“خنزير”.. سعي الطاهي العجوز للتشبث بالحياة

إبراهيم إمام

يقدم “دان هارمون” على لسان بطله عابد في الموسم الخامس من مسلسل “مجتمع” (Community) مناقشة وتقييما للممثل الشهير “نيكولاس كيدج”، حيث يقول عابد عنه “إنه ممثل مركّب، فهو يقدم أفلاما مثل “الصخرة” (The Rock) و”كون إير” (Con Air) و”الوجه المخلوع” (Face off)، ويتهيأ لك أنك تفهمه، لكنه يقدم بعد ذلك “ويند توكرز” (Windtalkers) و”حارس تيس” (Guarding Tess) و”ويكر مان” (The wicker man)”، فهل هو ممثل جيد أم سيئ إذن؟”.

يكمل عابد كلامه قائلا إن “كل ممثل له تقييم ما، فبعضهم جيد وبعضهم سيئ؛ بعضهم أسوأ الجيدين مثل “جوني ديب”، والبعض الآخر هو أفضل السيئين مثل “فان دام”، فهناك تدرج للجودة، ونيكولاس كيدج يقع في مكان ما على هذا التدرج، لكن أين يقع بالضبط؟”.

 

لن نعلم إجابة السؤال في النهاية، وربما لن نعلم إجابة هذا السؤال أبدا، إن بحثا واحدا على أي محرك بحث عن نيكولاس كيدج سيؤدي إلى عشرات النتائج التي تطرح هذا السؤال وتقدم إجابات مختلفة. إن كيدج هو واحد من أكثر الممثلين غزارة في الإنتاج، حيث شارك في أكثر من 100 فيلم في 40 عاما، أي بمعدل فيلمين ونصف كل عام، ومن المؤكد أن ممثلا بهذا الكم من الإنتاج وهذا القدر من التباين في أساليب أداء هذه الأدوار، سيكون من الصعب للغاية تقييم مجمل أدائه، لكننا اليوم نواجه واحدا من تلك الأفلام التي يعتقد بسببها الجميع أنه يقع موقعا مرتفعا للغاية في فئة الممثلين الجيدين.

قصة مألوفة.. لكن من حيث لا نحتسب

نتحدث اليوم عن فيلم “خنزير” (Pig)، وهو الفيلم الأول للمخرج “مايكل سارونسكي”، والفيلم يحكي قصة بسيطة ومباشرة في واقع الأمر.

يقوم نيكولاس كيدج بأداء دور الطاهي “روبين فيلد” أو اختصارا “روب”، فهو طاه على درجة عالية من المهارة التي أدت إلى حصوله على شهرة كبيرة على نطاق واسع، حيث يعرفه كل من رغب في امتهان الطبخ في مدينته، لكن روب تعرض لحادث أليم فقد فيه زوجته. ولعدم قدرته على تحمل الألم غادر روب حياته فجأة، وخرج إلى الغابات ليعيش وحيدا مع خنزير أليف يستخدمه -كما يبدو لنا للوهلة الأولى- في البحث عن الكمأة السوداء واصطيادها، وهي فطر ينبت في الغابات بعد الأمطار، ويتميز بنكهة مميزة، وبسبب ندرته وصعوبة الوصول إليه أصبح طعاما خاصا بالأغنياء والمطاعم الفاخرة، حيث يصل سعر الكيلوغرام الواحد منه إلى أكثر من 700 دولار.

 

يجمع روب الكمأة ويعطيها لتاجر محلي يزوره بصورة دورية كي يحصل منه على الكمأة مقابل توفير بعض الغذاء والاحتياجات الأساسية البسيطة له. وفي إحدى الليالي يأتي مجموعة من الأشخاص المتشحين بسواد الليل ويختطفون خنزير الكمأة الخاص بروب، مما يدفعه إلى رحلة طويلة يبحث فيها عن خنزيره. ويواجه روب في رحلته نادي قتال يقع في الطابق تحت الأرضي لفندق قديم مُهدّم، ويواجه رجل أعمال شديد الثراء يسيطر على تجارة الكمأة.

