“لا تنظر إلى الأعلى”.. مضاحك ومصالح حول المذنّب الذي يهدد الأرض

بلال المازني
في شهر ديسمبر/كانون الأول من العام 2021، أطلقت منصة “نتفليكس” فيلما جديدا يبدو من الوهلة الأولى أنه فيلم تجاري بامتياز، خاصة مع تشكيلة الممثلين الكبار المشاركين في الفيلم، إذ دأبت هوليود على استعمالهم لجذب الجمهور، أو ربما لرأب صدع قصة الفيلم غير المتميزة والسيناريو الضعيف، وهو ما يعرف عادة في مجال التسويق بـ”إستراتيجية النجم” (Star Strategy).
لكن يبدو أن الأمر اختلف في فيلم “لا تنظر إلى الأعلى” (Don’t Look Up)، فـ”ليوناردو دي كابريو” و”ميريل ستريب” و”جينيفر لورنس” لم يكونوا ممثلين لإصلاح ما تكسّر في السيناريو والإخراج، بل استعملهم المخرج “أدام مكاي” من داخل المنظومة لنقد المنظومة نفسها، ونقصد بالمنظومة هنا السياسة والإعلام وما تفرع عنهما فيما بعد من منظومات أخرى من الدين والعلم والفساد.
الفيلم هو حكاية عالِمين اكتشفا أن مذنبا سيصطدم بالأرض وتنتهي الحياة بعده في ستة أشهر، سيبدأ العالِمان “كيت دبياسكي” (الممثلة جينيفر لورنس) و”راندال ميندي” (الممثل ليوناردو دي كابريو) رحلة الكشف عن الخبر، وهنا تبدأ جملة من التحولات الدرامية (Dramatic Twist) منذ بداية الفيلم وحتى آخره.
“أدام مكاي”.. كوميديا سوداء في ثالوث المال والسياسة والإعلام
بالرجوع إلى تاريخ المخرج وأفلامه السابقة، نجد أن “أدام مكاي” قد مرّ بتجربتين هما فيلمان ترشحا لعدد من جوائز الأوسكار، والأكيد أن هذين الفيلمين قد أسسا لفيلم “لا تنظر إلى الأعلى”، أو كانا خلاصة له.
في العام 2015 أخرج “مكاي” فيلم “العجز الكبير” (The Big Short)، وهو فيلم مقتبس من قصة حقيقية عن أزمة العقارات في 2007، فقد ضربت “وول ستريت” شارع المال والأعمال المعروف في”مانهاتن” بكل ما في ذلك من احتيال وفساد وسطوة للنظام البنكي الأمريكي، وقد حصل الفيلم على أوسكار أفضل سيناريو مقتبس.
أتبع “مكاي” هذا الفيلم بآخر بعده سنة 2018، وهو فيلم “النائب” (Vice) الذي يتمحور حول السيرة الذاتية لـ”ديك تشيني” نائب رئيس الولايات المتحدة في فترة حكم “جورج بوش الابن”، وبالخوض في حياة “ديك تشيني” رجل البيت الأبيض القوي، نكتشف خبايا المكتب البيضاوي والتكتلات الدائرة به والفساد، وكل ما وراء الصورة الناصعة للسياسة الأمريكية.

ومن هنا وبالدخول في تفاصيل “وول ستريت” والبيت الأبيض كان من المتوقع أن يعود “أدام مكاي” بفيلم “لا تنظر إلى الأعلى” ليكتمل الثالوث فيما بعد؛ المال والسياسة والإعلام.
“الفيلم ليس كما تعتقد”.. ما قبل المقدمة ليس كما بعدها
في ديكور قاعة فيها مسبار فضائي في كلية ميشيغان، تقوم العالِمة “دبياسكي” بحسابات على آلة الحاسوب، صورة معلقة لرائد فضاء ينظر من سطح القمر إلى مذنب مشتعل كتب عليها “تبا”، وذلك في إيحاء إلى أن المذنب سيضرب الأرض، تتوالى اللقطات في نفس الإطار المكاني، تكتشف “دبياسكي” مذنبا غير معروف، ليجتمع بعد ذلك بعض الطلبة مع البروفيسور “راندال ميندي”، ثم ببعض الحسابات يكتشف “ميندي” أن المذنب في طريقه إلى الأرض.
هذه البداية يمكن أن تكون اللقطة الأولى ومدخلا لفيلم خيال علمي من عشرات الأفلام التي تروي قصة مذنب سينهي حياة البشرية، أو مخلوقات فضائية ستحتل الأرض، على غرار أفلام مثل “الأرض ساحة المعركة” (Battlefield Earth)، و”فضائيو نهاية العالم” (Alien Apocalypse) و”الأرض هي الهدف” (Target Earth) و”يوم الاستقلال” (Independence Day).
إلى هنا، صنَّف المَشاهدُ الفيلمَ فعلا ووضعه في خانة أفلام الخيال العلمي التي دائما ينتصر فيها الإنسان، وطبعا في العادة يكون البطل الخارق الذي سينقذ البشرية بطلا أمريكيا أبيض.

