“137 طلقة”.. جرائم الشرطة الأمريكية ضد السود العزل

عبد الكريم قادري

سيارة قديمة يقودها رجل أسود كانت مسرعة لدرجة أن انفجر فيها العادم، في تلك اللحظة ركن الشرطي سيارته بجانب المحكمة، سمع الانفجار فخيّل له بأنها طلقة نار تستهدفه، فأسرع إلى اللاسلكي وبلّغ عن الحادث، وما هي إلا ثوان حتى تجمعت أكثر من 63 سيارة مليئة بأكثر من 100 شرطي، وبدؤوا مطاردة شرسة داخل مدينة كليفلاند وخارجها، قطعوا خلالها أكثر من 37 كلم في 23 دقيقة بسرعة 160 ميل في الساعة، خاصة بعد التأكيد بأن المشتبه بهما أسودان ومسلحان وخطران.

وعندما أحاطوا بهما وحاصروهما في فناء مدرسة من كل جهة، أمطروهما بـ137 طلقة حتى جعلوا سيارتهما مثل غربال، ليتبين لاحقا بعد موتهما الفوري بأنها أعزلان بلا سلاح، لتبدأ في تلك اللحظة مأساة لم تنتهِ إلى اليوم بين الضحايا الأبرياء وأفراد الشرطة العنيفين. فما الذي حدث بالضبط في تلك الليلة المشؤومة؟

“ما الذي يحدث في أمريكا؟”.. تساؤلات التفوق الطبقي

عند مشاهدة الفيلم الوثائقي “137 طلقة” (137 Shots) للمخرج “مايكل ميلانو”، لا بد من طرح السؤال الجوهري التالي “ما الذي يحدث في أمريكا؟”، والجواب سيكون متشعبا وله أبعاد عدة، فهو حمّال أوجه ومتعدد السياقات، لكن بعض الأجوبة ستتقاطع في عدة مصطلحات، أبرزها “التمييز العنصري والحقوق المدنية وميزان العدل وعنف الشرطة والطبقات الكادحة”، وغيرها من المفاهيم الأخرى المنعكسة في المجتمع الأمريكي الذي ما زال يؤمن بتفوق الرجل الأبيض، وأن الرجل الأسود هو مجرم بالضرورة مهما كانت الأسباب، لتنعكس هذه التصرفات على هذه الطبقات بصورة أو بأخرى.

 

لهذا نرى ونسمع بشكل مستمر في الإعلام الأمريكي عن جرائم العنصرية التي لا تنتهي، ونرى ازدياد ضحايا العنف غير المبرر من طرف عناصر الشرطة الأمريكية، وقد جاء هذا الفيلم “137 طلقة” مثل غيره من مئات الأفلام الوثائقية التي أنتجت خلال السنوات القليلة الماضية، فهو ينحو نحو العنصرية والحقوق المدنية، ويُعرّي كذلك الحقيقة ويبحث عنها في زوايا المكاتب المعتمة، ويستعرض عنف الشرطة الأمريكية بحق المجتمع الأسود الذي تقف في وجهه معظم المؤسسات الرسمية، لهذا لا يجد أي سند يتكئ عليه سوى المنظمات الحقوقية والجمعيات، والأفراد الذين يؤمنون بالعدل والمساواة.

“مايكل بريلو”.. أعزلان تحت رحمة جندي حاقد

فيلم “137 طلقة” من الأعمال السينمائية المؤذية نفسيا، فهو يشحن المُتلقي بطاقة سلبية مليئة بالحزن والدموع والحسرة، لأنه اقترب من الحقيقة المُرّة، والحقيقة عادة ما تؤذي النفس البشرية وتبيدها.

وحقيقة هذا الفيلم هو أن “تيموثي راسل” و”ميليسا ويليامز” اللذين قتلتهما الشرطة بـ137 طلقة لم يكونا يحملان أي سلاح، بل كانا يحملان علبة صودا يلوحان بها عاليا من أجل الاستسلام، فكل ذنبها الوحيد أن عادم سيارتهما القديم انفجر لأنهما هربا من مطاردة شرطي تعوّد على ضربهما كل ليلة في مطعم المشردين، وأن هناك شرطيا مرتابا بالغ في ردة فعله، وأبلغ عن إطلاق نار غير موجود.

