“مأساة ماكبث”.. صورة مسرحية بعيون سينمائية

أمنية عادل
“اختفِ أيتها البقعة الملعونة، أقول لك اختفِ. الساعة تدق الواحدة، الثانية، قد حان الوقت إذن، الجحيم مظلم، عار عليك يا سيدي، عار عليك أن تكون جنديا وتخاف، نخاف أن يُعرف سرنا، وما من أحد يملك أن يسألنا، لكن كان بوسعنا أن نخمن أن بالرجل العجوز مثل هذا القدر الغزير من الدم. ما زلت أشتم رائحة الدم، وما بمقدور كل عطور جزيرة العرب أن تعطر هذه اليد الصغيرة”.
هكذا هلوست “ليدي ماكبث” بعد أن أقنعت زوجها الفارس بالانقضاض على الملك “دنكان” حتى يخلو له الطريق إلى عرش أسكتلندا.
إن التحولات هي السمة الأبرز الواضحة في شخوص مسرحية شكسبير الأشهر “ماكبث”، والتي كتبها عام 1606 تحت عنوان “مأساة ماكبث”، حيث تحوّل ماكبث من فارس نبيل إلى طاغية انتهازي، وزوجته المنزوعة القلب إلى هاذية أذهب الذنب عقلها حتى فارقت الحياة، فيما بات “مكدوف” المعاون هو المُخلص، أما الساحرات فهن الوحيدات اللاتي بقين على حالهن، ربما لأنهن مُطلعات على الغيب ويعرفن كل الحقائق.
“جويل كوين”.. مسيرة جديدة تبدأ بمأساة ماكبث
“تراجيديا ماكبث” رواية محبب تمثيلها على خشبة المسرح وشاشة السينما، كما هو الحال مع تراجيديات شكسبير الشهيرة التي تحظى بالتجسيد، سواء جُسدت في صورتها الأصلية، أو مع بعض التغيير، أو حتى من خلال استقاء الثيمات الأساسية فقط.
وفي أول عمل مستقل يقدمه المخرج الأمريكي جويل كوين بعد انفصاله عن شريكه ورفيقه السينمائي شقيقه إيثان كوين؛ فضّل جويل الاستعانة بتراجيديا ماكبث لتكون عنوان مسيرته الجديدة لجمهور السينما، وذلك في تغيير نوعي عن طبيعة الأفلام التي قدمها إلى جوار شقيقه إيثان تحت اسم “الإخوة كوين”.
قدّم جويل كوين عملا يشكل نقطة فارقة في تاريخه السينمائي، خاصة مع تباين ردود الفعل إزاء أفلامه الأخيرة مع أخيه، فقد احتفظ جويل بسِمة الجدّية والكآبة كما هو الحال مع أفلامه مع أخيه، مثل فيلم “لا بلد للعجائز” (No Country for Old Men) عام 2007، وكذلك سمة التمثيل والمحاكاة المسرحية الطاغية على الأفلام كما هو الحال مع أفلام مثل “عزم حقيقي” (True Grit) عام 2010، وفيلم “ملحمة بستر إسكريغز” (The Ballad of Buster Scruggs) عام 2018، كما ظهرت أيضا قلة الحوار والتفكّر البصري في فيلم “فارغو” (Fargo) عام 1996، وهو من بطولة “فرانسيس ماكدورماند” زوجة جويل كوين وشريكته في الإنتاج.

استعان جويل بزوجته في فيلمه الأول المستقل عن أخيه، فقدمت دور “ليدي ماكبث” على شاشته، بعد أن قدمته على المسرح في مقتبل عمرها التمثيلي، ويشاركها في التمثيل الأوسكاري “دينزل واشنطن” في دور ماكبث، وذلك في مفارقة قد تكون الأبرز في فيلم كوين.
“دينزل واشنطن”.. شخصية ماكبث الخارجة عن المألوف
عادة ما يتوالى على أداء دور ماكبث ممثلون من ذوي البشرة البيضاء، مثل “أورسن ويلز” الذي أخرج فيلم ماكبث عام 1948، وكذلك الأمر مع الممثل البريطاني “جون فينش” الذي قام بدور ماكبث تحت قيادة المخرج البولندي “رومان بولانسكي” عام 1971، ولاحقا قدمه الممثل البريطاني “إيان ماكلين” عام 1979، وأخيرا وليس آخرا ما قام به الممثل الإيرلندي “مايكل فاسبندر” في تصور أسترالي للملحمة البريطانية تحت قيادة المخرج الأسترالي “جيستن كورزيل”.
