“أبطال”.. دروس اللاعبين المعاقين للمدرب الانفعالي

قيس قاسم

يقارب الفيلم السعودي الإسباني المشترك “أبطال” موضوعا حساسا يتعلق بفئة من ذوي الإعاقات الذهنية قلما تلتفت إليها السينما العربية، بينما يحاول الاقتراب منها المخرج الإسباني “مانويل كافو” في فيلمه الجديد المعروض في الدورة الأولى لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، وذلك من خلال قصة مقتبسة عن فيلم يحمل العنوان نفسه “الأبطال” (Campeones) من إخراج الإسباني “خافيير فيسر” 2018، متخذا لمعالجتها أسلوبا كوميديا متكيّفا مع محليته السعودية.

أسلوب سينمائي فيه الكثير من الجدية ومن الرصانة المبتعدة عن التسطيح، ويُراد بهذا الأسلوب أيضا توسيع دائرة الاهتمام الجماهيري بالسينما وإنتاجها واستثمار قدراتها الهائلة على مقاربة كثير من القضايا الإشكالية بمعالجات درامية بسيطة خالية من التعقيد، يُمكن من خلالها عرض جوانب منها والتنويه إليها، وبذلك يُحفز المنجز السينمائي المُشاهِد على طرح الأسئلة والأفكار المثيرة للنقاش والبحث.

 

هذا ما يحصل بالفعل بعد مشاهدة الفيلم السعودي المُقتَرح، قراءة مختلفة محلية الطابع لحالة إنسانية يود كثير من الناس تجنب الخوض في تفاصيلها، أو حتى مناقشاتها في الحياة العادية، وربما حالة بطله خالد (الممثل ياسر السقاف) تكشف عن ذلك الميل، مع فارق أنه في نهاية المطاف سينغمر في تفاصيلها، ويخرج بنظرة مختلفة عن تلك التي كان يحملها عن المعاقين، إذ سيكتشف من خلال الاختلاط بهم والاقتراب من دواخلهم ميلهم الفطري للفوز بلحظة فرح إنساني يتجاوزون بها فكرة الفوز بالجوائز والألقاب.

خالد.. رسم ملامح شخصية انفعالية

يتريث نص “أبطال” طويلا قبل دخوله إلى عالم ذوي الإعاقات الذهنية، حيث يترك للسيناريو (كتابة مرح طيبة ووائل سعيد وبمشاركة المخرج نفسه) وقتا كافيا لرسم شخصية بطله خالد المنفعل العاجز عن ضبط ردود فعله على أكثر من مستوى.

يتضح ذلك السلوك من خلال مهنته كمساعد مدرب لنادي الاتحاد السعودي لكرة القدم، فهو لا يجد مبررا لتولي أجنبي مهمة تدريب الفريق ما دام هو موجودا وقادرا على قيادة ناديه بدلا منه، ويظهر غضبه عبر ممارسات يومية تشير إلى تجاهله لمشاعر الآخرين، وصعوبة سيطرته على انفعالاته الحادة.

في البيت تلعب جَدته دور الضابط لسلوكه وتشجعه على الزواج، لكن سلوك خالد لا يجد قبولا عند المحيطين به، ولا عند خطيبته “ندى” (الممثلة فاطمة البنوي).

خالد المنفعل العاجز عن ضبط ردود فعله على أكثر من مستوى

 

يربط النص بين الخطيبة وبين ذوي الإعاقات الذهنية من خلال أخيها الذي يثير اختلافه عند خالد مخاوف من أن تنتقل حالته وراثيا إلى أبنائه إذا ما اقترن بأخته، لهذا يبدأ الخوف يتسلل إلى نفسه، ويدفعه للتردد في إكمال مشروع زواجه.

مركز التأهيل.. عقاب يصنع علاقة إنسانية مع المكان

على المستوى المهني يدفعه تهوره للتصادم والعراك مع مدرب الفريق، الأمر الذي يدفع إدارة النادي لمعاقبته على سلوكه غير الرياضي الذي لا يمكنهم السكوت عليه، خصوصا بعد ظهور التفاصيل المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي.

لم يجد مدير النادي مفرا من إعفائه من منصبه ومعاقبته، فقرر تجميد نشاطه وإلزامه بتأدية خدمة اجتماعية لعدة أشهر في مركز لمساعدة وتأهيل ذوي الإعاقات الذهنية. وسيشهد ذلك المكان نشوء علاقة إنسانية بينه وبين أفراد المجموعة، فهو لم يجد فيهم في بداية الأمر سوى حفنة من المعاقين غير المؤهلين جسديا ولا حتى نفسيا للعب كرة القدم أو أي رياضة أخرى.

عراك خالد مع مدرب الفريق، الأمر الذي دفع إدارة النادي لمعاقبته على سلوكه غير الرياضي الذي لا يمكنهم السكوت عليه

 

الموقف المسبق منهم هو النقطة الدرامية التي يتعكز عليها الفيلم للولوج إلى موضوع لم يتطرق إليه بشكل كاف في السينما العربية، موضوع يتعلق بالنظرة الدونية في مجتمعاتنا العربية لمجموعة لا تختلف عنا كبشر، لهذا كان لا بد من تصحيح النظرة إليهم، وقبلها التمهيد تربويا لقبولهم كما هم، وبكل الطاقة الإيجابية التي يحملونها.

