“الرئيس”.. أدوات الديمقراطية في خدمة الدكتاتور
قيس قاسم
يلاحق فيلم “الرئيس” (President) مسار الحراك السياسي الذي يقوده جيل جديد من السياسيين في زيمبابوي، والذي يتطلع إلى التغيير والسير بالبلاد نحو الديمقراطية، من خلال ملازمته اللصيقة للمُعارِض السياسي “نيلسون شاميسا”، وتوثيقه لنشاطه منذ إعلان دخوله حلبة التنافس الانتخابي مرشحا للرئاسة.
إنها ملازمة تتيح للوثائقي رصد وتحليل تطورات الأحداث السياسية في زيمبابوي منذ وصول الانقلابيين للسلطة عام 2017، وإعلانهم دخول البلاد -خلال فترة حكمهم- مرحلة من الديمقراطية تسمح للمعارضة بالعمل السياسي دون قيود، وتَقبَل بالانتقال السلمي للسلطة، وصولا إلى انتخابات عام 2018 التي شهدت تزويرا مفضوحا، ومنحت الرئيس “إيمرسون منانغاوا” شرعية للحكم، وأبقت البلد سائرا في فلك الأنظمة الاستبدادية.
الرئيس الدكتاتور.. 37 عاما من الفساد
تجمع المخرجة “كاميلا نيلسون” في فيلمها الدانماركي الأمريكي المشترك أساليب سرد مختلفة، يتداخل فيها التسجيلي المباشر مع الأرشيفي المعتمد على خامات فيلمية قديمة تُفيد في تحليل مجريات الأحداث التي تلتقط تفاصيلها من الأرض، وبصبر وعناد يجعلان من فيلمها منجزا بصريا مهما يقدم صورة دقيقة عن حالة بلد لم يعرف الاستقرار، ولم يذق شعبه طعم الحرية ولا الرفاهية منذ وصول الرئيس السابق “روبرت موغابي” إلى الحكم عام 1980.
يقدم الوثائقي تحليلا للسنوات الـ37 التي حكم فيها موغبابي زيمبابوي، والتي اتسمت بالفساد وسيطرة أجهزة الجيش والشرطة على مقاليد الأمور، فيما ظل هو حاكما أوحد لا يقبل تغييرا ولا وجودا لمعارضة سياسية حقيقة.
نهاية حقبة.. ظهور الزعيم المُخلّص
جاءت نهاية حكم موغبابي عام 2017 على يد “إيمرسون منانغاوا” الذي قاد انقلابا بمعونة قادة الجيش، حيث أجبره على إعلان تنحيه عن الحكم مقابل الحفاظ على حياته.
قدم الرئيس الجديد وأحد قادة الحزب الحاكم الاتحاد الوطني الأفريقي لزيمبابوي/الجبهة الوطنية (يكتب اختصارا “زانو ـ الجبهة الوطنية)؛ قدم نفسه زعيما يريد التخلص من الإرث الفاسد وبناء نظام سياسي ديمقراطي، وتعهد بإجراء انتخابات نزيهة بحلول عام 2018.
في تلك المرحلة برز اسم المعارض السياسي “مورغان تسفانغيراي” ليكون أوفر المرشحين حظا للفوز بالانتخابات الموعودة، لكنه وقبل أربعة أشهر على انطلاق هذه الانتخابات توفي إثر مرض أَلَمّ به ولم يمهله طويلا. وبعد وفاته ظهر اسم السياسي الأربعيني “نيلسون شاميسا” الذي تولى من بعده قيادة حركة “التغيير الوطني الديمقراطي” أكبر أحزاب المعارضة.
الانتخابات.. هل تسنح الفرصة للتخلص من الاستبداد؟
يتمتع “شاميسا” بكاريزما واضحة، فهو حقوقي وخطيب مفوَّه نشط، يعتمد على فريق عمل من أصحاب الكفاءات، رؤيتهم متوافقة مع رؤيته السياسية لمستقبل البلد، حيث يجد في الانتخابات فرصة لا بد من استثمارها لتحقيق ما يصبو إليه الشعب الزيمبابوي. لا أوهام لديه بأن قائد الانقلاب هو امتداد لـ”موغابي”، وقد عمل معه لسنوات طويلة كمستشار خاص، وأحد قادة حزبه المقربين، كما تولى إدارة وزارات في حكوماته المتعاقبة.