المُلاحظ أن تعاقب اختيار الممثلين لأداء شخصية ماكبث كانت ترتكز على شخص ذي بشرة بيضاء كسمة أساسية لملامح الشخصية، لكن جويل خرج عن المألوف في تصوره لماكبث، ووجد في دينزل واشنطن حقيقة ماكبث الذي يبحث عنه.
بالأبيض والأسود.. لغة سينمائية تُجرد الصورة
استعار جويل الأبيض والأسود عنوانا لصورة الشريط الفيلمي، وذلك في استعارة من “ماكبث” للمخرج أورسن ويلز، ورغم أن جويل كان يمتلك رفاهية الألوان، فإنه فضّل أن يقدم الفيلم بالأبيض والأسود لتجاوز لون بشرة واشنطن، وكذلك لتوظيف الإضاءة ما بين الظل والنور والضوء والخفوت، واستخدام الإضاءة بتوظيف مسرحي واضح للتركيز على الدراما وصراع ماكبث مع ذاته والآخرين من حوله.
وكغيره من المخرجين قدّم جويل تراجيديا شكسبير دون تغيير في تفاصيلها وأحداثها، بل كان مخلصا لكل مشهد في النص المسرحي، وكذلك غالبية الحوارات والمونولوجات الذاتية التي ألقتها الشخصيات، وبهذا فهو نسبيا يفقد عنصر المفاجأة على صعيد الحدث في معادلته مع الجمهور، لكن جعبة جويل كشفت عن جديد وهو اللغة السينمائية المستخدمة في الفيلم، حيث آثر كوين أن يعتمد على التجريد في الصورة السينمائية، ما انعكس على الديكور وبؤر الإضاءة المسرحية، وكأننا أمام لوحة قوطية صارخة التعبير رغم ثبات عناصرها.
مزج جويل في رؤيته لماكبث بين الأبعاد المسرحية -كما ذكرنا- والاعتماد على الأداء الهادئ لطاقم التمثيل، لتكون لحظات الصعود الدرامي مكثفة في المونولوجات الدرامية الموحية بالتغير الجذري في دواخل الشخصيات ونفوسهم، ومُبشرة بأفعالهم القادمة، كما وفرت الرمزيات الكثير من الحوار القادم على الألسنة.
عالم الأسطورة والخرافة.. الساحرة التي تُبشّر بتغيير قادم
“الإيرينيات هن ثلاث ربات، هن ربات العذاب والانتقام اللاتي يقبعن في العالم السفلي تحت سلطة الإله هاديس” بحسب الميثولوجيا الإغريقية.
ففي استعارة وتوظيف لعالم الخرافة والأسطورة، قدّم شكسبير شخصيات الساحرات الثلاث المتنبئات وحاملات الشر والشؤم المستتر خلف الطموح الجشع، حيث تباين تمثيل الساحرات في المعالجات السينمائية لماكبث، لكنها تلاقت في الحوار والتصوير المقبض لهن، فقد استعان جويل بالمسرحية المخضرمة “كاترين هنتر” لأداء شخصية الساحرة القائدة.

لعل توازن العالم المسرحي مع الأداء التمثيلي لكاترين هنتر التي احتلت بداية الفيلم بصوتها وأدائها المقبض جاء مواكبا لأداء الغربان الحاضرين في ساحات الحرب بعد النزاعات والقتال، حيث تلتقط الساحرة الأشلاء وتبشر بتغيير جديد قادم.
لقطات قريبة ومَشاهد طويلة.. مسرحة السينما
في توظيف للبُعد المسرحي داخل الفيلم، اعتمد جويل الذي كتب السيناريو أيضا على المشاهد الطويلة، وكأنه يقدم ماكبث عام 1606 لكن من خلال وسيط مختلف وهو الصورة السينمائية، وقد ساعده على ذلك قوة أداء الممثلين.