يقدم لنا الفيلم شخصية رجل فقد زوجته وقرر اعتزال العالم ومعايشة حزنه العميق لفقدها، وفي عزلته لا يأنس هذا الرجل إلا بحيوانه الأليف، وعندما يفقد مصدر أنسه الوحيد يضطر إلى الخروج من عزلته والعودة إلى عالمه القديم وكشف بعض العلاقات الخفية، واستخدام مهاراته الاستثنائية من أجل استعادة ما فقده.

إذا كنت تشعر أن هذه القصة مألوفه فلأنها تنطبق على عدد كبير من الأفلام، مثل فيلم “خارج عن القانون” (Desperado)، و”رجل يحترق” (Man on fire)، وأخيرا سلسلة الأفلام الشهيرة “جون ويك” (John Wick). لكن سارونسكي يبهرنا بوضعه هذه القصة في قالب مختلف تماما، فبينما تشترك هذه الأفلام كلها في كونها تنتمي لأفلام الحركة والإثارة، وتتميز بالكثير من المشاهد القتالية، إلا أننا لا نشاهد في فيلم خنزير أي مشاهد عنف تُذكر، بل إن المهارات الخاصة التي يمتلكها بطل الفيلم هي قدرته على إعداد الطعام.

مَهمَة بلا انتقام.. رحلة البحث عن الخنزير

على العكس من كل الأفلام التي تعرض قصة مشابهة، لا يبحث روب عن الانتقام، بل يبحث عن خنزيره فقط.

روب ينطلق سيرا على الأقدام بحثا عن خنزيره المُختطف

 

يواجه روب في بداية رحلته الشخصين اللذين قاما باختطاف خنزيره، لكنه يعلم أنهما كانا يؤديان مهمة لصالح شخص آخر لا يعرفونه بصورة شخصية، لذلك يستكمل روب رحلته حتى يلتقي ببعض من معارفه القدامى، وبطاهٍ محترف يدير مطعما فخما بعد أن كان تمليذا لروب في السابق، حتى يصل إلى نهاية الخيط، وهو رجل الأعمال المسؤول عن الحادث.

لا شيء يحدث لكل هؤلاء الأشخاص، لا يُخرج روب مسدسا وينخرط في معركة بالأسلحة النارية، ولا ينفجر غاضبا وينهال ضربا على أحدهم، لا شيء من هذا، فروب يبحث عن خنزيره فقط، وقد عبّر روب عن دوافعه ومجمل أفكار الفيلم في حديث واحد.

“روب” والطاهي البرجوازي.. حوار من طرف واحد

واحدة من المحطات التي يمر بها روب في رحلة البحث عن الخنزير هي مطعم يبدو عليه أنه ينتمي إلى فئة المطاعم الفاخرة التي تقدم وجبات لا تُغني طفلا من جوع، حيث يطلب روب طبقا، لكن الطبق لا يأتي وحده، بل يأتي مع محاضرة قصيرة من النادلة تعرض فيها فلسفة هذه الوجبة ومكوناتها.

يلتقط روب قطعة من هذه الوجبة بيده ويأكلها، بينما تقف النادلة وتنظر إليه بدهشة، وبعد لحظات قليلة من التذوق يطلب روب من النادلة التحدث إلى الطاهي، يأتي الطاهي “ديريك” ويدور بينه وبين روب حوار يعرض فيه روب جوهر ما يسعى الفيلم إلى مناقشته.

