظة جدا، وهو بطبيعته يفضّل العيش في مناطق قليلة السكان، ومع ذلك فإنه يرضخ للأمر الواقع لأن جبال الألب جذابة وساحرة، ولا يستطيع مقاومة إغراءاتها، فما تجده في الألب لا يمكن أن تجده في أي مكان آخر.

ماريا باخر التي ولدت في هذه القرية بينما كانت الأم تلتقط البطاطا صباحًا وأنجبتها في المساء

لقد تغيّر هذا المكان كثيرا، لكن الناس ينسون بسرعة ما اعتادوا عليه، وبما أنه مولع بالتقاط الصور الفوتوغرافية، ويقارن بين القديم والجديد منها، فإنه يعرف بسهولة حجم التغييرات التي طرأت على هذه البلدة بالتحديد، فقد حفروا على واحدة من تلالها خزان ماء كبيرا، حتى ينتجوا بواسطته مزيدا من الثلج الصناعي الذي يُقذَف بواسطة مدافع ثلجية تكتظ بها هذه البلدة السياحية، بعد أن أصبحت مركزا للرياضات الشتوية منذ العام 1936، ورغم جمالها الآسر فإن البنايات الحديثة ومواقف السيارات بدأت تلتهم الحدائق والأرض التي لم يمسسها أحد من قبل. وحتى ملعب الغولف كان يُوصف في السابق بأنه “واحة من الهدوء”، لكنه الآن فقدَ سكينته ووداعتهُ.

يروي “أكسل” بأنه جاء إلى هذه المنطقة في السبعينيات، وكان متوسط درجة الحرارة 6.8 درجات، بينما ارتفع اليوم إلى 8.2 درجات. إنّ عملية حفر الخزانات المائية لوحدها تستهلك يوميا ألفي لتر من الوقود، الأمر الذي يسبب انبعاثات كثيرة تلّوث هذه الطبيعة العذراء.

بريمانا.. تعلق عميق بالقرية المعلقة على سفح الجبل

يتضمن القسم الثالث زيارة المخرج لقرية بريمانا الإيطالية ولقاءه بثلاث شخصيات تمتهن صناعة السكاكين والمقصات، وهي حرفة تقليدية عميقة الجذور في هذه القرية الجميلة التي لا يكاد يصل تعدادها إلى ثلاثة آلاف نسمة، وهي قرية معلّقة على سفح جبل من جبال الألب ضمن الحدود الإيطالية. ورغم أن ظروف التصنيع والإنتاج صعبة جدا، فإنهم متشبثون بهذه الصناعة التقليدية التي يعتبرونها جزءا من هُويتهم المحلية.

ينتقل بنا الراوي إلى الحديث عن المحل الصغير الذي افتتحه هو وإخوته سنة 1964، وسرعان ما انتشرت المحلات والمشاغل الصغيرة مثل الفطر، حتى بلغ عددها 130 محلا، ولم يبقَ منها الآن سوى 60 محلا صغيرا.

قرية بريمانا الإيطالية المختصة بصناعة الأنصال والسكاكين الشهيرة

يتحدث “فاوتسو ريتزي” عن ارتياحه لأن أباه وعمّه قد أسسا هذه الشركة الصغيرة لصناعة الأنصال والمقصّات في بريمانا، وهي القرية التي يُحبها ويرتبط معها بوشائج حميمية، ويرى بأن هذا الارتباط الحميم بين الأسرة والعمل هو سبب بقاء الكثير منهم في هذه القرية الصغيرة التي تحمل معاني كثيرة قد لا يفهمها الآخرون، فهي المكان الذي وُلِد وترعرع فيه، والحيّز الذي كوّن فيه أصدقاءه ومحبيه، والبقعة التي احتضنت مدرسته وعمله وقصة حبه الأولى. وهي كل شيء بالنسبة إليه، فلا غرابة أن يقاتل حتى النهاية ليتمكن من البقاء في هذا المكان المحتشد بالذكريات الجميلة.

يركز صانع السكاكين “ديفيد ريتزي” على التكافل الاجتماعي في هذه القرية الصغيرة، فرغم أجواء المنافسة التي يمكن أن توجد في كل مكان، فإن هناك إحساسا بالتضامن بين أصحاب المشاغل الصغيرة، وذلك ما يُذلل كل المشكلات التقنية التي يمكن أن يُصادفوها في عملهم، ففي هذه القرية الصغيرة يوجد الحدّاد والميكانيكي والكهربائي والخبير في تقنية المعلومات، وهذا الأمر يصعب أن تجده في ميلانو.

