“حياتي الورقية”.. رسومات عائلة سورية ممزقة بين الوطن والمهجر

ما أن تضع المخرجة الإيرانية “ويدا دنا” قدميها داخل شقة زميلها السوري نسيم المقيم في أحد أحياء العاصمة البلجيكية بروكسل، وترى أفراد عائلته داخل جدرانها الضيقة والقديمة وهم منكبّون على رسم تخطيطات ولوحات ملونة على الورق، حتى تدرك أنها أمام عائلة متفردة في انشغالاتها.

إنها عائلة تستحق إنجاز فيلم وثائقي عنها، رسومات أفرادها وعفويتهم تلبي طموحها في معرفة ما جرى في البلد الذي جاؤوا منه، خاصة أن تخطيطاتهم وذكرياتهم تنقل بصدق بعض ما عاشوه خلال الحرب الأهلية السورية التي فقدوا فيها بيتهم، وخوفا من بطش النظام قرروا الرحيل إلى خارج البلاد، تاركين كل شيء وراءهم.

رغم ذلك يظهر الحنين إلى جذورهم في رسوماتهم وفي أحاديثهم، ومن خلالها استطاعت صانعة الوثائقي “حياتي الورقية” (My Paper Life) التقاط ما تتركه الغربة من أسى في أعماقهم، وبشكل خاص أولادهم الذين ما زالوا يحملون في دواخلهم حنينا للبيت الذي نشأوا فيه، وفي الوقت نفسه يفكرون بتأمين مستقبلهم في موطنهم الجديد، رغم ما يكتنفه من غموض بسبب الوضع الذي يعيشون فيه حياة مقتصدة لا تشبه حياتهم التي عاشوا جزءا منها في وطنهم الأم.

منزل نسيم.. مواهب فذة في عائلة يأسرها الحنين

جاءت زيارة المُخرجة إلى بيت نسيم بعد تعرفها عليه في بروكسل، أثناء اشتراكهما في ورشة للرسم، ومن خلال أحاديثه ورسوماته، زاد فضولها في التعرف على عائلته، وذلك بعد أن عرفت منه أن أبناءه الأربعة يحبون الرسم ويمارسونه كهواية.

ورغم توقعها أن تطول زيارتها فقد امتدت ثلاث سنوات، ورصدت خلالها بكاميرتها وبالرسومات التي اشتغلت على تحريكها التحولات الحاصلة في العائلة، وبشكل خاص حياة ابنتيه الصبيتين المراهقتين حلا وريما.

تنقل المخرجة في مستهل وثائقيها حالة الشقة التي يعيشون فيها، فمساحتها صغيرة، وجدرانها مهترئة تتسرب الرطوبة من خلالها. تلاحظ تشغيلهم للتلفزيون طيلة الوقت، وتثبت بثه على قناة إخبارية عربية تنقل بالتفصيل ما يجري في سوريا.

حالة الشقة والمقيمين فيها تقترح عليها العمل على خطين متداخلين، الأول يأخذ شكل حوارات وأسئلة مع أفرادها، والثاني إضفاء حياة على رسوماتهم المثبتة على الورق من خلال تحريكها، ومنحها بُعدا جماليا يتوافق مع الاشتغال السينمائي الذي أرادته أن يكون بصريا قبل كل شيء.

عبور النهر.. رسومات تُعيد المشهد إلى الحياة

يبرز التحريك بقوة مضامين اللوحات التي يرسمها الصغار، دبابات النظام تدهس تحت سلاسلها الحديدية الثقيلة الأطفال، وطائراته الحربية المحلقة في السماء تفرغ قنابلها فوق رؤوس الناس وبيوتهم. أما الرسومات الأخرى التي تحكي عن هروبهم من الموت، فتظهر فيها والدتهم وهي تصطحبهم معها سرا، ليعبروا النهر ليلا نحو الطرف الآخر من الحدود.

