“أبناء الشمس”.. بحث عن كنز موهوم في العالم السُفلي لأطفال إيران

د. أحمد القاسمي

غالبا ما تحقّق أفلام المخرج الإيراني مجيد مجيدي النجاحات المعتبرة في التظاهرات العالمية، وتُخلّف الانطباع الحسن في نفوس متفرجيها، ولعلّ فيلمه الجميل “أبناء السماء” (Children of Heaven) (1997) يكون عيّنة ممثلة لإبداع الرجل، فبفضله حاز على جائزة أفضل صورة في مهرجان مونتريال “أفلام من العالم” عام 1998،ونافس بقوة على أوسكار أحسن فيلم أجنبي.

كما مثّل فيلمه “لون الفردوس” (The Color of Paradise) (1999) نجاحا مهما بدوره، وغالبا ما تمثل إبداعاته صداعا في رأس النظام، وذلك لما تتسم به من جرأة في الطرح وعمق في تشخيص هنات السياسة الإيرانية، والمهارة في مراوغة مقصّ الرقيب.

عصابة الأطفال.. عودة إلى المدرسة للبحث عن الكنز

يمثل فيلم “أبناء الشمس” (Sun children) آخر إبداعات المخرج، فقد عُرض للجمهور أول مرة سنة 2020، وكما في “أبناء السماء” يتناول هذا الفيلم موضوع الطفولة الهشة عبر متابعة سيرة الأطفال علي وماماد وأبو الفضل ورضا، وكلهم تركوا مقاعد الدراسة لما واجهوه من الإهمال والتحقوا بسوق الشغل مبكرا، فجمعتهم ورشة لإصلاح إطارات السيارات.

 

لكن إحدى العصابات تستغل ظروفهم الهشة وأحلامهم الصغيرة، فتكلّفهم بالبحث عن كنز مطمور تحت بناية مدرسة الشمس التي تضم الأطفال المشردين وينفق عليها المحسنون، ويرسم رئيس العصابة الخطّة بدقّة، فلا بد أن يلتحق هؤلاء الصبية بالمدرسة بتعلة تدارك زمنهم، ومن دهاليزها وفي أوقات الاستراحة يأخذون في الحفر، وبالفعل ينتهي قائدهم إلى “الكنز المقصود” بعد تخطي عقبات كثيرة، لكنه كنز مخالف لكل توقّع.

شكّل الفيلم نجاحا سينمائيا جديدا لهذا السينمائي البارع، فمثّل إيران في حفل توزيع جوائز أوسكار للعام 2021، وحاز الفتى روح الله زماني (14 عاما) الذي جسّد شخصية علي قائد الصبية، والطفلة الأفغانية اللاجئة شاميلا شيرزاد (13 عاما) التي جسدت شخصية بائعة تعمل في قطار الأنفاق؛ على جائزة أفضل ممثلين شابين في مهرجان البندقية.

أبطال التشرد.. تجسيد لمفاهيم الشعارات السينمائية

يمثل فيلم “أطفال الشمس” امتدادا لنهج مجيد مجيدي في ابتكار حكايات الطفولة، وعبر سبابة سرية يوجه المتفرّج إلى قضاياها، فقد كتب في إهداء الفيلم ما يلي: “إلى 152 مليون طفل عامل حول العالم، وإلى كل من يناضلون من أجل حقوق هؤلاء الأطفال”.

وجاءت الأحداث مؤكدة لهذا التّوقّع، فعرض وجوها من تشرد الصبية وبيّن تبعات انتزاعهم من طفولتهم والإلقاء بهم في عالم الكبار، فعلى خلاف التشريع الدولي الذي يضع الأطفال على رأس الشرائح الهشة في المجتمعات، وعلى خلاف الدول المتقدمة التي تضعهم في مقدمة أولوياتها؛ يبدو أطفال الشمس ضحية للمجتمع والدولة في الوقت نفسه، فافتقادهم لحماية الدولة صرفهم عن المدرسة وقادهم إلى التشرد، وانتهازية المجتمع استغلتهم في الأعمال الشاقة، وجشع رجال العصابات استدرجهم إلى عالم الجريمة.