أمّا المتحدث الثالث فهو صانع السكاكين “بيترو ريتزي” الذي اختصر أهمية قريته بالقول “لولا هذه المهن التقليدية المتوفرة في بريمانا، لما وُجد أحد يعيش في هذه القرية النائية والمعلّقة على سفح الجبل”.

ماريبيل.. طبيب يوشك على التقاعد والرحيل في مدينة معزولة

يرصد المُخرج في القسم الرابع من فيلمه مدينة ماريبيل الفرنسية، ويسلط فيها الضوء على شخصيتين فقط، وهما مساعدة الطبيب “بيرناديت فابر” التي كانت تفحص مريضا طاعنا في السن ويعاني من صعوبة في التنفّس، وتنصحه بالذهاب إلى طبيب العائلة الذي يعرف تاريخه الطبي منذ الطفولة وحتى مرحلة النضوج. لكن “بيرناديت” تتخوّف من أن هذه المتابعة لن تتوفر في المستقبل في ماريبيل، لأن الطبيب قرّر أن يغادر هذه المدينة بعد بلوغه سن التقاعد، وأن العيادة الطبية ستُغلق وتتحول إلى محل أو أي شيء آخر.

راعية الماعز تقضي جل وقتها في حضن الطبيعة وتستمتع بجمالها الآسر

أما المتحدث الآخر الذي التقى به المُخرج فهو الطبيب “تييري فابر” الذي بدأ يشكو من مشاكل المهنة ومتاعبها خلال أيام العُطل وموسم السياحة، حيث يكثر عدد المراجعين المرضى، لكن ما إن ينتهي الموسم السياحي حتى يتوقف عمله تقريبا، وهذا لا يعني انتفاء الحاجة إلى طبيب أو عيادة طبية، فالناس الذين يعيشون على مدار السنة -مثل العمّال وباعة التجزئة والمتقاعدين- يظلون بحاجة ماسّة إلى طبيب أو معاونين طبّيين على الأقل.

يصرّح الدكتور “تييري” بأنه سوف يتقاعد في يوليو/حزيران 2022، وعلى بلدية المدينة أن تتنبه إلى هذه المشكلة، فكل مجموعة من الناس تحتاج إلى خدمات طبية. يلاحظ الطبيب بأن هناك فندقين يختفيان كل سنة، وفي السنة الأخيرة اختفت خمسة فنادق دفعة واحدة، وهذا يعني تسريح العمّال الموسميين وفقدانهم لوظائفهم، ويؤثر على مبيعات المجمع التجاري، ويقلل من عدد المتزلجين.

ثم يلفت الانتباه إلى البيئة التي تتدهور كل سنة بسبب تغيير المناخ، وارتفاع درجات الحرارة، فالتزلج أصبح ممكنا خلال شهرين فقط بدلا من أربعة، فكيف يعيش الطبيب وغيره إذا كان لديه عمل لمدة شهرين فقط، بينما يظل عاطلا عن العمل خلال الأشهر العشرة الباقية من السنة؟

“مارتا فوساتي”.. راعية الغنم بين الضباب والذئاب

يعود المخرج في القسم الخامس إلى إيطاليا، ويتجه صوب مصنع “سانت آنا” لتعبئة المياه المعدنية الذي بدأ منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وبدأ يُصدِّرها إلى عموم المدن الإيطالية، وإلى أماكن أخرى كثيرة حول العالم، غير أن نقل هذه المياه بشاحنات كبيرة جدا -إضافة إلى نقل بضائع أخرى- قد ترك تأثيرا سلبيا على حركة المواصلات الاعتيادية في وادي ستورا، وسبّب تلوثا للبيئة النظيفة التي تحاول أن تحافظ على نقائها الأول.

تتحدث المزارعة “مارتا فوساتي” التي تسكن في بيدمونت عن طبيعة عملها وتقول: ما أحبه في عملي هو أننا نشارك في كل خطوة من العملية، منذ ولادة النعجة حتى تبدأ في دَرّ الحليب. وأنا فخورة بكوني منتجة.