كان ديريك متدربا لدى روب، لكن روب فصله من العمل بعد شهرين فقط، وذلك لأنه لم يتعلم سلق المعكرونة إلى الدرجة المثالية. يسأل روب ديريك مجموعة من الأسئلة المباشرة والبسيطة مثل: ما هذا الطعام، وما هي فكرته، وهل تستمتع بطهيه؟

روب على يمين الصورة متحدثا مع الطاهي البرجوازي “ديريك” الذي كان يعمل متدربا لديه لكنه فصله من عمله

 

إجابة ديريك دائما ما تكون جامدة تخلو من العاطفة، حيث يعلق روب على إجابات ديريك قائلا “لقد كنت دائما ترغب في افتتاح حانة على الطراز الإنجليزي، لماذا لم تفعل ذلك؟ لماذا تهتم بهؤلاء الناس؟ إنهم غير حقيقيين، لا شيء هنا حقيقي، لا الزبائن ولا طعامك ولا النقاد، لأنك أنت شخصيا غير حقيقي، لم تهتم بما تفعله هنا، لمَ تهتم بكل هؤلاء الناس؟ إنهم لا يهتمون بك، بل هم لا يعرفونك أصلا لأنك لا تُريهم ذاتك الحقيقية، كل يوم يمر تتضاءل أكثر لأنك تعيش حياتك من أجلهم، بينما هم لا يرون حقيقتك، أنت شخصيا لا ترى حقيقتك، إننا لا نحصل إلا على قليل من الأشياء التي نهتم حقا بها”.

يمكننا فهم ملخص الفيلم في هذه الجملة الأخيرة، وهي أننا لا نحصل على أشياء نهتم بها حقا إلا قليلا، وسنفهم بعد ذلك بوضوح أكثر من روب أنه لا يحتاج إلى خنزيره للبحث عن الكمأة، فهو يستطيع إيجاده بنفسه، وهو ما يفسر مشهدا عابرا في بداية الفيلم، حيث نشاهد روب يتشمم التربة ويذوقها بلسانه بجوار جذع شجرة. إن روب يبحث عن خنزيره لأنه يهتم به، فهو رفيقه في عزلته.

أمير.. صراع على ما نكترث له حقا

يؤكد سارونسكي فكرة الأصالة في عدد من المَشاهد المختلفة طوال أحداث الفيلم، حيث يلاحظ روب أن صديقه أمير يقود سيارة غالية الثمن، بينما يستمع إلى قنوات تشرح وتتحدث عن الموسيقى الكلاسيكية بوصفها أفضل أنواع الموسيقى. ترتسم حينها مشاعر التقزز على ملامح روب بصورة تلقائية، ويقوم مباشرة بإغلاق المذياع، فقد فهم روب أن أمير لا يهتم بالموسيقى الكلاسيكية حقيقة، بل هي جزء من الصورة التي يرسمها لنفسه بوصفه ينتمي إلى الطبقة العليا التي تملك المال المتمثل في السيارة، والثقافة المتمثلة في الموسيقى الكلاسيكية.

أمير رجل الأعمال الناجح ذي القالب القاسي ينظر إلى والدته التي ترقد في حالة بين الموت والحياة

 

تمتد علاقة روب بأمير طوال عمر الفيلم تقريبا، وخلالها سيدرك روب ما يهتم له أمير حقا، فعلى الرغم من اعتنائه الشديد بسيارته ومحاولاته الدائمة للظهور بمظهر رجل الأعمال الناجح ذي القلب القاسي، إلا أن أمير يحمل مشاعر شبيهة للغاية بما يمر به روب، وهي مشاعر يتشاركها مع والده، وهو في الحقيقة رجل الأعمال الناجح الذي لا يرحم، وهو الشخص الذي يتطلع أمير ليكونه، فكل منهما يحمل شعورا عميقا بالحزن بسبب فقد ما يهتمون حقيقة لأجله، وهو والدة أمير.

لن يذكر سارونسكي الكثير من التفاصيل حول موت الأم، لكن سنعلم أنها لم تمت بشكل كامل، فجسدها يقبع في مستشفى تحت سطوة مجموعة من الأجهزة الطبية التي تمنعها من الموت، وهي الصياغة التي يستخدمها أمير، حيث يقول لأمه “لو أن أبي يتركك تموتين، ربما ستكونين بحال أفضل”. إن الموت في حالتها يبدو لأمير بوصفه الحل الأفضل، لكن والده لا يستطيع التأقلم مع الفقد، لا يمكنه التخيّل بأن يفقد زوجته التي يحبها.