إلى حدود الدقيقة التاسعة، يدور الفيلم حول هجوم المذنب، لكن بمجرد أن نتحول من ميشيغان إلى واشنطن ينقلب الفيلم إلى دراما تتحول إلى كوميديا سوداء وساخرة، حتى أننا نكاد ننسى أحيانا أن الفيلم يتحدث عن اكتشاف مذنب يهدد الأرض والحياة البشرية، وربما لهذا جرى تأخير شارة بداية الفيلم إلى الدقيقة الحادية عشرة، وذلك ليقول المخرج أن الإحدى عشرة دقيقة الأولى ما قبل شارة البداية (وهي زمن طويل في توقيت الفيلم)؛ هي فيلم منفصل عن ما بعده، أو على الأقل مختلف عنه، وذلك عبر التغيير الدرامي الذي طرأ على الفيلم، وكأن المخرج هنا مع شارة البداية أراد أن يقول للمُشاهد “الفيلم ليس كما تعتقد”.
بندقية “تشيكوف”.. مبدأ سينمائي ينسفه الفيلم
يقتضي مبدأ بندقية “تشيكوف” في الأدب والمسرح والكتابة السينمائية أن كل ما نراه أو نسمعه يجب أن يكون له مكانه الضروري في الحبكة الدرامية، وأن لا يكون مسقطا وعشوائيا، وقد قال الكاتب “فالنتاين تي بيل” في كتابه “تشيكوف الصوت الصامت للحرية”: يجب إزالة الأشياء جميعها التي ليست لها صلة بالقصة، فإن ذكرت في الفصل الأول أن هناك بندقية معلقة على الحائط، فيجب أن تُستعمل البندقية إما في الفصل الثاني أو الثالث، ويجب ألا تبقى معلقةً هناك إذا لم يجرِ إطلاق النار منها.
لكن بالرجوع إلى الفيلم نجد أن “مكاي” نسف هذه النظرية في الكتابة السينمائية للفيلم، حتى إن البعض اعتقد في الكثير من العشوائية في لقطات مسقطة وقطع حاد وغير موجب، وأحيانا كثيرة مقلق.

في لقاء العالِمين “دبياسكي” و”ميندي” مع رئيسة الولايات المتحدة “جاني أورليان” (الممثلة ميريل ستريب) في مكتبها بالبيت الأبيض؛ نجد لقطات عشوائية وقصيرة أقرب لما يسمى بـ”رسائل خفية لا شعورية” (Hidden Subliminal Messages)، مثل لقطة حذاء، أو لقطة صورة معلقة على الحائط، أو حتى لقطة تمثال نسر، وهي لقطات قصيرة ومقلقة، وأحيانا كثيرة لا تؤدي لأي معنى.
“بدون هذه الأشياء الثلاثة نحن في ورطة”.. تغريدة المخرج
من ناحية أخرى وعلى طول الفيلم أيضا، نلاحظ لقطات أخرى ليس لها علاقة بما بعد أو قبل المشهد، لكن كانت لها وظيفة أخرى ربما وظيفة مفهومية (Conceptual) أو نفسية، مثل لقطة أمواج تتلاطم أو عصفور أو سحلية.
هنا ومن دون شك يمكن أن نستوعب أن المخرج يريد بهذه اللقطات أن يقود المُشاهد للقيام بمقارنة ذهنية واعية أو غير واعية عن جمال الطبيعة، والنعمة التي أعطاها لنا الله، ثم دمرها الكائن البشري بحماقاته وغطرسته.