تظهر بوضوح قدرة السياسي الشاب على حشد الجماهير ومخاطبتها بلغة سهلة، تُجلّيها مصاحبة الوثائقي له في جولاته التعبويّة في أنحاء البلاد، فالناس خلالها كانوا يطلبون منه المُضيّ في مشروعه الذي يجدون فيه خلاصهم من حزب ونظام جثما فوق صدروهم لعقود، حيث يجدون فيه منقذا من نظام استبدادي نهب ثرواتهم فتركهم فقراء يعانون من البطالة والمرض. والآن حانت اللحظة التي يمكن أن يتخلصوا منه عبر صناديق الاقتراع.
تغييرات مريبة.. تمهيد مدروس للتزوير
يُقسم الوثائقي بقية وقته حسب اقتراب موعد الانتخابات التشريعية وما يرافقها من تطورات دراماتيكية، ليغدو أقرب إلى يوميات سينمائية، فقبل أربعة أشهر من انطلاقها عيّن الرئيس القاضية “بريسيلا شيغومبا” مسؤولة جديدة للهيئة المشرفة على الانتخابات بدلا من المسؤول القديم الذي لم يوضح قرار التعيين أسباب إزاحته.
ومن دون استشارة الأحزاب السياسية ولا التوافق بينها قررت اللجنة طبع بطاقات الاقتراع بكميات غير معلومة، لتأتي ردود الفعل على هذه الخطوة سريعة، فقد طالبت قيادة حركة “التغيير الوطني الديمقراطي” الحكومة بتوضيحات بشأن عملية الطبع التي أثارت حولها شكوكا من المحتمل استخدامها لاحقا للتلاعب بأصوات الناخبين، فقد اقترحوا على الهيئة عقد اجتماع أزمة لبحث الأمر، لكن الأخيرة ماطلت ولم توافق على اللقاء إلا قبل أسبوع واحد من بداية الانتخابات.
وهدّد الحزب بمقاطعة الانتخابات إذا لم تكشف اللجنة عن تفاصيل الطبع، وأدرك قادته أن المراد بالمماطلة هو دفع الحزب لإعلان مقاطعته الانتخابات، الأمر الذي تداركوه، وأصروا رغم ذلك على المشاركة.
التهديد بالقتل.. أو الانسحاب من المشهد
قبل يومين من بداية الانتخابات يرصد الوثائقي التأييد الجماهيري الواسع لمرشح المعارضة، وفي المقابل يوثق الانكفاء الذي يُحيط بمرشح الحزب الحاكم.
تُوضح المقارنة بين المشهدين تفوقا لمرشح المعارضة “شاميسا” دون أي لبس، وبشكل خاص في المناطق البعيدة التي نجح في الوصول إليها، والتي تعاني من مشاكل البطالة والفقر أكثر من غيرها.
وفي غمرة انهماك قادة الحزب المعارض في التحشيد، يظهر الرئيس المخلوع “موغابي” فجأة ويعقد مؤتمرا صحفيا يعلن فيه تأييده للمعارضة انتقاما من السلطة التي أزاحته عن الحكم، ويكشف صراحة ولأول مرة أن إزاحته جاءت عن طريق انقلاب عسكري.
ثم يحصل تطور دراماتيكي آخر هو وصول تهديدات صريحة لـ”شاميسا” تدعوه للانسحاب أو مواجهة الموت، وهنا يضطر “الرئيس” -كما صار يُلقب من قبل مؤييده حتى قبل الانتخابات- إلى الاختفاء عن الأنظار.
التهيؤ ليوم الانتخاب.. تحسّب من محاولات التزوير
يتخذ قادة الحزب المعارض إجراءات احترازية لرصد أي محاولة تزوير، وذلك من خلال تسجيلهم لأعداد الناخبين في كل مركز انتخابي، وأعداد الأصوات التي يحصل عليها مرشحهم داخل حواسيبهم الخاصة. ويسبق ذلك الإجراء يوم الانتخابات الذي تشهد إقبالا جماهيريا كبيرا.
ورغم مرور وقت كاف على انتهاء التصويت وبداية عمليات العدّ والفرز للأصوات، لم تعلن هيئة الانتخابات النتائج الأولية، وهو ما أثار مخاوف قادة المعارضة ومعهم المراقبين الأجانب، لكن الهيئة ذكرت أنها تكتمت على إعلان النتائج خلال اليومين الأولين متذرعة بنص قانوني يمنحها خمسة أيام للتدقيق وإكمال كل العمليات الخاصة بعدّ الأصوات.
أثار التأخير شكوكا عند الناخبين الذين خرجوا إلى الشوارع مطالبين بالكشف عن النتائج، فقد اكتفوا بالتجمع أمام مراكز الهيئة في العاصمة هراري، ولم يستخدموا العنف، ومع ذلك خرجت عليهم وحدات من الجيش والشرطة وقامت بضربهم، وفي تطور لاحق فتحت النار عليهم.
