“بوبي واين”.. جِراح المغني الثوري الذي تحدى فرعون أوغندا
من الغناء الشعبي البسيط يمكن أن يصنع المرء أسطورة تكبر وتمتد وتتسع حتى تصبح ملهمة لدعاة التغيير، لكن كيف إن كانت عيون الطغاة وآذانهم كلها تترقب ما يقع على أرض الواقع، ولا تفوّت فرصة للتنكيل والقمع والضرب، وماذا لو لم يتوقف الحلم، وظل ينمو ويكبر وتكبر معه أحلام البسطاء؟
هذا فيلم وثائقي ليس كسائر الأفلام الوثائقية التي عرفناها، فهو عمل فني كبير يستند إلى الواقع والحقائق التي وقعت على الأرض، وينطلق منها لصنع قصيدة حب للناس، للبسطاء والمحرومين، يصوّر كيف يصبح الغناء الثوري العذب المؤثر الذي يطرب له ملايين البسطاء من الأطفال والشباب والشيوخ حافزا قويا للتغيير، ولإحداث ثورة في الوعي تتطلع إلى التحرر من سيطرة عهود طويلة من الديكتاتورية اللعينة.
الفيلم هو “بوبي واين.. رئيس الغيتو” (Bobi Wine: Ghetto President)، وقد اشترك في إخراجه “كريستوفر شارب” و”موسى بايو” (2022)، وهو يتجاوز الساعتين بقليل، لكن صوره ومناظره وموضوعه بجميع مكوناته وتفاصيله تأسرك، وتستولي على حواسك ومشاعرك، وذلك لقرب ما يصوره ويناقشه منا نحن في العالم العربي، من محنتنا، ومن حقيقة أننا مسلوبون من إرادة الفعل والتغيير الديمقراطي. إنه صرخة حقيقية موثقة دامغة ضد الديكتاتورية والقمع والاستيلاء بالقوة على السلطة، والتشبث الدائم بها، وقمع كل محاولات التغيير الشعبية.
“بوبي واين”.. المغني الثوري الذي أزعج السلطة
يدور موضوع الفيلم أساسا حول شاب بسيط الحال نشأ فيما يسمونه “الغيتو” (أي ذلك الحي الفقير في كمبالا عاصمة أوغندا في وسط أفريقيا)، إنه شاب يمتلك كاريزما خاصة وحضورا مدهشا، ويتمتع بموهبة كبيرة في الغناء، ولأنه جاء من وسط الفقراء فقد أجاد التعبير عنهم في كلمات أغانيه التي يلحنها وينشدها، حتى ذاع صيته وسط الطبقات الفقيرة المحرومة في أوغندا، وتجاوز حدود “الغيتو”.
أصبح هذا الشاب الذي أطلق على نفسه اسم “بوبي واين” مليء السمع والبصر، وحظي بشهرة كبيرة وتأثير أكبر وسط الشباب، وتمكن بفضل الدعم الشعبي الكبير الذي تلقاه من طبع أغانيه وترويجها، بل ونظم أيضا مسيرات طويلة يقطع خلالها مسافات طويلة في قافلة من السيارات، ليقف فوق إحداها ويغني ملوحا بيده للجماهير.
كانت أغاني “بوبي واين” الثورية تخاطب جماهير الفقراء والمحرومين، وتطالب بالحرية والتوزيع العادل للثروة ووقف الاستغلال الذي تمارسه السلطة، وذاك ما أزعج الرئيس الأوغندي “يوري موسيفيني” الذي تربع على السلطة في البلاد منذ عام 1986، وقد جاء أصلا إلى الحكم بانقلاب عسكري، ثم خلع الملابس العسكرية وارتدى الملابس المدنية، وروّج لنفسه باعتباره “والد الأمة”، أو الأب المسؤول الذي ينشد الاستقرار والإصلاح.
كان “موسيفيني” قد أتى أصلا على أنقاض نظام الديكتاتور عيدي أمين، وأعلن مجانية التعليم للجميع وإصلاحات أخرى. ولعل هذه البدايات “التقدمية” هي التي جعلت “بوبي واين” نفسه حائرا قي وقت ما، يريد أن يفهم ماذا حدث للرئيس، وما الذي غيّره وجعله يطيح بكل آمال شعبه، لكنه سيدرك دون شك أنها النتيجة الطبيعية للسلطة المطلقة.
