“المعركة المنسية”.. عرض بصري مبهر في مستنقعات الحرب العالمية

لا يُشاهَد الفيلم في السياقات السياسية والاجتماعية المختلفة بالطريقة نفسها، فما يحدث من حولنا هنا أو هناك يوجّه أذهاننا إلى دلالات دون غيرها، ولا شك أن الحرب الروسية الأوكرانية بمشاهدها المختلفة وبمراسليها الحربيين الذين يقفون على مشارف خطوط نيرانها، وخبرائها العسكريين الذين باتوا يقتحمون علينا الشاشات ويفرضون أنفسهم نجوما؛ ستلقي بظلال كثيفة على فرجتنا في أفلام الحرب هذه الأيام، كأن ينشدّ من يهوى الحركة والمغامرة إلى مشاهد القتال، أو أن يكون من يرفضها ويتعاطف مع المدنيين أكثر حساسية إلى المعاناة الإنسانية منها.

ولا شك أن مثل هذه الظلال ستوجه تلقي فيلم “المعركة المنسية” الروائي (The Forgotten Battle) الذي أخرجه الهولندي “ماتيس فان هايجنجن جونيور” (2020)؛ إلى رصد معانٍ ما كنا لنتوقف عندها في سياقات أخرى.

يعود الفيلم إلى الطور الأخير من حرب الاستنزاف التي فرضها الألمان في الشمال البلجيكي والجنوب الهولندي، فيتناول المعركة التي دارت في الفترة ما بين 12 سبتمبر/أيلول و8 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1944 حول جسر “والشرين” بحثا عن منفذ بحري إلى “أنتويرب”، وقد كانت المعركة حاسمة في جعل الألمان يتراجعون، وفي تمكين الحلفاء من تحرير هولندا لاحقا.

وليجعلنا الفيلم ننغمس في أحداثه ينسج حكايته بإتقان، فيخلق ثلاثة مسارات متوازية حينا،ومتفاعلة حينا آخر، ويجعل لكل مسار شخصياته المؤثرة التي تضعها ظروف المعركة في مأزق، ويدفعنا عبر السرد الشيّق إلى التعاطف معها والتطلع إلى خلاصها من ورطتها.

شفاعة الطبيب لابنه المراهق.. مكيدة الجنرال الألماني

تتصدر الشابة الهولندية “تيون فيسر” المسار السردي الأول، فشقيقها “ديريك” يتورط في عمل طائش نتيجة للحماسة التي عمت البلاد بعد أنباء عن قرب تحرير البلاد وبداية انسحاب المحتل الألماني، فيرمي عربة للجيش الألماني بحجر يُفقد السائق السيطرة عليها لتدهس ثلاثة جنود، فـ”ديريك” منخرط في حركة المقاومة، ويتولى جمع المعلومات لفائدة جيوش الحلفاء، لكن يفضحه تصرّفه ويجعله بين خيارين، إما أن يُسلّم نفسه للنازيين، أو أن يتسبب في موت أبرياء احتُجزوا جراء ما أقدم عليه.

وكان على والده الدكتور “فيسر” أن يبحث له عن شفاعة عند الجنرال “بيرغهوف” قائد القوات الألمانية الغازية، فقد جنّده ليعالج مرضاهم، ولابد أنه سيأخذ هذه الخدمة بعين الاعتبار ليحكم على الفتى بالسجن لا غير، ولتكن المدة ما يشاء الألمان، فحبسه لن يطول لأن تحرير البلاد أصبح أملا قائما قد يتحقق بين الحين والآخر.

يحصل الأب على الوعد بالحصول على هذا “الامتياز”، ويرسل ابنه إليهم رغم تحذير “تيون” من مكيدة الجنرال ليعدم الفتى بعد أن يستسلم لمعذّبيه ويكشف عن رفاقه في الحركة المقاومة، وماذا يزعج القائد “بيرغهوف” وإعدامه ينسجم تماما مع معايير الشرف لديه؟

 

استقامته وواجبه المهني يمنعانه من أي استثناء، و”ديريك” مسؤول عن جريمته مسؤولية تامة، فـ”لم يعد طفلا الآن وقد بلغ سن الـ17 سنة بعد”.