وقد بين ذلك “أدام مكاي” في إحدى تغريداته على تويتر، حيث قال: تذكروا بعد مشاهدتكم لفيلم “لا تنظر إلى الأعلى” أن لدينا العلم لحل أزمة المناخ، ومصادر الطاقة المتجددة، وإزالة الكربون واحتجازه، إنه يحتاج فقط إلى التوسع والتطوير، نحن نفتقد الوعي والإرادة والعمل، وبدون هذه الأشياء الثلاثة نحن في ورطة خطيرة.
البيت الأبيض.. خدش الصورة الهوليودية الأسطورية
جرت العادة في هوليود أن تصور البيت الأبيض كمركز اتخاذ القرار الأمثل، والأكثر وطنية وأخلاقية، وأي محاولة لضرب البيت الأبيض تكون فاشلة، ليعود الرئيس الأمريكي بعد ذلك رابحا منتصرا في هيبة البطل، وقد صورت أفلام كثيرة مثل هذه الصورة للبيت الأبيض والرئيس الأمريكي، مثل “سقوط البيت الأبيض” (White House Down) و”سقوط أولمبوس” (Olympus Has Fallen) و”سلاح الجو الأول” (Air Force One)، كما كانت صورة الرئيس الأمريكي دائما صورة الرجل الذي يحب وطنه وعائلته، ويستعد للتضحية لأجلهما.
في فيلم “لا تنظر إلى الأعلى” تبدأ أسطورة الرئيس والبيت الأبيض تهوي بمجرد وصول العالمين إلى واشنطن، إذ يلتقيان بالجنرال “ثيمز” ممثل البتناغون الذي تبين أنه رجل طمّاع وخسيس، وقد استقبلهما بالقول “الرئيسة شهيرة بكونها دائما متأخرة”، لتسأله العالِمة “دبياسكي” عندما تنظر لمكتب الرئيسة “هل هذا المكتب البيضاوي؟” فيجيب الجنرال إنه “أصغر بكثير من الصور”.
كان ذلك تأسيسا مبدئيا لنسف الصورة المتعارف عليها للرئيس والمكتب البيضاوي، لتصبح الصورة الجديدة في الفيلم رئيسة متأخرة ومستهترة، ودائما تتخذ القرار من مكتب صغير مع فريق أحمق، خاصة بحضور ابنها “جايسون أورليان” الذي هو في الوقت نفسه رئيس الأركان.
“هذا المكان مليء بغريبي الأطوار”.. تحطيم صنم الرئيس
أبدعت الممثلة الكبيرة “ماريل ستريب” التي أدت دور الرئيسة “جاني أورليان” في تصوير شخصية سطحية ولا مبالية توحي كثيرا بشخصية “دونالد ترامب”، ليتتالى بعد ذلك على طول الفيلم الاستهزاء بصورة الرئيس الأمريكي وتحطيم صنم وطنيته وأخلاقه العالية، وذلك من خلال بعض الجمل التي وردت على ألسنة الشخصيات، مثل “دبياسكي” عندما وجهت كلامها لزميلها “ميندي” في اجتماع مع الرئيسة قائلة “علينا المغادرة، هذا المكان مليء بغريبي الأطوار”.
أو ما جاء على لسان رئيس الأركان حين قال “الناس يعشقون رؤية شخص جذاب يدخن، ما من رئيس آخر أود رأيته في مجلة بلاي بوي”، وهي مجلة معروفة بالصور الخليعة وخلفياتها الجنسية.

أما اللقطة الأكثر طرافة وسخرية ورمزية هي لقطة الرئيسة وهي تشعل سيجارتها أمام لوحة كتب عليها “سريع الالتهاب”.
“دايلي ريب”.. حين يتعامل الإعلام مع العالِم كأنه عارضة أزياء
لم يتوان الفيلم عن طرح قضية جدلية أخرى وهي الإعلام، وكيف تحول من مفهوم الإخبار بالحقيقة والمعلومة إلى عكس ذلك تماما، أي “عدم الإعلام”، ونقصد بذلك أن الإعلام أصبح بضاعة ربحية لا غير، يمكن تتفيهه والتلاعب به وحتى تحطيمه ليصبح مجرد سهم في بورصة “وول ستريت”، أو رقما لاحتساب نسبة المشاهدة.
وهو ما حدث فعلا عندما تخلت جريدة “نيويورك هيرالد” عن قصة المذنب لأنها لم تحقق المتابعات المرجوة على الإنترنت، في حين أن الأخبار التافهة المتعلقة بحياة المشاهير وفضائح السياسيين طغت وأصبحت المقياس الأوحد للإعلام الربحي.
برنامج “دايلي ريب” الأكثر مشاهدة هو مثل هذا النوع من الإعلام الذي تحدثنا عنه، فمنذ دخول العالِمين إلى البرنامج الذي استضافهما للحديث عن المذنب أصبحا مجرد شيئين ثانويين يستعملهما البرنامج للرفع من نسبة المشاهدة، فقد تحول “ميندي” و”دبياسكي” إلى مجرد صورة خاضعة لمقتضيات البرنامج، فأخرجهما من صورة العلماء إلى صورة أشبه بصورة عارضة أزياء أو أحد مشاهير الإنستغرام، ورغم خطورة الخبر وجدّيته، فإن مقدما البرنامج “كلا بري” و”جاك” لم يولياه أدنى أهمية، بل على العكس من ذلك فقد جعلاه مصدر طرافة وسخرية.