ثقوب رصاص السيارة التي أمطرها الشرطي الأمريكي “مايكل بريلو” بـ137 رصاصة وراح ضحيتها  “تيموثي راسل” و”ميليسا ويليامز”

 

وأكثر من هذا فقد حرموهما من حقهما في الخروج الآمن من السيارة، وبدل تحذيرها للاستسلام أخذوا  في إطلاق النار بطريقة عشوائية وسريعة جدا، وقد بلغ الحقد بأحد الضباط -واسمه “مايكل بريلو”- أن صعد على ظهر محرك السيارة وأخذ يُطلق النار بطريقة حاقدة جدا، ومن المؤسف أن يكون هذا الشرطي جنديا سابقا في الجيش الأمريكي، وقد شارك في عملية عاصفة الصحراء بالعراق.

من هنا تطرح أسئلة عدة حول معايير اختيار وتوظيف رجال الشرطة الذين يتميزون بالعنف المفرط كحال هذا الضابط.

“تامر رايس”.. جريمة لعب المراهق الأسود بالمسدس في الحديقة

كان الضغط رهيبا على شرطة كليفلاند من طرف المجتمع الأسود والحقوقيين وأقارب وأصدقاء الضحيتين “تيم” و”مليسا”، وذلك بعد تأجيل وتمديد المحاكمة لشهور، لتأتي بعدها جريمة أخرى من طرف شرطة كليفلاند.

كان المراهق الأسود “تامر رايس” يلعب في حديقة عمومية، ويشير بمسدس افتراضي في الفضاء، وقد رأى أحدهم هذا الأمر وقام بتبليغ الشرطة، ونقل لهم احتمالية أن يكون المسدس مزيفا، لكن الشرطة لم تهتم لهذا التفصيل المهم، وحضرت مُسرعة وأطلقت النار على هذا المراهق الذي يبلغ من العمر 12 سنة، وقد دافع الشرطي أثناء التحقيق معه عن نفسه بقوله بأنه أطلق تحذيرا قبل إطلاق النار، ليُعيد المحقق سؤاله إن كان زجاج نافذة السيارة مفتوحا، وقد نفى الأمر ليعيد المحقق قوله: هل من عادتك تنبيه المشتبه بهم والزجاج مغلق؟

مظاهرات تطالب بالقصاص من قتلة المراهق “تامر رايس” الذي يبلغ من العمر 12 سنة

 

كانت حادثة المراهق “تامر رايس” من الأشياء التي أثبتت عنف الشرطة الكبير، لهذا بدأ طرح واقتراح عدد من الإصلاحات من طرف وزارة العدل التي هددت بحل هذا الجهاز في كليفلاند، كما أن هناك من دعا بضرورة خلق علاقة مجتمعية بين الشرطة وأفراد المجتمع، لكن هذا ما رفضته نقابة الشرطة التي دافعت عن أفرادها في حادثة “تيم” و”مليسا”، وحتى في جريمة “تامر” المراهق الذي كان ذنبه الوحيد بأنه كان مراهقا أسود يستمتع ويلعب دور الشرطي واللص في حديقة عمومية.

“أنجبتُ أبناء صالحين”.. عائلة مُتضامنة ونقابة شرطة مُتخاذلة

حاولت نقابة الشرطة التقليل من شأن الضحيتين “تيم” و”مليسا”، فقد قال رئيس النقابة بأن العائلة لم تكن تهتم بالضحايا، وقد جاء هذا الاهتمام من أجل دفع المال فقط، لكن عائلة “تيم” نفت هذا الأمر، وقالت إن العائلة متكاتفة جدا، وهذا ما أظهره أرشيف الصور والفيديوهات الخاص بالعائلة، حتى إن الأب تكلم كلاما مؤثرا عن تكاثف العائلة، إذ يقول: قال الجميع إنني أنجبت أبناء صالحين، ويعود هذا الفضل لزوجتي التي أحسنت تربيتهم، إذا تألم أحدهم فكأنما يتألم الجميع.