يدمّر الألمان جسر “والشرين” المؤدي إلى البلدة لمنع وصول الحلفاء إليها، وكان على “تيون” أن تواصل برفقة صديقتها “يانا” مهمة “ديريك” المتمثلة في جمع المعلومات، وأن تستولي على خريطة المدّ الخاصة بجزيرة “والشرين” من مكتب رئيس البلدية المتعاون مع الألمان لتسلمها إلى جيوش الحلفاء، فيعبرون إلى البلدة بعد أن يضمنوا تراجع الماء، ويتجنبون وقوع زوارقهم في الوحل، لكن دورية ألمانية تكتشف أمرها فتحتجزها وتؤجج تعاطفنا معها.

“مارينوس”.. متمرد هولندي خدعته النازية

ينشأ المسار السردي الثاني من روح التمرّد التي تسكن الشاب الهولندي “مارينوس فان ستافرين”، فقد وقع في سحر فلسفة القوة التي تنادي بها النازية ووعودها بتحقيق الاشتراكية الوطنية، وهو يرى الظلم والاستغلال يُسلّطان على الفلاحين الضعفاء في بلاده، فينخرط في الجيش الألماني، وعند تعافيه من إصابة لحقته في معارك الجبهة الروسية يُنقل إلى الجبهة الهولندية لحاجة قائد العمليات الألمانية إلى سكرتير ومترجم.

حلم الشاب الهولندي “مارينوس فان ستافرين” بمجتمع عادل أوقعه في شرك الدعاية النازية

هناك يعاين تعذيب “ديريك” بوحشية حتى يعترف بأسماء شركائه، ويكتشف فظاعة الألمان، ويدرك أنه وقع في شرك الوهم، وحين يرصده ضابط ألماني وهو يعلم شقيقته بنية الألمان تنفيذ حكم الإعدام بحقه يرفع الأمر إلى الجنرال، فيعاقبه بأن يكلفه بقنص “ديريك” بنفسه حين يُنفذ فيه الحكم، ثم يُدفع إلى جبهة القتال من جديد ليجد نفسه في مواجهة الحلفاء الذين يعملون على تحرير بلاده، وهو الذي ما عاد يحتمل ذل الخيانة.

“ويل سنكلير”.. طيار مُتدرب يصارع الجوع والقدر وخيانة الرفاق

ينهض المسار السردي الثالث على مغامرة المتدرب في سلاح الجو البريطاني “ويل سنكلير” أحد أفراد الكتيبة السادسة، فتتعرض الطائرة الشراعية التي يساعد الضابط “توني تورنر” في قيادتها لنيران مضادات الطائرات أثناء مهمة قتالية، وتفقد جناحيها ويُصاب “تورنر” في الحادث، ويتعيّن حينها على المتدرب الشاب ويل سنكلير” أن يتولى قيادتها، فينجح في تفادي اصطدامها العنيف بالأرض وينقذ حياة رفاقه، لكن صحبه يضيقون بالضابط الذي بات عاجزا عن المشي، حيث يحتاج إلى نقله من مكان إلى آخر بين الخرابات العائمة في مياه الأراضي المنخفضة لتفادي ملاحقة الألمان، وتظهر بوادر التمرد بينهم.

وبعد ليلة مرحة تعاقروا فيها خمرا وقعوا عليه في أحد المنازل المهجورة، يستفيق “ويل” و”هينك” على خيانة الرفاق، فقد هربوا للتخلص من مسؤولية حمل القائد المُقعد، ثم يلقى الضابط حتفه في صدام مع فلول من الجيش الألماني، وينسحب “هينك” لعدم قدرته على السباحة في البرك المائية، بينما يبقى “ويل سنكلير” وحيدا يصارع الجوع والماء والقدر، ثم ترحمه السماء فترسل له بطلائع الجيش الكندي، أو لعل المخرج من فعل ذلك، وقد صمم على أن يلتقي جميع أبطال حكاياته في “المعركة المنسية” نفسها.