شقق سكنية غالية الثمن بسبب إطلالتها على مشاهد من جبال الألب

لم تكن “مارتا” راعية أو مزارعة فقط، بل قامت بعدد من الأعمال، فقد كانت بنّاءة وعاملة في مصنع، ثم راعية لأغنامها، وهي تفضِّل راتبا بسيطا تحصل عليه من أغنامها على راتب جيد تحصل عليه من المصنع.

تتوسع في الحديث عن أغنامها التي يبلغ عددها 800 رأس لم تفقد منها نعجة واحدة، لكن هذا لا يعني أنها لم تتعرّض للخسارة طوال فصول السنة، ففي فصل الشتاء خسرت في ليلة واحدة 42 رأسا حينما هاجمتها الذئاب في جو ضبابي، فالذئاب ذكية جدا، بل إنها أكثر ذكاء من الرُعاة النابهين.

تؤكد “مارتا” أنها رأت كثيرا من الناس في سنّها يحاولون كسب عيشهم في هذه المضارب النائية، لكنهم غادروا بعد سنوات، لأن الحياة في جبال الألب صعبة وقاسية، ولا يستطيع الجميع تحمّل فظاظتها.

“الحياة ليست نقودا”.. فلسفة تنير حياة الراعي القنوع

يشعر المزارع “أدريانو فوساتي” بالرضا الكبير حين يحصل على ثمن الحليب شهريا، وعلى الرغم من قِلّة هذا المبلغ فإنه يشعر بالقناعة التامة، فالحياة -من وجهة نظره- ليست نقودا كلها، وإنما هي قناعة أيضا، كما يعتقد أن الحياة قصيرة، وأنها ليست أكثر من ممر. بكلمات أخرى إنه متصالح مع نفسه ومع العالم.

عندما كان “أدريانو” صبيا، وكان يقطع الطريق إلى سامبوكو، لم يكن يرى شجيرة واحدة أو علّيقة منفردة على الجبل، لأن الجميع ساهموا بإزالة الخضرة، لكن الطبيعة الآن تستعيد حيويتها، فهناك شجيرات في كل مكان، والمنطقة التي اعتاد أن يرعى فيها أغنامه قبل عشر سنوات أصبحت الآن مليئة بالعلّيق والشجيرات.

ربما أخطأ البعض حينما غادروا هذا المكان، لأنهم لم يستطيعوا أن يعيشوا هنا، أو يكسبوا القوت الذي يسدّ رمقهم.

“لولا الأجانب لما أصبحت زيرمات على ما هي عليه الآن”

يأخذنا المخرج في القسم السادس من الفيلم إلى مدينة زيرمات السويسرية التي تقع على الحدود مع إيطاليا، بالقرب من جبل ماترهورن الذي يبلغ ارتفاعه 4478 مترا، وهو أعلى قمة في جبال الألب.

وعلى الرغم من صعوبة الهجرة، فإنها أحيانا تكون الفرصة الوحيدة لحياة أفضل، وربما يكون “ريكاردو فيريرا” البرتغالي المولود في بونت دو ليما هو خير نموذج للإنسان المهاجر الذي غادر بلده الأم، بحثا عن الظروف المثلى التي يحسِّن فيها دخله الاقتصادي.

قرية ريزمات التي يطل عليها جبل ماترهورن الذ يبلع ارتفاعة أكثر من 14 ألف قدم

لقد وصل إلى زيرمات قبل 32 سنة، وبدأ العمل في أماكن مختلفة، قبل أن يجد عملا جديدا في شركة التلفريك التي أُسست قبل ثلاثين سنة. لقد تغيّرت زيرمات كثيرا، فحينما جاء أول مرة كان عدد البرتغاليين 300 مواطن، أما الآن فقد أصبح عددهم 2000 مواطن، وهو موقن تماما بأن زيرمات تحتاج إلى البرتغاليين لأنهم عمّال ممتازون، وقلوبهم مفتوحة وصدورهم رحبة، ولولا الأجانب لما أصبحت زيرمات على ما هي عليه الآن.