الأطفال المختارون في الفيلم هم أطفال الشوارع الذين يواجهون ظروفا قاسية في إيران

 

وما يُحسب للمخرج مجيد مجيدي هو تعويله على أطفال شوارع حقيقيين، وتحويله السينما إلى ورشة لتأهيلهم نفسيا ومهاريا، وعهده لهم بالأدوار الرئيسية في فيلمه، فيجسّد عمليا البُعد النضالي الذي يعلنه السينمائيون، ولا يقتصر على رفع الشعارات والمبادئ بطريقة متعالية، ويضيف إلى السينما فضلا عن الفن والصناعة بُعدا اجتماعيا، ويقدّم نموذجا حيّا لكيفية إنقاذهم من براثن الاستغلال والانحراف، ومواجهة ظروفهم القاسية، ومنحهم الحق في التعلّم وتنمية المواهب.

مسبح الشمس.. دلالات النور والحياة والإرث الفارسي

يختزل المخرج مأساة هؤلاء الأطفال في لقطة الغطس ذات التشكيل الجمالي البديع التي تورد في بداية الفيلم، فيصورهم وهم يمرحون في المسبح الدائري الذي يبدو أقرب إلى صورة شمس في حالة استرخاء، ثم يأتي الرقيب فينهرهم ليهربوا بعيدا.

وجه الإبداع في هذا التشكيل البصري المعبّر، ففي الشمس دلالة على النور والحياة، والموروث الفارسي ذو الصلة بالمعتقدات الزرادشتية يجعلها رمزا للقداسة، وطرد “أبناء الشمس” من شمسهم حرمان لهم من حقهم في النور وفي الحياة.

التشكيل البصري للمسبح يشبه الشمس، ففي الشمس دلالة على النور والحياة، وطرد “أبناء الشمس” من شمسهم حرمان لهم من حقهم في النور وفي الحياة

 

وتؤكد أحداث الفيلم هذه الدلالة، فجشع العصابات وعدم مبالاة المجتمع سيستغلان هشاشة هذه الفئة، فهما يرسلان بالصبية إلى العالم السفلي، حيث عالم الأنفاق والظلمات بحثا عن الكنز الموهوم.

شوارع طهران.. تلقائية الممثلين الملتقطين من الواقع

بحث المخرج مجيد مجيدي عن ممثليه في شوارع طهران، فعهد إلى روح الله زماني بتجسيد دور علي، ذلك الطفل الذي يُحرق منزل عائلته، فتهلك أخته في الحادث وتجنّ أمه لهول ما أصابها، ويختار محمد موسوي لدور ماماد الذي يعاني من إهمال أسرته، وماني غفوري لدور رضا المولع بكرة القدم الحالم بعالم الشهرة والنجومية، والأخوين أبو الفضل وشاميلا شيرزاد الأفغانيين لدوري أبو الفضل وزهراء الشقيقين الأفغانيين اللاجئين.

لقد اختار مجيد مجيدي “ممثلين طبيعيين” لشخصياته، والممثل الطبيعي شخص يُلتقط من الشارع، فينتخب لتماثل حياته مع تصوّر السيناريو للشخصية ولتجربتها، ويدعى إلى التصرّف بفطرته، ولا ينجح المخرج في مسعاه في توظيفه التوظيف الجيد، إلا إذا ما دفعه إلى التصرّف بتلقائية، ووفق في إبقائه بعيدا عن مراقبة ذاته.

المخرج مجيد مجيدي اختار “ممثلين طبيعيين” لشخصياته، والممثل الطبيعي هو شخص يُلتقط من الشارع لتماثل حياته مع تصوّر السيناريو للشخصية ولتجربتها

 

وقد ظهرت هذه النزعة لدى مخرجي الواقعية الإيطالية في ما بعد الحرب العالمية الثانية بعد تدمير جيش الحلفاء للأستديوهات التي كانت تمثل وسيلة “موسوليني” في الدعاية لنظامه الفاشي، وتواصل اعتمادها من قبل سينما المؤلف والسينما غير الاستهلاكية عامة.