اعتمد جويل على اللقطات القريبة الكاشفة لملامح الوجه المعبر بدوره عن بواطن الشخصيات، وهو ما عبرت عنه كاميرا مدير التصوير “برونو ديلبونيل” الذي تعاون مع الأخوين كوين سابقا.
على ما يبدو فضّل جويل أن يتعاون مع طاقم تنفيذي قد عاونه سابقا أو شاركه في مشاريعه الفيلمية مع أخيه، وهو ما حدث مع المونتير “لوسيان جولستون”، وكذلك المُلحن “كارتر بورويل”.
“هل ولدتك أمك؟”.. ماكبث المغرور الذي لا يُهزَم
بالعودة إلى المونتاج اعتمد لوسيان جولستون على تقنيتين متناقضتين، وهما الانتقال الناعم بين المَشاهد والانتقال الحاد بين اللقطات، لا سيما في المشاهد التي جمعت بين ماكبث والساحرات، حيث إنها تحمل من المفاجآت ما يضمن ذهول ماكبث، وبالتالي الانتقال الحاد بين لقطات المشهد الواحد، في حين اعتمد على الضباب كسبيل للانتقال بين المشاهد، ما خلق سلاسة في الانتقال، لا سيما مع هدوء المشاهد والأداء الحركي للممثلين.
لم يسخر ماكبث من دانزيل واشنطن كما فعل ماكبث بمايكل فاسبندر، وإنما انتابه جنون العظمة والقدرة الخارقة على تجاوز الأزمات بمساعدة تعويذات الساحرات، فهو ماكبث ملك أسكتلندا الذي لا يُهزم إلا من رجل لم تلده امرأة، وهو أمر خارق للعادة متجاوز للطبيعة، لكن المفارقة تكمن في “ماكدوف” المنتقم من ماكبث ردا على قتله الملك “دنكان” واغتصابه العرش وإنهاء حياة زوجته وأبنائه، فماكدوف الذي وُلد قيصريا استطاع هزيمة ماكبث الذي رحلت زوجته عنه بعد تغول شعورها بالذنب، وذلك في توظيف للكوميديا السوداء التي تتجلى في سينما الأخوين كوين، ففي اللحظة التي يشعر فيها ماكبث بكامل الثقة يواجه أعداءه بسؤال واحد هو “هل ولدتك أمك؟”. يفاجئه ماكدوف أنه نُزع من بطن أمه انتزاعا، ليعلو وجه ماكبث تعبير مندهش من سخرية القدر وتخلّي الساحرات عنه، وأن مصيره بات محسوما.
يستعيد ماكبث روح المقاتل الذي بداخله، وقبل أن يقدم روحه على طبق من فضة فضّل أن يُحارب علّه ينتصر، وتعينه شجاعته في لحظة من أفضل لحظات الفيلم من حيث التكوين والحركة وحضور الضباب المُخيّم على الصراط المُمثل لحلبة القتال الجامعة بينه وبين ماكدوف، والمُبشر بموت أحدهم حتى ينجو الآخر.
ماكبث والفرسان.. مواجهة تشبه الملحمة الصينية
في ملحمة المخرج الصيني “زانغ ييمو” “لعنة الوردة الذهبية” (Curse of the Golden Flowers) عام 2006، نازل الإمبراطور “بينغ” نجله الصغير الأمير “يو” في مشهد مثير على صعيد الحدث والصورة، فقد تلاقى جويل كوين مع “ييمو” في تنفيذ مشهد مواجهة ماكبث مع الفرسان قرب نهاية الفيلم، وظهر التكوين مشابها لنزال الإمبراطور بينغ ونجله، وذلك رغم عدم تأثر جويل بالسينما الصينية كما هو الحال مع المخرج الأمريكي “كوينتن تارانتينو”.
عادة ما لاحقت الأسئلة عمل الأخوين كوين، وتساءل كُثر عن من يقوم بالكتابة ومن يقوم بالإخراج، لكن فيلم “تراجيديا ماكبث” لمخرجه جويل كوين أوضح أنه رغم تأثره ببعض سمات سينما الأخوين كوين، فإنه يمتلك رؤيته الخاصة وفكره السينمائي، حتى وإن انطلق مُغردا من خلال ملحمة شهدت لها السينما بالكثير من الحضور على مر العقود.