مزج الأرشيف والتوثيق.. رؤية إخراجية تحت ظروف أمنية قاسية
“بوبي واين” اسمه الحقيقي هو “روبرت كالغولاني سنتامو”، ويتابع الفيلم ويحلل مراحل مختلفة من حياة هذا الشاب الذي صعد من قاع المجتمع، لكي يتحدى الرئيس “موسيفيني” في الانتخابات التي أجريت في يناير/كانون الثاني عام 2021. فكيف حدث هذا، وهل كان الطريق سهلا؟
يعتمد الفيلم على المزج بين التصوير التوثيقي المباشر للأحداث وقت وقوعها، وعلى استخدام الوثيقة السينمائية المصورة من الماضي (أي مواد الأرشيف)، مع مقاطع كثيرة من المقابلات المصورة، ونشرات الأخبار التلفزيونية من أوغندا وأفريقيا والعالم. ورغم أهمية حضور الرئيس الأوغندي في الفيلم بوصفه طرفا رئيسيا في الصراع السياسي، فإن أكثر الشخصيات حضورا هو “بوبي واين” نفسه الذي يحمل الفيلم اسمه، وزوجته الجميلة “باربي”.
قد يكون هناك بعض الخلل في بناء الفيلم نتيجة رغبة مخرجيه في تتبع كل ما يحدث لبطله، كما تغيب بعض التفاصيل عن السياق، غالبا بسبب عدم توفر الفرصة لتصويرها تبعا للظروف الأمنية القاسية التي أحاطت بهذه الشخصية المؤثرة، ورغم ذلك استطاع الثنائي “شارب” و”بايو” إعادة ترتيب اللقطات المدهشة التي حصلا عليها ومزجها ببراعة مع شريط صوتي يمتلئ بأغاني “بوب واين”، وهي مزيج من الغناء الشعبي الأفريقي ذي الإيقاعات الأفريقية السريعة الراقصة، وأغاني الراب، وهي أغانٍ شديدة الذكاء، تمتلئ بكلمات معبرة تدعو إلى النهوض والوعي وضرورة تغيير الواقع.
ويظهر الكثير من كلمات هذه الأغاني مكتوبا على الشاشة، أي مترجما من اللغة الشعبية إلى اللغة الإنجليزية، كما يكتب صُنّاع الفيلم التواريخ المختلفة للأحداث السياسية التي يغطيها الفيلم ضمن متابعة مسيرة بطله.
“باربي”.. نصيرة الشدة ورفيقة درب من عالم آخر
تظهر “باربره” (أو باربي) في وقت مبكر من الفيلم، تتحدث أمام الكاميرا عن ذلك الشاب الغريب الذي وقعت في حبه، فنعرف أنه جاء إلى العالم يتيم الأب والأم، ونشأ في “الغيتو”، وصنع نفسه بنفسه، ثم اتجه مبكرا إلى غناء ما يعرف بأغاني “الراب” وبرع فيها، وحقق من المال ما أتاح له استكمال دراسته في الجامعة. وتقول “باربي” إنها لم تكن تعرف أن الشاب الذي عرفته زميلا لها في الجامعة هو نفسه “بوبي واين” المغني الشهير.
أما هو فيقول إنه شعر عندما التقى بها أنها تنتمي إلى عالم آخر مختلف تماما عن عالمه، فهي تنتمي لأسرة غنية، ولا تعرف شيئا عن “الغيتو”.
ومع ذلك فقد وحد الحب بينهما، وتزوجا ومضت من السنين عشرون عاما، وأصبح لديهما أربعة أبناء، وأصبحت “باربي” رفيقة نضال “بوبي واين”، تتحمل المشاق من أجل نصرة قضيته وقضية شعب أوغندا كله.
عندما اعتقل “بوبي واين” أصبحت زوجته هي وسيلته الوحيدة لنقل كل ما يحدث إلى العالم الخارجي، وهو ما يتابعه الفيلم بصورة جيدة، فكثيرا ما نراها تتحدث عن طريق هاتفها المحمول إلى قنوات التلفزيون الأوروبية، وعندما يلمحها قائد قوة الشرطة ذات مرة ينهرها ويطالبها بالابتعاد والتوقف عن التصوير ونقل ما يحدث.
مجلس النواب.. رحلة من العقبات برعاية الرئيس المستبد
صور الفيلم على مدار سبع سنوات (2014-2021). وكان عام 2017 تحديدا نقطة فاصلة في حياة “بوبي واين”، وذلك عندما اقتنع بترشيح نفسه لعضوية مجلس النواب، فخاض الانتخابات الفرعية في إحدى الدوائر.
تبدو الكاميرا في الفيلم وكأنها أصبحت مربوطة بالشخصية الرئيسية، نتابع حملته الانتخابية، وما أحاطها من مفارقات وأعمال قمع لفريق الحملة التي كانت تتجول في المقاطعات المختلفة بسيارات، بينما تبث أغاني “بوبي واين” الثورية التي تلهب حماس الجميع الذين يتحلقون حول سيارته ويجرون خلفها.