محل الفلافل ومغسلة السيارات.. أحلام الكنز الموعود

تدعونا الأمانة إلى الاعتراف بأنّ مجيدي قاد بإتقان هؤلاء الأطفال إلى التحكّم في إيقاع أجسادهم، وتطويع نبرات أصواتهم، وترويضهم للانسجام مع متطلبات الشخصية المجسدة، وللنفاذ إلى عالمها الباطني النفسي والذهني.

بالمقابل منح هؤلاء الأطفال من عالمهم الحيوية الضرورية التي تحتاجها السينما والمغامرات التي ينشدها المتفرجون، مثل المناكفات بين التلاميذ والملاحقات في الشوارع، لكن تبقى المهمة الأساسية التي انتدب من أجلها هؤلاء الأطفال هي الأقدر على شدّ أنفاس المتفرّجين، وهي التسلل إلى أنفاق المدرسة والحفر فيها بحثا عن الكنز المفقود، وربما اكتسب هؤلاء الأطفال عطف المتفرّج وهم يعرضون أحلامهم الصغيرة التي يتطلعون إلى تحقيقها، بعد أن ينالوا نصيبهم من الكنز الموعود، فيحلم أبو الفضل بفتح محل فلافل، ويحلم ماماد بامتلاك مغسلة للسيارات.

“أبناء السماء”.. عالم الأطفال المميز للسينما الإيرانية

بين السينما الإيرانية والأطفال صلات وشيجة، فلما انغلق باب الحرية أمام السينمائي الإيراني، وضاقت قائمة المواضيع المسموح بها، واتسعت قائمة المحظورات؛ وجد السينمائيون في الطفولة سبيلا للتسلل إلى قضايا المجتمع الحارقة. كذلك شأن “فريال بهزاد” في فيلمها الأول “كاكلي” (Kakoli )، وأبو الحسن داودي في “الرحلة السحرية” (Safar-e Jadui)، وعلي سجادي حسيني في “مدرسة العجائز” (The Old Men’s School).

 

لكن يظل فيلم “أبناء السماء” للمخرج مجيد مجيدي أكثر هذه الأفلام شهرة وإتقانا كما أسلفنا الذّكر، ومختصر قصّته أن الصبي علي يُضيع حذاء شقيقته زهراء بعد أن أخذه من محل الإسكافي، ويُؤَجَّج تشويق المتفرّج على مدار الفيلم وهو يتابع تواطؤ الأخوين لإخفاء الأمر عن الأب خوفا من عقابه، وحرجا من فقره وعجزه عن توفير الدواء لأمهما المريضة وعن دفع الإيجار. فلا يجد الطفلان سبيلا غير التداول على ارتداء حذاء علي للذهاب إلى المدرسة، ويواجهان صعوبات جمة في تنسيق هذا التقاسم بما يناسب حاجتهما وأوقات دراستهما.

من البيّن هنا أن مجيدي يتعمّد التلميح إلى فيلم “أبناء السماء”، واستثمار نجاحه الباهر وهو ينجز فيلم “أبناء الشمس”، ولا تتجلى هذه الرغبة في تشابه عنواني الفيلمين فحسب، وإنما في تماثل تسمية بطليهما علي وزهراء، وعبرهما يجعل من الطفلين رمزا لعامة الأطفال الإيرانيين، فكل الصبيان هناك يسمون عليّ، وكل البنات يسمين زهراء.

ولا يسعنا هنا إلا أن نتذكر في هذا السياق الفيلم “كل الآخرين يسمون عليّا” الذي أنتج 1974 للمخرج الألماني “روني وارنرفاسبندر”، ويعرض محنة العنصرية التي يواجهها المهاجرون المنحدرون من بلدان شمال أفريقيا في ألمانيا.

كيس المخدرات.. كنز موهوم يكشف عن كنوز عميقة

جاء الترميز في الفيلم مضاعفا، فالعقبات تُقصي تباعا أفراد المجموعة الباحثة على الكنز بتعلات مختلفة، فماماد يرافق والده، وأبو الفضل يعود إلى أفغانستان مع قوافل اللاجئين العائدين إلى بلادهم، ليظل الطفل علي يلاحق أمله وحيدا، وعندما يتخطى كل العقبات يقع على الكنز المفقود، وتكون هنا المفاجأة الكبرى التي عمل السيناريو على تأجيلها، فالعصابة كانت تستغلّ براءة الأطفال لاستعادة كيس من المخدّرات كان أحد أفرادها قد ألقاه في بالوعة الصرف الصحي للتخلص من ملاحقة الشرطة.

