محمد صلاح.. ابن الريف المصري الذي غدا ملك الدوري الإنجليزي

د. أحمد القاسمي
لأننا نحب الحياة نذهب إلى السينما، ففيها نجد الفن العذب والحكايات الساحرة والمواقف المستطرفة، وفيها نجد النماذج التي تساعدنا على الحلم، وبالمقابل ولأننا مجبرون على أن نعيش الحياة نلوذ بكرة القدم، فهي لا تسلب عقولنا، فنُقبل عليها ذلك الإقبال بلا سبب، فيها نجد النماذج التي تساعدنا على تحمّل الواقع بكل قسوته ومصاعبه.
أبرز نماذج كرة القدم هذه الأيام هو اللاعب المصري محمد صلاح، فهو لا يساعدنا على تحمّل وجع الحياة فحسب، وإنما يرتقي باللحظة إلى عوالم الحلم، وباللعبة إلى قمم الفنّ. وهذا ما يعْرضه الفيلم الوثائقي “محمد صلاح حكاية خرافية لكرة القدم” للبريطاني “بول كينغ”.
محمد صلاح.. نموذج العربي الساطع في سماء الكرة الأوروبية
لم تعد كرة القدم مجرد لعبة منذ اختطافها من قبل مؤسسات المال من الفقراء، فقد بات تحويل اللاعبين إلى نجوم صناعة تحتكرها آلات الدعاية وشركات الاستثمار والرهانات أمرا لا يستطيع أي كان أن يخترقه. والأمثلة التي يمكن أن نعرضها هنا أكثر من أن تعدّ، ولعلّ صيحة الفزع التي أطلقها الكاتبان “أنطوان دوميني” و”فرانسوا ريفان” عام 2016 في كتابهما المشترك “لقد سرقوا منّا كرة القدم” لا تزال ترنّ في الآذان.
وفي هذا المشهد القاتم ظهر اللاعب المصري محمد صلاح ليكسر القاعدة ويمثل ظاهرة فريدة، فرغم افتقاده لآلات صناعة النجوم وعدم تبنيه من قبل مؤسسات الاستثمار، ورغم روح العداء والعنصرية الظاهرين أو المُضمرين اللذين يواجه بهما اللاعبون العرب، فقد استطاع أن ينتزع لنفسه مساحة في نشرات الأخبار، وأن يُدير إليه عدسات البرامج الرياضية، وأن يتحوّل إلى نموذج للعربي المسلم الذي يفرض نفسه، وإلى نجم ساطع في سماء الكرة الأوروبية، فيجد فيه العامل العربي الذي يطرق أبواب الهجرة للعمل، والباحث الذي يطرق أبواب الكليات الأوروبية ليتعلّم، والمستثمر الذي يحلم بأن ينافس نظراءه الأوروبيين؛ حافزا ليحقّق مثل نجاحه.
يفهم صناع الفيلم هذه الحقيقة جيّدا، لذلك يستهلّون عملهم بتقديم صورتين متكاملتين له، أولاهما تشكيلية من فن “الغرافيتي” لمحمد صلاح يتوسط المارة باسما محتفيا بنجاحه، والثانية ذهنية تتشكل عبر شهادات المستجوبين، فتعرض لنا سيرته وقد اكتسب حُب الجماهير، ونجح في رفع التحدي بعد أن عاد إلى الدوري الإنجليزي من بوابة فريق “ليفربول”، وفاز بجائزة أفضل لاعبيه، وثأر لنفسه من تجربة أولى مؤلمة له.
من نوادي الأرياف إلى العاصمة.. بدايات مرهقة
يعود الفيلم إلى بداية محمد صلاح في قرية نجريج الريفية المصرية الواقعة في المركز من دلتا النيل، ويحاول أن يُعيد رسم بدايته من خلال شهادات رفاقه ومدربيه، فيقدمونه طفلا موهوبا يُولد ذات صيف من عام 1992، زاده الحلم وعلامات تشهد له بالمهارة والعبقرية.

وربما من حظّه أن والده كان لاعبا سابقا لكرة القدم، فقد منح ابنه الإحاطة والرعاية اللازمين، لكن ما أن بلغ 14 سنة حتى تأكد من أن حلمه كان أوسع مما يحتمله ناديا اتحاد “بسيون” و”عثماثون طنطا”، فأخذ الطريق إلى القاهرة التي تبعد حوالي 125 كلم عن قريته الزراعية، وانضم إلى نادي “المقاولون العرب” سنة 2006.
لم يكن من الهيّن على صلاح أن يتلاءم مع ظروفه الجديدة، ولم تكن ملاحقة حلم النجاح بلا ثمن، فإقامته في القرية كانت تكلفه نحو تسع ساعات يوميا بين الذهاب والإياب.يذكر زميله عندئذ محمد أبو الحطب إنه كان يصل أحيانا إلى منزله في حدود الواحدة صباحا، ومع ذلك استطاع أن يصعد سريعا من صنف الشباب إلى صنف الأكابر، وأن يخوض أول مباراة له في الدوري الممتاز في نهاية الموسم الرياضي 2009-2010، وأن يقود الفريق إلى تحقيق انتصارات مهمة، وأن يلفت أنظار مكتشفي المواهب.
كان محمد صلاح في طريقه إلى نادي الزمالك، لكنّ تردد مسؤوليه كان شرّا كرهه وهو خير له، فقد أفسح له المجال لينتقل إلى أوروبا مع نهاية الموسم 2011-2012، وفتح له باب المجد واسعا.
أفضل لاعب في الفريق.. عودة المتألق إلى إنجلترا مرة أخرى
أخذ الفتى طريقه إلى سويسرا، وانضم إلى فريق “بازال”، وكان موسم 2012-2013 وموسم 2013-2014 كافيين ليثبّت أقدام موهبة صاعدة تغري فريق “تشيلسي” تحت قيادة المدرب البرتغالي “جوزيه مورينيو” بضمّه، رغم ما كان يزخر به من نجوم، مثل “دومينيك سولانكي” و”إيدين هازارد” و”جواو ليناردو رودريغيز”.

