“يوميات ميانمار”.. عدسات خفية تواجه ديكتاتور الانقلاب السفاح

أمير العمري
كيف يواجه بسطاء الناس في ميانمار الانقلاب العسكري الدموي الذي وقع في فبراير/شباط من العام الماضي؟
شجاعة هؤلاء الناس وتعبيرهم عن الرفض ولو اقتضى الأمر مواجهة الدبابات وجها لوجه من دون سلاح؛ هو ما ترصده كاميرا خفية لا تكذب ولا تتجمل، وإنما تصدم بالحقيقة.
هذا ما تصوره هذه التجربة السينمائية الجديدة في فيلم “يوميات ميانمار” (Myanmar Diaries) الذي اشترك في إخراجه عشرة من المخرجين والصحفيين، وقد صُوِّر سرّا، ثم هُرّبت المادة المصورة خارج البلاد، من أجل القيام بعمل المونتاج والعمليات التقنية النهائية للفيلم في هولندا.
صبيحة الانقلاب.. مزيج من الخيال السينمائي والواقع
عُرض فيلم “يوميات ميانمار” (70 دقيقة) في مهرجان برلين السينمائي الأخير، حيث حصل على جائزة أفضل فيلم وثائقي، ويشمل شهادات مباشرة، منها ما وقع تصويره في اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب صبيحة فاتح فبراير/شباط عام 2021، مع مشاهد أخرى صُممت وأعيد بناؤها لتصوِّر ما لم يتمكن صانعو هذا الفيلم الجماعي من تصويره، أي باستخدام أسلوب إعادة التمثيل أمام الكاميرا، لذلك يمكن اعتبار “يوميات ميانمار” مزيجا من الخيالي وغير الخيالي، أو نموذجا للوثائقي الحديث الذي يستخدم أكثر من شكل.
هناك سلسلة مقاطع مصورة بكاميرا الهاتف الذكي تُظهر مدى سرعة تصاعد الأحداث، وذلك من مظاهرات الاحتجاج السلمية التي اندلعت مع استيلاء العسكر بقيادة الجنرال “مين أونغ هلينغ” على السلطة، وما أعقب ذلك من حملة قمع وحشية مارستها قوات الأمن والجيش بأوامر من المجلس العسكري، مخلفة ما لا يقل عن 1549 قتيلا، وأكثر من 9130 معتقلا.
“عار عليكم”.. حماية دكتاتور أصدر أمرا بإطلاق الرصاص
نشاهد لقطات التقطت وقت وقوع الانقلاب صوّرتها فتاة من سيارة تسير عكس اتجاه سير المركبات العسكرية المتحركة المتجهة نحوها، وهناك لقطات أخرى لقمع المظاهرات السلمية والقبض على النشطاء.
كما نرى لقطة مباشرة لامرأة في الستينيات من عمرها تقف بجوار ناقلة عسكرية للجنود وسط مدينة يانجون بعد أقل من ثلاثة أسابيع على وقوع الانقلاب، حيث تُلوّح بقبضة يدها في وجه مجموعة من الجنود يجلسون وراء السياج الحديدي، توبخهم في شجاعة نادرة، وتصرخ في وجوههم “عار عليكم، إنكم تقومون بحماية الديكتاتور، نحن نبكي على الفتاة التي أصيبت برصاصة برأسها، لقد أطلقوا عليها الرصاص عمدا، لا تتبعوا الأوامر بشكل أعمى، يجب أن تعرفوا ما هو الصواب أو الخطأ”.
كان الجنرال “مين أونغ هلينغ” قائد الانقلاب قد فرض حالة الطوارئ، وأصدر قرارات من ضمنها حظر التصوير في الشوارع، وإطلاق الرصاص فورا على كل من يمسك كاميرا ويصور الممارسات القمعية للشرطة والجيش.

ونعرف أيضا أنه وقع اعتقال عشرات الصحفيين، وجرت السيطرة على وسائل الإعلام والتشويش على الإنترنت والاتصالات الهاتفية، لذلك كان تصوير فيلم من هذا النوع عملا محفوفا بالأخطار.
“أونغ سان”.. اعتقال فوري للرئيسة المنتخبة
تكشف المشاهد المُعاد تمثيلها روح المقاومة في صور شعرية شديدة القوة والتأثير، وتصنع تناسقا مع اللقطات المباشرة المصورة التي تعتمد في معظمها على المبادرة الفورية السريعة باستخدام الهواتف المحمولة، وتُصوّر كيف تعامل عسكر الانقلاب مع المواطنين الأبرياء في الشوارع بمنتهى العنف والقسوة، في مزيج من الصدمة والأسى.
كان الجيش يخطط للانقلاب منذ فترة طويلة، أي منذ عام 2015، وذلك عندما خسر مرشحوه خسارة فادحة في الانتخابات العامة، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، ومع تراجع شعبية “أونغ سان سو كي” الرئيسة المنتخبة ديمقراطيا؛ راهن العسكريون على استعادة بعض المقاعد التي خسروها في البرلمان، لكنهم خسروا أكثر من خسارتهم في انتخابات عام 2015.