والأكثر من ذلك -وهي رسالة مقلقة مررها “أدام مكاي” في الفيلم- أن الإعلام اليوم يمكن أن يستقطب العلم إلى جانبه الفاسد والسطحي، فقد أصبح العالم “راندال ميندي” مجرد وسيلة في يد الإعلام الفاسد يطوّعها كما يشاء، خاصة بعدما أغوته مقدمة البرنامج “كلا بري” ووقع معها في الرذيلة.
استغلال الأطفال.. إفساد آخر حصون المستقبل الإنساني
كان ظهور السير “بيتر ايشرويل” مالك شركة باش التكنولوجية من أول الفيلم جدليا ومستفزا، ففي تقديمه لاختراعه الجديد دخل “السير بيتر” مرفوقا بثلاثة أطفال يحملون “الباش لايف”، وهو جهاز يفهم الأحاسيس البشرية. إن حضور الأطفال مع العجوز “بيتر” كانت له ثلاث دلالات، أولها أنه بتقاسيم وجهه الباردة إلى حد الشر وطريقة كلامه وتفاصيل الإيحاءات؛ كان أشبه بمتحرش بالأطفال.
ثانيا مرّر المخرج رسالة مُبطنة، وهي أن الأطفال اليوم هم ضحايا التكنولوجيا وعبيدها، فالخروج من الانتماء الطبيعي للطفل -وهو العائلة والمدرسة- ووضعهم في إطار مناقض في الفيلم حاملين أجهزة تكنولوجية في قاعة ممتلئة مع مخترع غريب الأطوار؛ هو ناقوس خطر لما آلت له الطفولة اليوم.

أما الرسالة الثالثة فهي أن الأطفال أصبحوا وسيلة للإنتاج والتسويق والاستغلال، ولا يخفى أن الأرقام في هذا الصدد مفزعة، فبحسب تقرير اليونيسيف الصادر في يونيو/حزيران 2021 فإن عمالة الأطفال ارتفعت إلى نحو 160 مليون طفل، وبالطبع توجهت أصابع الاتهام أيضا إلى عدة شركات تكنولوجية كبرى، فعلى سبيل المثال اتهمت جماعات مدافعة عن حقوق الإنسان شركة “غوغل” و”مايكروسوفت” و”آبل” و”تيسلا” باستغلال الأطفال عمدا في عدد من الدول مثل الكونغو.
“اجتماعي سياسي جاد يقدم ككوميديا”.. جدلية العلم والأخلاق
تواصل في الفيلم حضور السير “بيتر” صاحب شركة التكنولوجيا العملاقة، لكن هذه المرة لطرح سؤال فلسفي بدأ في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وهو هل يجب على العلم أن يكون أخلاقيا؟
أجاب “أدام مكاي” بكل وضوح على هذا السؤال بأن العلم اليوم هو نفعي براغماتي ولا أخلاقي، وقد رأينا ذلك في الاجتماع الذي ترأسه السير “بيتر”، ليبين أن المذنب هو منجم لمواد نادرة على كوكب الأرض ويجب استغلاله، وقد أجابت العالِمة “دبياسكي” على جدلية العلم والأخلاق بجملة بسيطة تقول: يتحدثون عن السماح لمذنب بحجم جبل بأن يصطدم بكوكب الأرض لرفع أسهم شركات هواتف خلوية.
وهو أيضا ما عبر عنه العالِم “مايكل أي مان” مدير مركز علوم الأرض بجامعة بنسلفانيا، فقد علق على الفيلم قائلا: الفيلم هو تعليق اجتماعي سياسي جاد يقدم ككوميديا، إنه يتعامل مع كيفية تجاهل الأدلة الدامغة على وجود تهديد علمي لأسباب سياسية وفكرية، ويناقش مدى قوة جماعات الضغط التي يحركها الربح، إذ يمكن أن تعطل العمل الجيد عندما لا يناسب مصالحهم، ويعزز ما يسمى بالحلول الزائفة التي يمكنهم الاستفادة منها.
في العشرية الأخيرة وخاصة بعدما بدأ انتشار فيروس كورونا، أصبح الواقع المرير الذي تعيشه البشرية في هذا العصر بكل ما فيه من أزمات، مثل أزمة المناخ والأخلاق والفساد والحرية؛ مادة دسمة لصانعي الأفلام حول العالم، ورغم أن فيلم “لا تنظر إلى الأعلى” ليس الوحيد الذي خاض في مثل هذه الأزمات وفي مسألة الإنسان وما بعد الحداثة، فإنه الوحيد الذي جمعها كلها فعلا في نفس العمل، ووجد الوصفة المناسبة لتمرير رسائل ذكية بهذه الدرجة.
في الأخير وجد “مكاي” أن العائلة والدين هما اللذان يهبان السلام الحقيقي للبشرية.