حاول نظام “موسيفيني” منع قافلة الحملة من الوصول إلى بعض المقاطعات، وإعاقة حصول الحملة على الترشيحات المطلوبة لقبول أوراق ترشيح “بوبي واين”، لكن رغم كل المعوقات استطاع التقدم بأوراق الترشح قبل إغلاق الباب، ثم نجح في الانتخابات وأصبح نائبا للشعب، وألقى كلمة تطالب بالديمقراطية داخل مجلس النواب، وانضم لكتلة المستقلين.
نجح “بوبي واين” نجاحا كبيرا واكتسب شعبية كبيرة كما يصور الفيلم من خلال ذهابه إلى الأماكن الشعبية، وخصوصا “الغيتو” الذي لا يشعر بالغربة عنه، وكان يخاطب الناس ببساطة، وينشد أغانيه وهم يرددون كلماتها وراءه، وقد أزعج هذا النجاح الرئيس “موسيفيني” كثيرا، فأمر بتشديد القبضة الأمنية على هذا الشاب الذي ينافسه ويقلق مضاجعه ويكشف ديكتاتوريته، خصوصا بعد أن حمل “بوبي واين” الدستور وطوّف ملوحا به في يده، يدعو الناس (من خلال أغانيه) إلى التمسك به، مؤكدا أنه نفسه الدستور الذي أقسم “موسيفيني” على احترامه، لكنه لم يفعل.
تعديل الدستور.. فوضى الترشح للحقبة السادسة
يظهر الرئيس “موسيفيني” في مقاطع من الأرشيف، فنرى الشعب يهتف له عندما جاء إلى الحكم في 1986 بعد عقود من الاستبداد العسكري، لكنه أصبح مستبدا يريد أن يبقى في السلطة إلى الأبد رغم النظام الديمقراطي الشكلي. لقد اعتدى رجال أمنه على مرشح سابق كان ينافسه، فنراه والدم يسيل من وجهه في لقطات أخرى من الأرشيف. وأصبح “بوبي واين” المغني الثوري الذي يتطلع إلى التغيير في أنظار الطبقات الفقيرة من أبناء شعبه “رئيس الغيتو”، والآن أصبح مطلوبا منه أن يصبح رئيسا لأوغندا كلها.
يصور الفيلم كيف قام “موسيفيني” بإدخال تعديل على الدستور يلغي الحد الأقصى لعدد المرات المسموح بها للترشح للرئاسة. نحن الآن في 2018، وهناك انتخابات رئاسية في 2021، ومراسل تلفزيون “بي بي سي” يجري مقابلة مع “موسيفيني” ويسأله “أنت الآن ابن 73 عاما، فهل تعتزم خوض الانتخابات لفترة رئاسية سادسة في 2021؟”، يجيب الرئيس بالقول إنه سيلتزم بالدستور، لكن سيتضح فيما بعد أنه يعتزم عن طريق أعوانه في مجلس الشعب إلغاء حاجز السن الذي يحظر ترشح من يتجاوز الخامسة والسبعين، وسينجح في تحقيق ذلك بالفعل فيما بعد، مما يغضب الشعب ويؤدي إلى اندلاع مظاهرات عنيفة في عموم البلاد.
يتعرض موكب “موسيفيني” لإلقاء حجارة وتكسير زجاج سيارته، وأمام الكاميرا مباشرة يعتقل الأمن “بوبي وأين” بتهمة الضلوع في الاعتداء على موكب الرئيس. نرى الاعتقال بشكل مباشر، لكننا لن نرى ما يحدث له على أيدي رجال الشرطة، بل سنرى آثاره التي تتمثل في إصابات متعددة في وجهه وصدره وكسور متعددة في ساقيه، بحيث لم يعد يمكنه السير.
إفراج واعتقال في يوم واحد.. غضب عام في الداخل والخارج
يمثل “بوبي واين” متكئا على عكازيه أمام محكمة عسكرية، توجَه له تهمة حمل السلاح وإلقاء الحجارة على الشرطة في الطريق العام، وتظهر زوجته وهي تتحدث إلى الإعلام الغربي مؤكدة أن “بوبي واين” لم يلتحق بالجيش، ولم يتلق تدريبا عسكريا، ولا يعرف كيف يستخدم أي سلاح، ولم يكن لديه سلاح في أي وقت.
أُفرج عن “بوبي واين” بكفالة، لكنه اعتقل في اليوم نفسه بتهمة الخيانة في قضية مدنية، وقد أدى اعتقاله إلى غضب عام، واندلاع أعمال عنف في عموم البلاد، وخرجت مظاهرة ضخمة في كينيا المجاورة، في حين نفت السلطات اللجوء للتعذيب.
ومع ضغط الرأي العام وانتباه الإعلام العالمي لما يحدث في أوغندا، تضطر السلطات أولا إلى نقله للمستشفى، ثم السماح له بالسفر لاستكمال العلاج في الولايات المتحدة. وهناك يعقد مؤتمرا صحفيا يؤكد خلاله أن قضيته هي تحرير أوغندا من الديكتاتورية، وأنه عائد ليستأنف حملته رغم كل ما تعرض له، وأنه سيعيش ويموت في أوغندا.