كان التحدي الذي واجهه صلاح شائكا بالفعل، فلم يشارك أساسيا إلا نادرا، واقتصر ظهوره في موسمه الأول على مرات قليلة جدا، وعقّدت أزمة التجنيد التي واجهها وضعيته أكثر في موسمه الثاني، ليذهب إلى الدوري الإيطالي مُعارا إلى “فيرونتينا”، ثم إلى نادي “روما”، ثم انتسب إليه في الموسم 2016-2017.
هناك أمكنه أن يستأنف رحلة النجاح من جديد، فاختير كأفضل لاعب في الفريق، وفُتح له باب العودة إلى الدوري الإنجليزي من جديد عبر فريق “ليفربول” الذي كان يمنّي النفس بالحصول على توقيعه منذ برز في فريق “بازل” السويسري.
“تشيلسي”.. أداء هش في كتيبة مدججة بالنجوم
هل أخطأ “تشيلسي” في تقدير موهبة محمد صلاح، هل فشل “مورينيو” في إخراج أفضل ما لديه من المهارات؟
تفرض هذه الأسئلة نفسها على صنّاع الفيلم إثر أدائه المذهل مع فريق “ليفربول”، ويحاول “فرانك لامبارد” أحد نجوم الفريق حتى 2013-2014 أن يتفهّم الوضعية بهدوء، فصلاح لم يكن قد نضج حينها، زد على ذلك أنه فقد الكثير من ثوابته بالانتقال من فضاء ثقافي واجتماعي إلى آخر، أما فريق “تشيلسي” فكان كتيبة مدجّجة بالنجوم الكبار، ولا يمكن أن يقارن بفريق “بازال” بأي حال.

وعلى خلافه يظهر الجرح النرجسي العميق على صلاح نفسه إثر قول البعض إنه لا يصلح للدوري الممتاز، وقد كان كارها لشرّ وهو خير له مرّة أخرى، فمروره بالدوري الإيطالي كان خطوة إلى الوراء جعلت قفزته إلى الأمام أكبر، وجعلت انضمامه إلى فريق “ليفربول” مصدر أمل جديد للفريق، وإعادة بعث له على المسرح الإنجليزي والأوروبي معا بعد انحسار دوره رياضيا وماليا. فلم يقده صلاح إلى تحقيق البطولات فحسب، وإنما جعله أقدر على المراهنة على أقوى الصفقات، وفرض كلمته في انتقالات اللاعبين، كما جعله ممثلا في مسابقة أفضل اللاعبين في العالم.
“لقد كان المثال الذي كنّا نبحث عنه لكل البريطانيين”
لم تكن عودة صلاح إلى “البريمير ليغ” وتألقه اللافت مع “ليفربول” حدثا رياضيا صرفا، فبفضل انضباطه وتواضعه وشخصيته المسالمة قدّم صورة إيجابية عن الشباب المسلم، وأسهم في الحدّ من تدهورها بسبب ما يطرأ من الأعمال الإرهابية هنا أو هناك، ولا يخفي مديره الفنيّ “كلوب” إعجابه بالتزامه الديني وبانسجامه مع المجموعة في الوقت نفسه.
لكن التأثير الأبرز نجده في أهازيج الجماهير وهي تتغنى به، حيث تقول كلمات إحدى الأغاني: “أريد أن أكون حيث يوجد، فإذا كان يجلس في المسجد فآمل أن أكون هناك أيضا”، أو “إذا سجّل أهدافا أخرى فسأصبح مسلما بدوري، فإن أسلمت يوما فسيعود الفضل إلى صلاح”.
ويقول عنه الشيخ غالب خان إمام أول مسجد شيد في إنجلترا (ذلك الذي بناه الشيخ عبد الله كويليام) “لقد كان المثال الذي كنّا نبحث عنه لكل البريطانيين”. ولا جدال في قوله، فبفضل عبقرية صلاح أصبح المسلمون يشعرون بكونهم جزءا من المجتمع الإنجليزي، وبفضله أيضا تجاوز النقاش المفهوم الضيّق المحرّف للتّدين، ليصبح دافعا لتأليف القلوب والحث على التسامح والقبول بالآخر.
كرة القدم.. ملحمة أفراد يحاولون قهر الصعاب
هل كرة القدم لعبة تشغل الجماهير عن مشاكلها اليومية، وتجلبها إلى شباك التذاكر، وتوفر الهدوء إلى كراسي الحكام كما يراها البعض؟