“حبكة الدلتا”.. لقاء الأبطال والمصائر عند مصبّ النهر

بعد معركة “نورماندي” حرّر الجيش البريطاني الثاني بروكسل وأنتويرب، ولم تلحق أضرار بمينائيهما، وغدا من المهم للحلفاء أن يسيطروا على ضفتي مصب “سخيلدة” لتمدّ سفنهم بالعتاد، وتُيسّر عليهم الخدمات اللوجستية. وتفاعلا مع هذه الوقائع التاريخية جعل الفيلم المسارات الثلاثة للحكاية تلتقي عند المصب بدورها، وتشكل ما يطلق عليه في مثل هذا البناء مصطلح “حبكة الدلتا”.

تيون ويانا بين أحراش البرك المائية لنقل خريطة المد للحلفاء

تتصاعد الأحداث لتبلغ ذروة التشويق، فقد تمكنت “يانا” من عبور النهر ونقل الصور التي التقطها “ديريك” وخريطة المد التي حصلت عليها “تيون” للحلفاء، وأمكن للجيش الكندي أن يركب المياه وقد اطمئن إلى أن المدّ لن يتراجع قبل أربع ساعات، واصطدم “مارينوس فان ستافرين” وهو يشارك في الدفاع عن مدخل الجزيرة بـ”ويل سنكلير”، وبعد أن تمكن منه وسيطر عليه أخلى سبيله وانسحب من المعركة، فهذه الحرب ما عادت حربه. وعند عودته إلى مقر القوات الألمانية في خضمّ فوضى المعارك، يلتقي مرة أخرى بـ”تيون” التي يحاول أحد الجنود الألمان اغتصابها فينقذها منه، وذلك في إشارة رمزية إلى إسهامه في إنقاذ شرف البلاد من الغزو الألماني.

بعمله البطولي هذا يحرّره المخرج من عذاب الضمير، لكن كان لا بد من معاقبته العقاب العادل لخيانته دون قسوة أو تشفّ، فيجعل الرصاصة التي أصابته من سلاح الجندي الألماني قاتلة، ويجعل قوات الحلفاء تصل إلى المكان ليلقي عليه “ويل سنكلير” نظرة الوداع، ولتتركه “تيون” وهي تشعر نحوه بالامتنان.

أنسنة الحرب وبرود التأريخ.. صراع الفنان والمؤرخ

لقد أضحت المواقف من الأفلام التاريخية تميل إلى التخلص من مقاربتها ضمن دائرة الأمانة والخيانة، فقد سادت الآن قناعة بأن التخييل ممارسة حرة بالضرورة، وأن زمن الأفلام التعليمية قد ولّى، وأدرك النقاد أن سبيل السينمائي والفنان عموما يختلف جوهريا عن سبيل المؤرخ، فاهتمامه يُصوَّب نحو الشخصي والخاص من الوقائع، ويجعلنا نعيش محنة الشخصية، فنقاسم “تيون” حماستها وهي تَقبل بمهمة إيصال الخرائط إلى الحلفاء، ونشعر بخوفها وتسري فينا قشعريرة جسدها بفعل البرد والخوف وهي تدفع الزورق في ظلمة تحاصرها القوات النازية المتوحشة، وننتظر نجاحها في مهمتها بشوق وشغف.

وعادة يميل الفنان وهو يقتبس الوقائع التاريخية إلى عرض الفريد المميز، وإلى بعث الحرارة فيه بالتركيز على الدقائق وعلى النبض الإنساني منه، أما المؤرخ فيُعنى بدراسة أسباب هذه الوقائع ومآلاتها بمظاهر الحرب ونتائجها، فيوردها على شكل أرقام وإحصائيات، ويهتم بالعام والمشترك، ويتعاطى معهما تعاطيا عقليا باردا.

الطيار المتدرب “ويل سنكلير” ورفاقه والقائد المقعد قبل الخيانة

ومع قناعتنا بهذا الرأي وانتصارنا إليه، نرى أن الفيلم يدفع بمسألة الحدود بين التخييل والتسجيل في الأفلام التاريخية إلى الواجهة مرة أخرى، وأن معالجته الفنية تفرض قراءته في علاقة بحقائقها، فـ”جينيريك” البداية يشير إلى أن الحكاية مستوحاة من أحداث حقيقية، كما أن المشاهد الأولى من الفيلم تقدم وقائع تاريخية حول مجريات الحرب في الشمال البلجيكي وعلى الأراضي المنخفضة، فتشرحها في نحو ثلاث دقائق، وتجعلها قاعدة بيانات يُفهم الفيلم في ضوئها، وبناء عليه يعقد المخرج مع المتفرج ميثاقا يقوم على الالتزام بالدقة التاريخية لا على الاقتباس الحر.