هذا دليل على أن العائلة متضامنة فيما بينها، لكن كلام النقيب لم يكن موزونا ولا مسؤولا، وأكثر من هذا أنه أعاد جرح العائلة إلى الواجهة من جديد، وقد أظهر النقيب أكثر من مرة دفاعه المستميت عن الجريمة المرتكبة في حق “تيم” و”مليسا”، وحتى الجريمة المرتكبة بحق المراهق “تامر رايس”، فقد قال إن الشرطة قامت بما تدربت عليه، والسلوك الذي قاموا به هو ما تدربوا عليه، وأن عملية إقالة ضباط الشرطة وبعض الأفراد ما هو إلا إسقاط سياسي واضح.

رئيس النقابة يُعاين السيارة التي قُتل فيها  “تيم” و”مليسا”

 

قامت العدالة بتبرئة هؤلاء بعد 18 شهرا من الحادث، مستثنية الشرطي الذي أطلق الرصاص من على محرك السيارة، لكن هو الآخر وقعت تبرئته فيما بعد، خاصة وأن عددا من أفراد الشرطة رفضوا تقديم أي شهادة بتوصية من المحامين ومن نقابة الشرطة، وهو ما عقد الأمور وأثار النائب العام الذي رفض هذا الصمت، وقال إنه لم يحدث سابقا تحت أي مسمى، لأن المطلوب من الشرطة هو تنوير الرأي العام بالحقائق لا طمسها كما يفعل المجرمون.

مقابلات أبطال القصة.. وثائق تخلق مصداقية الوثائقي

استطاع المخرج “مايكل ميلانو” في فيلمه “137 طلقة” أن يخلق فضاء واسعا من المشاعر الإنسانية المتدفقة، وأن يُحيط المشاهد بمعطيات الوقائع من كل جهة، لهذا استمع لكل الأطراف، سواء من عائلة الضحايا أو من أفراد الشرطة ونقابتهم، أي أنه وضع جميع المعطيات أمام المتلقي وجعله يقرر من هي الجهة التي ظلمت دون أن يتورط في إصدار الأحكام أو الوقوف مع جهة دون أخرى.

وأكثر من هذا أنه قام بتصفية ذهن هذا المشاهد الافتراضي بعد أن وضع أمامه مجموعة من الأفراد المهمين والخبراء في الحقوق، إضافة إلى أطراف لها صلة مباشرة بالقضية، مثل المدعي العام “توموثي ماغني” الذي رافقته الكاميرا لشهور، واستمعت له بطريقة جيدة أخرجت منه جميع المعلومات المتوفرة حول القضية، فحاورته بأكثر من مناسبة وفي عدة فضاءات، في منزله وخلال عملية تتبعه لممارسة رياضة الهرولة، وهي الفضاءات التي تبعث على الطمأنينة وعدم الرسمية، أي أنه كلما ابتعد الضيف عن الفضاءات الرسمية ارتفع مؤشر البوح، ليكون هذا الأمر من المعطيات التي ساهمت في توسعة مصداقية الفيلم وأمانته.

الضحيتان “ثيم” و”مليسا” اللذان قتلتهما الشرطة الأمريكية بـ137 طلقة

 

كما قام المخرج بإشراك الصحفية والمؤلفة “كوني شولتز” التي كانت قريبة من أحداث الجريمة وسايرت وقائعها، إضافة إلى “ستيف لوميز” نقيب الشرطة الذي كان له دور محوري في هذه القضية، إضافة إلى عدد من الضيوف الآخرين مثل “فرانك جاكسون” و”كالفين ويليامز” و”باتريك بيرلو”.