يعود الرجل ويقرر خوض الانتخابات الرئاسية أمام الرئيس “موسيفيني” الذي يطمع في الحصول على مدة رئاسية سادسة، ونرى “موسيفيني” وهو يقول لمراسلة القناة الرابعة في التلفزيون البريطاني “ليندساي هيلسوم” ردا عن سؤال لها بخصوص القمع الذي يمارسه نظامه ضد المعارضة، فيتهم خصومه باستخدام العنف، ويتهم الغرب بالتآمر للإطاحة به، ويقول إن الإعلام الغربي وجماعات الشواذ جنسيا هم الذين يشعلون نيران العنف والتوتر في أوغندا، وأن المعارضة تريد تكرار السيناريو الذي حدث في ليبيا ومصر والسودان.
“نعم من حق الشرطة أن تقتلك إن تجاوزت حدّا معينا”
يدشن “بوبي واين” مجموعة من الأغاني البديعة التي تواكب حملته الانتخابية، وعندما تنتشر جائحة كورونا (كوفيد- 19) ينظم مجموعة أخرى تحض الناس على مراعاة التباعد الاجتماعي وتطهير أيديهم باستمرار، واتباع باقي الاحتياطيات المعروفة، وهي أغانٍ بسيطة جذابة على إيقاعات راقصة تلقى استجابة عفوية من الناس.
لا شك في جاذبية الشريط الصوتي والموسيقى والأغاني بوجه خاص عبر الفيلم كله، مع صوره الملونة ألوانا حارة تعكس المزاج الأفريقي، لكن الدور الأكبر هنا يعود إلى الحضور القوي الملموس باستمرار للكاميرا، فلدينا اثنان من المصورين انغمسوا رغم كل الخطر في ملاحقة التطورات وكل ما وقع، بما في ذلك إطلاق الرصاص على السائق الخاص لسيارة “بوبي واين”، لنراه في لقطات قريبة مضرجا بدمائه داخل السيارة، ثم نرى في مشهد آخر كيف تقتحم قوات الأمن المقر الرئيسي للحزب الذي أسسه “بوبي واين”، يجمعون كل محتوياته من الأجهزة والأوراق والمطبوعات في صناديق ضخمة، ويضطر “بوبي” نفسه للاختباء وتهريب زوجته وأبنائه إلى الولايات المتحدة خشية تعرضهم للأذى.
تحاول السلطة بشتى الطرق إعاقة وصول “بوبي واين” إلى مقر الترشح لتقديم أوراق ترشحه للرئاسة أمام لجنة الانتخابات. ومن الصور المثيرة في الفيلم ذلك الإصرار المدهش من جانب “بوبي واين”، على مواصلة الحملة وتحدي كل أدوات القمع، إلى أن يقبض عليه مجددا في مقاطعة بعيدة، وينتج من ذلك اندلاع أعمال شغب وعنف وغضب يجتاح البلاد وتتصدى له قوات الأمن بكل شراسة.
وفي لقطة لا نظير لها يقف وزير الأمن بكل صلف أمام الكاميرا يخاطب أحد المتظاهرين قائلا “نعم من حق الشرطة أن تقتلك إن تجاوزت حدّا معينا”.
نتيجة الانتخابات.. رسالة أمل للشعوب المقهورة
قبيل الاقتراع ستلجأ السلطات إلى محاكاة ما وقع في مصر إبان ثورة 25 يناير 2011، فتقوم بقطع شبكة الإنترنت لمنع الناس من التواصل، لكنها تطلق سراح “بوبي واين” بكفالة، ثم يعود أطفاله إلى أوغندا من الولايات المتحدة، لكنه يبعدهم خارج منزله بسبب التوتر القائم.
وقبل يومين من الانتخابات تحاصر قوات الأمن منزل “بوبي واين”، ليصبح كأنه تحت الإقامة الجبرية، وينتشر رجال الأمن حول المنزل، ويصبح الرجل وزوجته معزولين تماما عن العالم.
أسفرت نتيجة التصويت عن فوز الرئيس “موسيفيني” بمدة سادسة بنسبة 58%، في انتخابات منعت المنظمات الدولية من مراقبتها، وتتهم المعارضة الحكومة بتزويرها. لكن الأمل لا يموت، ويستمر النضال، فهذا فيلم عن النضال، وعن روح الأمل التي لا تموت مهما كان القهر والقمع. لذلك فرغم كل ما يمكن أن يشوب الفيلم من عيوب في البناء والسرد، وغياب بعض النقاط التي كانت تقتضي وضوحا أكثر، فإنه يظل رسالة أمل لكل الشعوب المقهورة.