معركة سخيلدة.. تضحيات كندا التي تناساها الفيلم

إن عنونة هذا الفيلم الذي كلّف صانعيه 14 مليون دولار (وهي ميزانية ضخمة جدا مقارنة بكلفة عامة الأفلام الهولندية) بـ”المعركة المنسية” لا تخلو من عتب على تناسي سينما الحرب لقصة معركة سخيلدة المؤلمة.

ومثل هذا الميثاق كان يفترض شيئا من العرفان للقوات الكندية بالنظر إلى التضحيات الجسام التي بذلتها لتحرير هولندا، لكن لم يحدث أي شيء من هذا، فقد تناسى المخرج الدور الكندي وهو يعرض عتبه ويغرق في الفخر بما بذله الهولنديون من تضحيات في مقاومة الاحتلال النازي ومن تمسك بقيم الحرية.

يكتفي في “جينيريك” النهاية بعرض كلفة تحرير جزيرة “والشرين” في 7 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1944، فيشير إلى مقتل 3231 جنديا من الحلفاء و2283 مدنيا.

“مع الأسف تمثل الحرب عرضا”.. قصة السينما والميدان

لا يدّخر الفيلم جهدا لتشكيل موقفنا من الأطراف المتحاربة بما يناسب وجهة نظره، فتشد حبكته الدرامية أنفاسنا ونحن نتابع مغامرة “تيون” لمد يد العون للحلفاء، ويمنعنا أسلوبه في التصوير من إدانة “مارينوس فان ستافرين” بقدر ما يدفعنا إلى التعاطف معه، فنعتبره ضحية لحماسته ولتطلعه لعدالة أفضل، ونرى خديعته الوجه القبيح من الدعاية النازية.

الحرب الألمانية الهولندية التي وقعت خلال الحرب العالمية الثانية

نحوّل المعركة إلى صراع بين قطبين، قطب الحق والخير الذي يتشكل من ضحايا أبرياء مثل “ديريك” و”تيون” و”يانا” الذين تدعمهم جيوش الحلفاء، وقطب الباطل والشر الذي يتشكل من الضباط والمتعاونين معهم ويدعمهم الجيش النازي. فكل ذلك لا يخلو من مديح للحرب.

وتحضرنا مواقف هنا تتهم السينما عامة بالتعامل معها تعاملا انتهازيا، فتتخذ من التغني بقيم الفداء والشجاعة في تحرير الأوطان والانتصار للخير على الشر تعلة لصناعة مشاهد الدمار وعرض مهارات التصويب أو القنص التي تبهر المتفرّج، وتستغل الخصائص الجغرافية للأراضي المنخفضة، فتبتكر معارك مائية مذهلة وسط الخراب العائم.

يتبنى محررو موسوعة “ألفا” للسينما هذا الموقف من سينما الحرب على سبيل المثال، فيذكرون “ولكن مع الأسف تمثل الحرب عرضا” لما فيها من مشهدية، ويتّهم “جيرار برنون” في كتابه “تاريخ السينما” الأمريكي “غريفث” بكونه أول من جعلها “عرضا بصريا حقيقيا”.

لكن لا يجب أن ندع الأحداث العارضة تفسد علاقتنا بسابع الفنون، فالمواقف الرافضة لها تتجاوز الحرب إلى أفلام الجريمة أو العنف أو التجسس، وحجتها أن المنحرفين كثيرا ما يعترفون بمحاكاتهم لجرائم شاهدوها على الشاشات، لكنها مواقف انطباعية تعبر دائما في الزحام كما يعبر غيرها من المواقف الرخوة، وتبقى السينما صامدة تحاول أن تخلق الحلم، وأن تعلمنا حب الحياة.