يوثق الفيلم مشاهد موت بعض المتظاهرين السلميين في الشوارع، إلى جانب مقتل آخرين لم يشاركوا فيها أصلا، بل كانوا في مصادفة في تلك الأمكنة التي أطلق الجيش فيها الرصاص الحي على كل الموجودين.
في هذه اللحظة يقرر “الرئيس” المعارض الخروج علنا للاحتجاج على ممارسات السلطة التي كشفت عن وجهها الحقيقي القمعي، فيذهب بنفسه لتعزية أهالي الضحايا، ويطالب الحكومة بالكشف عن اسم الشخص الذي أعطى أوامر للجيش بإطلاق النار على المتظاهرين.
وفي مقابل ذلك، وفي تصعيد مدروس، تقوم أجهزة الشرطة بدهم مقر الحزب المعارض واحتجاز حواسيبه.
إعلان النتائج.. الفوز بالضربة القاضية!
مع مُضيّ الأيام الخمسة تخرج رئيسة هيئة الانتخابات لتعلن فوز الحزب الحاكم ومرشحه “إيمرسون منانغاوا” بالانتخابات التشريعة، وذلك بفارق أصوات قليلة عن منافسيه. حينها أدرك قادة الحزب المعارض واستنادا إلى الأرقام الواردة من مراكز الاقتراع والمثبتة في حواسيبهم أن تزويرا قد وقع، وأن الهيئة تواطأت مع الحكومة لتغيير نتائج الانتخابات.
يذهب الوثائقي بعد ذلك لتقصي حقيقة ما يدّعيه الحزب المعارض، ويتأكد بنفسه من صحتها. ويوثق شهادات بعض مسؤولي مراكز اقتراع خارج العاصمة تعرضوا للتهديد بالقتل إذا لم يتعاونوا مع ممثلي السلطة ورجال المخابرات في عمليات التزوير، فبعضهم تعرض فعلا للضرب، وآخرون تعرضت زوجاتهم للاغتصاب أمام أعينهم. كل تلك التسجيلات والوقائع أخذها الحزب المعارض وقدمها للقضاء منتظرا أن يقول كلمته.
القضاء والسلطة.. تحالف الحَكَم والجلاد
يحشد الحزب المعارض ورئيسه كل إمكانياتهم للبرهنة أمام القضاء على صحة ادعائهم بأن الانتخابات قد زُوِّرَت، وأن النظام خطط لسرقة أصوات الناخبين الكارهين له ولرموزه.
لم يقتصر التحضير للمحاكمة على الزيمبابويين فحسب، بل تطوع إلى جانبهم حقوقيون من جنوب أفريقيا لديهم خبرة مكتسبة من المحاكم التي تلت نهاية حكم الفصل العنصري. فقدموا مرافعات كانت مقنعة وقوية ومسنودة بأرقام مثبتة ووقائع عن ممارسات قمعية أريد بها التأثير على الناخب.
لم يطل انتظار حكم المحكمة طويلا، إذ سرعان ما أعلنت هيئتها صحة قرار الهيئة المشرفة على الانتخابات، وأقرت شرعية فوز مرشح الحزب الحاكم.
يلتقط الوثائقي مشهدا يظهر فيه الرئيس “المُنتَخب” وهو يحتفل بفوزه مع نفس القضاة الذين أصدروا الحكم بشرعية انتخابه.
تشبث بالأمل.. رغم قتامة المشهد
في مشهد حزين آخر مغاير للأول، يظهر الناخبون وهم حزانى على سرقة أصواتهم وضياع فرصة نادرة انتظروها طويلا وبنوا عليها آمالا في تحسين أحوالهم وتخلصيهم من البؤس الذي يعيشونه.
يصف شاميسا -“الرئيس” غير المنتخب وفق شريعة السلطة الاستبدادية- أن يوم إعلان القضاء كان يوما أسود في تاريخ زيمبابوي، وخسارة كبيرة لها، لكنه تعهّد بمواصلة النضال، مذكرا مؤيديه أن هناك أملا في التغيير المنشود، وعلى الشعب التمسك به حتى النهاية، وأن كل ما جرى لم يكن سوى بداية له.
بهذا المشهد المُتفائل ينهي الوثائقي الرائع زمنه، لكنه يُبقي عند المُشاهد شعورا بالترقب، وانتظارا لمعرفة ما ستؤول إليه لاحقا أحوال زيمبابوي بعد فصل دراماتيكي استَخدمت فيه مؤسسات الدولة العميقة أدوات الديمقراطية لتكريس الدكتاتورية.