وعندما طالب الجنرال “هلينغ” بمنصب رفيع في الحكومة الجديدة، أحالته “أونغ سان” للتقاعد، لذلك أصبحت من أوائل المعتقلين بعد وقوع الانقلاب.
“لقد قتلوا ابني”.. إعادة تجسيد المشاهد الشاعرية
من بين المشاهد التي يُعاد تجسيدها في الفيلم وتخدم موضوعه وقضيته؛ إعادة تشكيل مشهد مبني على أحداث حقيقية لأب يحمل ابنه الصغير الذي قُتل بين ذراعيه وهو يبكي ويصرخ “لقد قتلوا ابني”، ثم فتيات شابات يبكين في رعب، بينما يقتاد الجنود الرجل خارج منزله في إحدى القرى.
تبدو المقاطع الخيالية أحيانا شاعرية أو مجازية، لكنها يمكن أن تكون أيضا مباشرة وقاسية، فهناك مثلا مقطع نرى فيه الأب الذي يجد نفسه مرغما على الذهاب إلى عمله رغم الإضراب العام خوفا على مستقبل ابنه، ونرى كيف يبتعد أصدقاء الابن عنه لأنهم يعتبرون والده خائنا لحركة العصيان المدني التي تقود الاحتجاجات في البلاد، في حين يزور الرجل شبحا يجلس فوق صدره بعد أن نام أثناء مشاهدة التلفزيون، ثم نراه وهو يصلي على زوجته المقتولة قبل أن ينتحر، كذلك نرى فتاة تحاول أن تقرر ما إذا كانت ستخبر صديقها بأنها حامل أم تمتنع.
ثلاثية الأصابع.. تحية احتجاجية مقتبسة من “ألعاب الجوع”
في مشهد تتداخل فيه اللقطات من خلال المونتاج الذي يُظهر اللقطات بالأبيض والأسود، نرى لقطة لرئيس المجلس العسكري تتقاطع مع مقاطع صغيرة تتداعى سريعا لقتيل من المتظاهرين، وذلك بعد أن هشّم الرصاص رأسه.

وفي مشهد آخر أعيد تركيبه يتطلع رجل حزين إلى قبعة وقميص ملطخين بدماء زوجته التي قتلها العسكر، ثم يقوم عاريا بتنظيف الحمام قبل أن يحرق ملابس زوجته القتيلة، وفي لقطة أخرى يضغط ثيابها على وجهه لاستنشاق رائحتها للمرة الأخيرة، قبل أن يركب سيارته ويرفع أصابعه الثلاثة بالتحية التي ابتكرها المتظاهرون والطلاب التايلانديون أثناء مظاهرات الاحتجاج على الانقلاب العسكري التي اندلعت في هونغ كونغ، وهي مقتبسة من الفيلم الأمريكي “ألعاب الجوع”.
سلاسة السرد.. فيلم معاصر يمزج بين التوثيق والخيال
يصور الفيلم من خلال شكل “اليوميات” كيف تنتقل ميانمار من الانقلاب العسكري إلى تنظيم احتجاجات شعبية في عموم البلاد، ثم إعلان العصيان المدني، ويظل ينتقل من خلال المونتاج ذهابا وعودة بين أسلوبي الفيلم الوثائقي والخيالي، في تدفق سلس يختبر من خلاله صانعو الفيلم طرقا جديدة مبتكرة في التعبير من خلال الوسيط السينمائي، مع الإبقاء على هوياتهم مجهولة.
إننا بصدد فيلم شديد المعاصرة، فما يصوره ويدينه له أيضا أصداؤه في أماكن أخرى من العالم. والتسلسل الزمني في الفيلم وحيوية المونتاج يحافظان على شدّ انتباه المتفرجين طوال الوقت، وتساعد بساطة السرد في المقاطع الخيالية التي استمد كثيرا منها من موقع الفيسبوك، وما كان ينشره كثيرون عن الأحداث الدامية؛ في جعل تأثير الصورة أكثر قوة.
يشمل العصيان المدني في ميانمار الإضرابات ورفض التعاون مع النظام العسكري، وهو ما يواجهه الجيش بالقمع الوحشي واعتقال وتعذيب وقتل آلاف المتظاهرين، وقد وصل القمع -كما نعرف- إلى حد دهس المتظاهرين بالشاحنات العسكرية، وإحراق بعضهم أحياء، وقتل كثير من الصحفيين في السجون، وقصف وإحراق قرى بأكملها للقضاء على أي مقاومة تنشأ ولو على نطاق محدود.

هذه القسوة لم تؤد إلا إلى حشد السكان في تمرد مسلح شعبي يتزايد باستمرار ضد النظام، وهذه هي الحالة القائمة هناك في الوقت الحالي.
“هل تسمعنا؟”.. شابة ميانمارية ترقص على ألحان الانقلاب
قرب نهاية الفيلم نشاهد المقطع الشهير الذي شاهده الملايين على وسائل التواصل الاجتماعي لامرأة شابة من ميانمار ترقص على الموسيقى الصاخبة في الهواء الطلق، بينما تمر من خلفها قوافل سيارات الدفع الرباعي السوداء التي تتجه إلى نقطة تفتيش أمنية أمام برلمان ميانمار في العاصمة نايبيداو.
هذه اللقطة صُوِرت عن غير قصد، وأصبحت وثيقة مرئية تصور اللحظات الأولى للانقلاب العسكري الذي وقع في البلاد. وينتهي الفيلم بلقطة في الغابة، حيث تتركز حركة المقاومة المسلحة، وعلى الشاشة تأتينا صيحة “هل تسمعنا؟”، وهي صيحة موجهة للعالم من أجل المساعدة.

منحت منظمة العفو الدولية الفيلم جائزتها بمهرجان برلين السينمائي، وقد وصفت لجنة التحكيم في البيان الذي أصدرته الفيلم بأنه “فيلم تحقيق مثير للإعجاب وشجاع للغاية، وقد خاطر كل المشاركين فيه بحياتهم بشجاعة، من أجل توثيق المعارضة لنظام الحكم العسكري في ميانمار”.
إن “يوميات ميانمار” قطعة حيّة من الحاضر ومن المقاومة، وتجربة فريدة في صنع فيلم يعبر عن الذاكرة الجماعية.