صورة مكثفة.. عن معنى الحياة والفقد والحزن

بعد مرور 15 دقيقة تقريبا من أحداث الفيلم ندرك شيئا هاما، يبدو أننا أمام مُخرج موهوب لديه قدرة هائلة في إخراج صورة كثيفة لا تتميز بالجمال فقط، لكنها تحمل الكثير من المعاني، لكننا ندرك أيضا أن هناك ضعفا واضحا في كتابة الحوار، وهو السبب الرئيسي الذي يجعلنا نضع هذا الفيلم في قائمة أكثر أفلام العام الماضي تميزا وجرأة، بينما لن يدخل في قائمة أفضل الأفلام بالتأكيد.

إن الإطار العام لقصة الفيلم بالإضافة إلى صورته، مع أداء نيكولاس كيدج التمثيلي الرائع؛ مسؤولون بشكل رئيسي عن جودة الفيلم، لكن كثيرا ما ينقطع إيقاع الفيلم بسبب التمثيل الضعيف لأحد الممثلين أو الحوار المفتعل، وهما الأمران اللذان اجتمعا في الحوار السابق ذكره، فقد كان من الواضح أن ردود الطاهي لم يكن لها وظيفة سوى تهيئة الحوار حتى يقول نيكولاس كيدج فكرته.

على الرغم من نقاط ضعف الفيلم، فإنه لا يمكننا إلا أن نُحيّي إبداع سارونسكي الذي استطاع ببراعة أن يستخدم قالب أفلام الحركة وهيكل قصص الانتقام في تقديم فيلم يتحدث عن معنى الحياة وعن الفقد والحزن.

 

إن سارونسكي لا يقدم لنا ما يروي عطشنا من خلفيات الأشخاص وتاريخها لأن الماضي لا يشغله، بل ما يشغله هو الحاضر والمستقبل، كيف يمكننا أن نتعايش مع الحزن وألم الفقد، كيف يمكننا أن نستمر بعد أن نفقد الأشياء القليلة التي نهتم لأمرها صدقا، سواء أكان هذا الشيء حلما نرغب في تحقيقه أم شخصا نحب؟

لماذا نفعل كل هذا؟.. لأنني أحبه!

يمكننا فهم الفيلم كله من خلال سؤال أمير لروب “لماذا نفعل كل هذا؟”، حيث يرد عليه روب بشكل مقتضب “لأنني أحبه”، ويشير روب إلى خنزيره بالطبع، بينما يشير سارونسكي إلى كل ما نحب. بل إننا من الممكن أن نفهم الفيلم كله بوصفه إحالة إلى حياة نيكولاس كيدج، فهو ممثل يقوم بأداء عدد كبير من الأدوار التجريبية، وذلك في محاولة منه لإعادة تأويل مفهوم التمثيل وماهية دور الممثل، وهو الأمر الذي يهتم به كيدج اهتماما صادقا، لكن كيدج أصبح تاريخا، فهو ممثل نذكره في بعض الأحيان لا أكثر، كما هو الحال مع روب. وكي يعود كيدج مرة أخرى إلى عالمه يجد نفسه وسط المطعم الفاخر الذي يقدم وجبات مفتعلة الذي يمثل التيار السائد للإنتاج السينمائي.

ربما يكون هذا التأويل مفتعلا بعض الشيء، لكن من الصعب تجاهل هذه العلاقة بين رحلة كيدج السينمائية ورحلة روب، حتى وإن كانت من قبيل المصادفة.

في النهاية، لا يمكننا إلا أن نقول إن سارونسكي قدم لنا تجربة مميزة وجريئة، بينما حمل كيدج على عاتقه إضفاء الكثير من الصدق والأصالة على الفيلم.

ففيلم “خنزير” يستحق المشاهدة بالتأكيد، ولهذا السبب تعمدتُ عدم ذكر الكثير من الأحداث التي تكشف نهايته.


إعلان