يجعلنا الفيلم نفهم أنها أكثر من ذلك بكثير، فليس العرض البصري والتنافس الجسدي منها سوى الطبقة السطحية، ووراء “محمد صلاح الذي يركض مع الرياح” كما تقول الأغنية التي غدت شعبية بين مشجعي “ليفربول”، ووراء الشباب المصري ليتحدى الصعاب ويجوب الميدان طولا وعرضا ليمنع الكرة من ولوج مرماه، أو يلاحقها ليدفع بها داخل شباك المنافس؛ سيرٌ ورموزٌ ونماذجُ وحكاياتٌ مختزلة لصور كثيرة من الحياة الواقعية.
لعل فيها شيئا من الفلّاح وهو يزرع أرضه ليطعم أبناءه، ومن البحّار وهو يغامر فيصارع الموجة لينثر شباكه بحثا عن صيد، ومن العامل وهو يهوي بالمطرقة ويفل الحديد ليبني الصروح الشاهقة، ومن الجندي الذي يحرس بوابة المدينة لينام الأهالي آمنين.
إنها ملحمة أفراد يحاولون قهر الصعاب،وشعوب تبحث عن كينونتها الجماعية، والفيلم يعي ذلك جيّدا، فيسعى إلى إبراز السمات الملحمية “للملك المصري”، مبرزا دوره في خلق النماذج الإيجابية التي تساعدنا على تحمّل الواقع، وتدفعنا إلى السفر في الحلم كالسينما تماما.
“مو صلاح”.. بطل قومي ينتزع قسيمة الانتخابات
لقد كان محمد صلاح صاحب الشخصية القيادية التي تؤمّن العبور إلى كأس العالم روسيا 2018، وبطلا قوميا يتسامى على الاختلافات الدينية والسياسية، حتى يبقى عنصرا موحدا للمصريين.
ومن الطرائف الدالة التي يعرضها الفيلم أن مليون مصري قاموا بشطب اسمي مرشحي الرئاسة عبد الفتاح السيسي وموسى مصطفى موسى من قسيمة انتخابات 2018، وإضافة اسم “مو صلاح” والتأشير عليها.

ولا نرى أن ما حدث يعكس عدم مبالاة بالعميلة الانتخابية، بقدر ما يعلن رفض الناخبين للطبقة السياسية القائمة، والحلم بقادة مثل نجاح محمد صلاح، فمن يشارك في الانتخاب ويدخل الخلوة، لا شكّ أنه يأخذ العملية الانتخابية مأخذ الجدّ.
“الملك رمسيس”.. صورة المصري البسيط تكسب وجدان الإنجليز
كان لمحمد صلاح دور كبير في نشر صورة إيجابية عن البلاد عبر العالم، فقد أضحى يُكنى “الملك المصري”، وبات متابعوه يربطون نجاحاته بجنسيته المصرية، فتحوّل إلى قاطرة تجرّ البلاد بأسرها، بينما لا ينجح نجوم آخرون في انتزاع هذه الرمزية، فيظلون نجوما فرادى.
لهذا فصورته وهو في زي “الملك رمسيس” إسهام في الترويج لمصر باعتبارها وجهة سياحية واستثمارية بلا شك، أما على المستوى الاجتماعي، فعلى خلاف ما يفعله كثير من المغتربين العرب من ذوبان في المجتمعات الاستقبال، أو من صدام وعجز على التلاؤم معها؛ ظلّ صلاح رغم الشهرة والمجد ذلك المصري البسيط المعتزّ بمصريته، والمنخرط في سياقه الجديد انخراطا فاعلا منتجا منفتحا على الآخر.
ويؤكد الفيلم نجاح محمد صلاح الباهر في كسب وجدان الإنجليز، ولست أدري وجه الشبه في هذا الإنجاز بحكاية الشاعر المصري يونس قاضي (أو بديع خيري في روايات أخرى) الذي كان مناهضا لاحتلال الإنجليز لبلاده، وردا على توبيخ وزير الداخلية الذي انتقد مواقفه الثورية سنة 1919كتب كلمات الأغنية الخالدة التي لحنها سيد درويش:
أهو ده اللي صار- وآدا اللي كان ملكش حق- ملكش حق تلوم عليَّ
تلوم عليا إزاي يا سيدنا وخير بلدنا مهوش في إيدنا
إيدك في إيدي وقوم نجاهد، و بدال ما يشمت فينا حاسد، واحنا نبقي الكل واحد
والأيادي تصير قوية
وها هو ذا محمد صلاح المصري يسطو على الكرة التي ابتكروها هم بعد قرن من تلك الحادثة،لكنه لا يبيد شعوبا أو يدمر أوطانا أو يسلب خيرات، فبها يسحر الإنجليز ويدفعهم إلى الحلم.