نسيم يقضي معظم وقته مع أطفاله في شقته الضيقة

التعليق على رحلة الهروب مصحوب بكلام شاعري مؤثر يعكس حالة الخوف التي مروا بها، وأيضا تشبثهم بأمل النجاة من الموت، والوصول إلى بقعة أرض يعيشون فيها حياة جديدة.

تنقل الرسومات مراحل رحلتهم المحفوفة بالخطر ومشاقها، وإخفاقاتها، ثم نجاحها أخيرا في الوصول إلى بلجيكا، بعد أن منعتهم السلطات الإسبانية من الدخول إلى أراضيها.

تسريب الذكريات.. أشواق تعكس آلام وطن كامل

حنين الأب إلى بيته في حمص لا ينقطع، حديثه مع الآخرين مصحوب دوما بصور لبيته الجميل والواسع، يحتفظ بها بهاتفه المحمول ويعرضها أمام زوّاره، وخلال تقليبها يُسمعهم كلاما مشحونا بعواطف وأشواق إلى حديقته الكبيرة وأشجارها المثمرة التي ما زالت رائحة ثمارها باقية في ذاكرته.

ذكريات ابنتيه الصبيتين هي الأخرى لم تنقطع، إذ تذكران المدرسة والحي الذي نشأتا فيه، ولم تنسيا أبدا ما شهدته منطقتهم السكنية من دمار فظيع بعد ظهور المتظاهرين السلميين المطالبين بتغيير النظام في شوارعها، ومواجهة أجهزة النظام لهم بالسلاح.

تحريك الرسومات سينمائيا يمنحها حياة جديدة

كل هذا ينعكس في رسوماتهن التي أضفت عليها تعليقاتهن الشفاهية عمقا وصدقا، ووثقت جانبا من تاريخ الصراع السياسي الذي دفع كثيرا من السوريين للهجرة والرحيل من البلد الذي أحبوه وعاشوا فيه، أما الجانب الحياتي اليومي فكان يأتي من خلال الأسئلة التي تطرحها عليهم صانعة الوثائقي، فقد استطاعت من خلالها رصد الكثير من تفاصيله من دون تثبيت رأيها الشخصي فيه.

ريما وحلا.. أحلام المستقبل المختلفة في حياة الأختين

ثمة اختلافات واضحة بين شخصيتي الصبيتين، فالكبرى ريما متحفظة لا تفصح عن مشاعرها بسهولة، على عكس أختها حلا المنفتحة والطموحة. تخطط الصغرى بعد إكمال دراستها الثانوية لدخول الجامعة ودراسة الطب، وبعد تخرجها يمكنها تأمين حياة مريحة لها، وعبره يمكنها أيضا مساعدة الناس الفقراء، وأما الكبرى فهي تريد أن تشتغل مصففة شعر، وربما تفتح صالونا خاصا بها مستقبلا.

كثيرا ما يذهب الحديث معها إلى الزواج من قريب لوالدها، فرغم عيشها في بلجيكا، فإنها لا تعارض هذا الزواج التقليدي، كان هذا موقفها أول الأمر، لكن بعد مدة من تعرفها عليه بشكل جيد واكتشاف نقاط الخلاف بينهما، قررت عدم الزواج به.

أما حلا فهي لا تفكر بالزواج، بل تركز على دراستها، وعلى هوايتها الأخرى إلى جانب الرسم، وهي العزف على آلة التشيلو الموسيقية، تتحدث عن وضعها في المدرسة، ويحزنها أن الطلاب يعاملونها كأجنبية لا وطن لها ولا تاريخ، ولمعاندة ذلك الموقف ترتدي بلوزة كتبت عليها عبارة “سوريتي هويتي”.

“هل تريدين الهروب من ضيق المكان؟”.. زواج تقليدي

في كلامها أمام الكاميرا المثبتة طيلة الوقت داخل شقتهم التي قلما تخرج منها؛ تشير حلا إلى تعلمها اللغة الفرنسية بشكل جيد، بينما أختها ما زالت تخجل من الحديث بها أمام الآخرين بسبب انطوائها.