كما استطاع المخرج أن يستحوذ على المقابلات السمعية البصرية التي حدثت أثناء التحقيق مع أفراد الشرطة الذين كانت لهم علاقة مع جريمة القتل، إضافة إلى المطاردات التي حدثت في الشارع، حتى أنه بث فيديو بداية الحادثة عندما مرت سيارة “تيم” وانفجر عادمها أمام المحكمة، وهكذا يكون المشاهد قد حصل على وثائق مهمة يدخل من خلالها إلى صُلب هذه القضية.

نقاشات الإذاعة.. لمسة مجتمعية تصنع حيوية الفيلم

استعان المخرج خلال الفترة الزمنية للفيلم (105 دقائق) بـ”مانسفيلد فريجر” الموظف في إذاعة كليفلاند الإخبارية، وهو يدير حصة على الهواء مباشرة اسمها “المنتدى”، وقد كانت طروحات هذه الحصة منسجمة مع قضية قتل “تيم” و”مليسا”، من خلال مشاركة المستمعين في النقاش والحوار، وقد كانت بمثابة اللازمة التي اعتمد عليها المخرج لإعطاء فيلمه بُعدا واقعيا ومجتمعيا، أي أن المشاركة كانت نوعية وغير تقليدية، لكنها أفادت الفيلم في عدة جوانب.

 

ولقد صاحب صوت هذا المذيع عدد من الصور البانورامية التي التقطها المخرج والمصور “مايكل ميلانو” رفقة مساعده “دوميان إدواردز”، حيث فتح من خلالها مقارنات جمالية ومقاربات موضوعية من خلال تصوير المدينة في كل الفصول تقريبا، ومن عدد من الزوايا والشوارع، وكأنه يحاول أن يُظهر حيويتها ونشاطها ومنافذها المتعددة.

وقد نقل التغير أو تعاقب الفصول عن طريق تراكم الثلوج، أو خلال سطوع الشمس، وامتداد نهر كاياهوغا والتواءاته وتداخله في المدينة؛ حداثة المدينة وتسارعها في العمارة والبناء وامتداد الطرق، وكأن المخرج يظهر تطور المدينة، لكن العقل الأمريكي العنصري لم يتطور، بل بقي محافظا على عنصريته وعنفه وظلمه للعرق الأسود، وكأنه لم يستوعب أو لم يسامح الرئيس الأسبق “أبراهام لينكولن” الذي قام بعتق العبيد.

“137 طلقة”.. صرخة المجتمع الأسود ضد الكراهية

خلق المخرج “مايكل ميلانو” في الجزء الأخير من الفيلم مقارنات مهمة بين خطابات الرئيس الأسبق “دونالد ترامب” خلال المؤتمر الذي عقده في كليفلاند، وبين بعض السود في أحد الكنائس، وهذا بشكل متزامن، حيث أظهر بأن “ترامب” يدعو بشكل صريح إلى العنف والعنصرية وتمجيد الشرطة وأفعالها العنيفة، بينما كان السود داخل الكنيسة يدعون إلى الفضيلة والشجاعة والنزاهة ومواجهة الكراهية المُسلطة عليهم من خلال الابتسامات والحب.

 

فيلم “137 طلقة” من الأفلام الوثائقية المهمة التي أنتجت سنة 2021، فقد حاول صنّاع هذا الفيلم التنويه بقضية في غاية الأهمية والراهنية، وهي قضية العنف المفرط الذي تقوم به الشرطة بحق المجتمع الأسود، وهو الأمر الذي يهدد المجتمع الأمريكي بالتفكك والكراهية والذهاب نحو هاوية العنف، وكأن “مايكل” من خلال الفيلم يحذر من القادم.

كما لم يتخلَ الفيلم رغم أهمية الموضوع من البناء الفني أو الجماليات المتعددة، وهي المعطيات التي أعطت للعمل هيبته السينمائية وقيمته الفنية، وبالتالي لم يتخلَ عن أي جانب لصناعة فيلم وثائقي جيد سيصمد في وجه الزمن.ط


إعلان