علي يبحث عن الكنز في السفلي تحت مدرسة الشمس عن كيس المخدرات الذي طلبته منه العصابة

 

عندها يكتشف المتفرّج أن الأطفال كانوا يضيعون جهودهم هدرا في البحث عن كنز موهوم، والحال أن الكنز الحقيقي كامن في دواخلهم وفي الطاقات التي يمتلكونها، فأبو الفضل يتفوق في العلوم الذهنية من رياضيات وهندسة وفيزياء، ورضا وهب مهارة كرة القدم، وعليّ يتفوق على أستاذه في المسائل التقنية.

ولا تنتظر هذه الكنوز المدفونة غير عمل الدولة والمجتمع على النبش فيها، وتعهّدها بالتنمية عبر التربية السليمة، ومقاومة الهدر المدرسي والتصدي لأسباب انحراف الناشئة.

“كنز بغداد”.. قصة من حكايات ألف ليلة وليلة

تورد حكايات “ألف ليلة وليلة” في الليلة الحادية والخمسين بعد الثلاثمئة حكاية بغدادي افتقر بعد غنى، وكان يرى في المنام مَن يقول له: اذهب إلى مصر، وستجد هناك كنزا، فيسافر، وهناك يضبط مع المتسكعين، يسأله الضابط عن علة مجيئه، فيخبره بسره.

فيجيبه: يا قليل العقل، كيف تصدق ما تقوله الأحلام؟ لقد حلمت مثلك بكنز في بغداد في المحلة الفلانية والشارع الفلاني، تحت سدرة في بيت فلان، لكنني لم أكن غبيا مثلك لأذهب. والآن خذ هذه القروش وعد إلى بغداد. فإذا به يصف داره، وعند عودته إلى منزله يذهب إلى المكان الذي وصفه الشرطي ليجد الكنز الموعود.

 

والقصة نفسها تورد في شكل خبر أدبي تورد بعنوان “غناك بمصر فاذهب إليها” في أثر “الفرج بعد الشدة” لأبي الفرج التنوخي، ثم يقتبسها الكاتب الأرجنتيني “بورخس”، ومنها استلهم الكاتب البرازيلي “باولو كويلو” روايته العالمية “الخيميائي”.

ها هو مجيد مجيدي يستلهم الفكرة ويُرحلها إلى السينما بعد أن حوّل حلم النوم إلى حلم اليقظة، وحوّل الدلالة المباشرة للقصّة من البُعد المادي للكنز إلى البعد الروحي، ونزّل القصّة في سياق اجتماعي معاصر يُعلن أن الثراء الحقيقي يكمن في الذات البشرية.

اعتقال العصابة وتحرير الحمَام.. أمل الشمس

تبدأ الحكاية قاتمة والأطفال يستدرجون في المرآب من قبل أحد كبار اللصوص لسرقة قطع غيار السيارات، وتورد الصورة من زاوية نظر الأطفال أنفسهم، أي من منظور متعاطف معهم يختلج لخوفهم، ويهتز عند الإمساك بهم، فيدفع المتفرّج إلى الانشغال بمصيرهم، والخوف عليهم من عواقب هذه المغامرة، وما يمكن أن يواجهوه من العقاب بدل تحريضه على إدانتهم.

تنتهي على صورة مدرسة الشمس شاغرة بعد أن أمسك المحسنون أموالهم، ونفّذت الدولة الحكم بإخلائها بالقوة العامة، لكن مجيد مجيدي لم يشأ أن يمعن في خلق الشعور المحبط، فيفتح نافذة على الحلم بأن جعل الشرطة تلقي القبض على العصابة، وجعل الحمام الذي يُستغل في ترويج المخدرات يُحرّر من أسره في الأسطح.

وضمّن هذه الصورة شيئا من مصير الأطفال وقد تحرّروا من سطوة مستغليهم، ثم جعل الصبي علي يصلح العطب الكهربائي الذي أعيى معلّمه،أملا في أن تستعيد الشمس توهّجها رغم الأيام الغائمة.