يرى “ريكاردو” أنه لن يبقى في زيرمات حتى الممات، ولا بد أن يعود إلى بلده ذات يوم، لكنه بالمقابل لا يفضّل أن يترك أولاده في ديار الغربة، فالأطفال ولدوا في زيرمات وكوّنوا حياتهم الخاصة، ولهم كلمتهم الفصل في البقاء أو العودة إلى الوطن.

يعترف “ريكاردو” بأن الجبل الجليدي قد تراجع بنسبة 700 متر، وقد شاهدنا بعض العمال وهم يغطون الأنهر الجليدية بأقمشة بيضاء ثقيلة للحفاظ عليها من الذوبان الناتج عن ارتفاع درجات الحرارة.

ومن الجدير بالذكر أنّ بلدية زيرمات لا تسمح لمواطنيها وللسائحين باستعمال المركبات التي تعمل على مشتقات البترول خوفًا من التلوث البيئي، لكنها لا تمانع من استعمال وسائل النقل التي تعمل بالكهرباء، لكي تحافظ على نظافة البيئة ونقائها.

“سالومي”.. امرأة مكافحة تصنع لأبنائها حلم المستقبل

الشخصية البرتغالية الثانية هي “سالومي أزيفيدو” التي تعمل الآن في مخبز، بعد أن عملت في مهن متعددة، وتقول إن البرتغاليين يعملون في إدارة المدينة ومحلات البقالة والمكاتب، وفي شركة التلفريك الجبلية، وفي المخابز، وإذا اختفى هذا العدد الكبير فجأة، فسوف يؤثر ذلك على حياة القرية.

عملت “سالومي” في أكثر من مطعم، وتعلمت اللغة الألمانية، ثم عملت بائعة في أحد المحلات قبل أن تعود للعمل في المخبر ثانية، وهي تقيم في قرية تاش، لأن الإيجار فيها أقل بكثير من زيرمات التي لا تستطيع أن تؤجر فيها، كما يعمل زوجها في موقع بناء، لكن حلمها لا يكمن في هذه المهن المتواضعة، وهي تريد لأبنائها أن يقولوا ذات يوم “هذه هي مهنتنا التي نحلم بها”.

إن جلّ ما تطمح إليه “سالومي” هو أن يحصل أطفالها على تعليم جيد، وأن يكونوا سعداء في حياتهم.

شيء من السحر والجمال في بيئة متطرفة.. خلاصة المخرج

يعود المخرج “روبرت شابوس” إلى شخصياته الثلاث الأولى ليطوي صفحة فيلمه الوثائقي الآسر، ويصل بنا إلى النتائج التي استخلصها من هذه الرحلات الست في خمسة بلدان، ومفادها أنّ العملَ في المزارع الجبلية أكثرُ خطورة من العمل في مزارع الوديان، وأن المناخَ في المناطق المرتفعة متطرفٌ جدا، وأن قيادة الآلات الزراعية تنطوي على أخطار جمّة، رغم اعتياده على العمل في السفوح المنحدرة.

نقل الألواح الحشبية من أعالي الجبال إلى الطرق المبلطة في أعماق الوديان

ورغم أنه لم يرَ البحر في حياته، ولم يركب طائرة لحد الآن، فهو مكتفٍ بالمناظر الطبيعية الساحرة التي يعيش بين جنباتها. تعيد “ماريا” شقيقة “روبرت” جملتها الأثيرة التي تقول “لقد وُلدتُ هنا. أمي كانت تلتقط البطاطا في ذلك اليوم، وفي المساء أنجبتني”، في إشارة إلى جَلَد المرأة القروية وصلابتها.

أمّا الابنة “جوليا أورينغ” فتختم قصة الفيلم حينما تقول: عندما تولّى والدي الحقل طوّره كثيرا، ومن المستحسن أن أطوّره أنا أكثر، وسأتدبر الأمر بطريقة ما.

بقي أن نقول إن “روبرت شابوس” من مواليد كارنثيا 1971م في النمسا، درس الفلسفة والعلوم التربوية والاتصال الإعلامي، وحصل على درجة الماجستير سنة 2001، وأنجز عددا من الأفلام الوثائقية، من بينها “احذروا الفجوة” (Mind the Gap)، و”تاريخ الكون” (Universum History)، و”فلاحنا” (Bauer unser)، و”بلاد جبال الألب” الذي اشترك في مهرجان زيورخ السينمائي الدولي لسنة 2022.


إعلان