زواج ريما التقليدي من قريب والدتها لم يدم طويلا

ينقل الوثائقي جوانب أخرى من حياة العائلة، فالأب يهتم بطفله الصغير، ويتابع بحرص رسومات ابنه الثاني، وفي المناسبات يستقبل أصدقاءه، وحديثه معهم دوما يدور حول سوريا وما يجري فيها، أما زوجته فهي منشغلة طيلة الوقت بشؤون المنزل.

تعامُل الوالدين مع أطفالهم هادئ ومنفتح، يظهر ذلك عندما تعلن ابنتهم ريما لهم قبولها فكرة الزواج من قريب والدتها هذه المرة، ورغم حزنه على فراقها فقد قبل بالأمر الواقع ولم يعارضه.

أما المُخرجة فهي بوصفها شاهدا محايدا لم تفهم مبررات قبولها بزوج لم تتعرف عليه إلا منذ أسابيع قليلة، لكنها تخمن وجود سبب آخر عن يتضمنه سؤالها المُبطن للصبية “هل تريدين الهروب من ضيق المكان؟”.

رهاب الأماكن الضيقة وتآكل الجدران.. خطر يطرد الجميع

يفضي الرصد المكاني الدقيق إلى نقل إحساس ثابت عند الجميع بضيق المكان وخوف منه، يصل إلى درجة الرهاب من الأماكن المغلقة، بسبب تردي حالة الشقة التي يسكنونها، فقد بدأت أجزاء من جدرانها الخارجية تتدعى للسقوط، وبات احتمال انفجار أنابيب الغاز القديمة يشكل خطرا جديّا على حياتهم، مما دفع دائرة الرعاية الاجتماعية لتأمين سكن مؤقت لهم في أحد الفنادق الرخيصة.

يشهد المكان الجديد تحولا محزنا في حياة البنت الكبرى، فبعد زواجها من قريب والدتها، وإنجابها منه طفلا عادت للعيش مع عائلتها في نفس الفندق.

الطفل يخطط فوق الجدران المهترئة في أماكن ضيقة

لا تتحرى صانعة الوثائقي طويلا في أسباب ما حدث، بل تكتفي بنقله مع تثبيتها لمشاعر الحزن التي تجتاح دواخل الأم بزواج لم يدم طويلا، وبطفل جاء إلى الدنيا وسيعيش من دون أب، لكنه على مستوى آخر يشهد ولادة أخيها الأصغر.

“حياتي الورقية”.. حياة بين الوطن والمهجر والواقع والخيال

ميزة فيلم “حياتي الورقية” أنه معنيٌّ بالدرجة الأولى بحياة المهاجرين العادية، وحياتهم الموزعة بين مكانيين، الأول خسروه بسبب ما تعرضوا له من اضطهاد من قبل نظام بلدهم السياسي، والثاني يشهد على صعوبة عيشهم في الأوطان الجديدة. لا مبالغة فيه ولا ادعاء، فيه من الصدق ما يجعله منجزا سينمائيا مهما.

أضفت الموسيقى التصويرية التي وضعها نعمى عمران على أجوائه بُعدا واقعيا يقرّب المُشاهِد من الأحداث المنقول أغلبها برسومات مُعبِرة عن مشاعر أطفال وكبار مروا بظروف قاسية، وما زالوا يمرون بأوضاع غير مستقرة، وللهروب من التفكير بها غالبا يلجؤون إلى تذكر أحلى ما كان في ماضيهم، لعلهم في ذلك يجدون خلاصا مؤقتا من واقع عيش قاس.

ذكرياتهم وواقعهم الجديد يُنقلان بأسلوب سينمائي سلس مُشبع بروح أفلام التحريك التي تبعث في النفوس دوما إحساسا بحلاوة خيال، إذا ما قارب الواقع فإنه غالبا يثمر منجزا سينمائيا مركبا كالذي يقدمه “حياتي الورقية” بمهارة لافتة في قوة حضورها.


إعلان