ناصر.. شخصية جذابة في إدارة مركز التأهيل

السياق السردي المشحون بكوميديا جادة حذرة من السقوط في مطب التسفيه يُوصل إلى شخصيات جانبية فعالة، إلى جانب تسهيل التقرب من أفراد المجموعة والتعرف على ظروفهم الحياتية والمشاكل الاجتماعية والصحية التي يواجهونها، وذلك من دون مبالغة قد تفضي لسوداوية زائدة.

ذلك الجانب المشرق من النص ساعد على توصيله للمشاهد الأداء التمثيلي الجيد للممثلين المحترفين، إلى جانب الهواة المشاركين من ذوي الإعاقات في لعب أدوارهم بعفوية وسلاسة زادت من تقبل الجمهور لهم، وكشفت في الوقت نفسه عن جهد إخراجي مبذول لإدارتهم وتحريكهم بشكل مقنع أمام الكاميرا.

الممثل خالد الحربي بدور ناصر مدير المركز المُحوّل إليه خالد كمدرب متطوع

 

من بين الشخصيات المقنعة الحضور شخصية ناصر (الممثل خالد الحربي) مدير المركز المُحول إليه خالد كمدرب متطوع، من دون الإعلان أمام البقية عن السبب الحقيقي لوجوده هناك، وهو شخصية جذابة متفهمة للأشخاص الذين تطوع لمساعدتهم بعد تقاعده الوظيفي، فقد جاء إليهم طلبا في التخلص من الوقت الفائض الذي لديه، لكنه بعد التقرب منهم واكتشاف كمّ الحب الكامن في نفوسهم للآخرين؛ تعلق بهم وظل يعمل معهم.

تحولات المواقف.. معنى أن يكون الإنسان إنسانا

يقرب الزمن بين الطرفين؛ المدرب وفريقه الجديد، ويظل الوسيط بينهما مدير المركز، وهو الحريص على العمل بروح مرحة خلف الكواليس، إذ يعمل بصبر على تعزيز المواقف الإيجابية المتبلورة تدريجيا عند المدرب المحترف الذي لم يجد خيارا أمامه سوى مجاراة لاعبين يتعاملون مع اللعبة كوسيلة للتسلية لا أكثر.

لا يأتي التغيير سريعا، فثمة عوامل كثيرة تتفاعل بهدوء على بلورته، من بينها موقف الخطيبة المتسامح والمتفهم لمخاوف خطيبها، مخاوف لا تريدها أن تكون عائقا أمام إكمال مشروع زواجهما، حيث تصبر عليها، وصولا إلى إقناعه ببطلانها.

هذه التحولات في المواقف كُتبت مشاهدها على الورق برهافة، ونُفذت عمليا باشتغال سينمائي بارع التمثيل، ويتجلى ذلك في انتقال الخطيبة للملاعب من أجل مساعدة خطيبها في تدريب الفريق المشارك في بطولة للأندية الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، فخبرتها مع أخيها تساعد على توصيل أفكار الطرفين بسهولة، كما يُسهم حضورها في عملية التقارب المطلوبة بين الطرفين.

علاقة بين الخطيب خالد وخطيبته “ندى”، والتي تتجاوز وأخيرا سوء الفهم الحاصل بينهما

 

تبوح الخطيبة بمشاعرها، وتكشف كيف تغير موقفها من حالة أخيها، وتصارح خطيبها بحقيقة أنها وجدت في البداية صعوبة في تقبُل اختلافه عن الآخرين، لكنه بسلوكه وطيبته غيّر نظرتها، وعلمها معنى أن يكون الإنسان إنسانا قبل كل شيء بغض النظر عن حالته الصحية.

عالم المعاقين الملهم.. إنسانية طاهرة خالية من الأنانية

يمنح فيلم “أبطال” وقتا قليلا من زمنه للمَشاهَد الناقلة لمقاطع من التصفيات التي يخوضها الفريق، لكنه يستغل الجو المرح السائد فيها لرفع مستوى الكوميديا في مساره، وصولا إلى نهاياته المتفائلة، فالعلاقة بين الخطيبين تتجاوز مرحلة الاختبارات، وتُنضج التجربة الحياتية فكرة الزواج، بينما يمضي أفراد الفريق في التقرب من مدربهم والتعامل معه كأخ كبير لهم.

كل حالة فردية داخل المجموعة يعاملها النص السينمائي بانفصال، وبمجموعها تتشكل مساحة درامية تسمح بعرض طاقتهم الإيجابية ورغبتهم في أن يكونوا فاعلين لا عالة على المجتمع. يتضح ذلك من تفاصيل صغيرة تسربها حوارات كتبت بلغة جميلة وذكية تخبر المُتلقي بأن أغلب أعضاء الفريق يمتهنون أعمالا بسيطة يعيلون بها أنفسهم وعوائلهم.

لا تمنع شدة الإعاقة الجسدية عند بعضهم من العمل، ولا من مساندة الغير، فنراهم على الدوام متضامنين لمقاومة متاعبهم، رغما عنها يواصلون عيشهم برضا وتفاؤل يدهش المدرب الذي بدأ يتأثر بهم وبسلوكهم الإنساني الخالي من الأنانية أو الطمع.

فريق المعاقين يخسر في المباراة النهائية، إلا أن المشاركة لديهم أهم من الفوز

 

نظرتهم للآخر على الدوام إيجابية، فهم لا يعرفون الأحقاد، ينقلون ما يحسون به إلى الآخر بلغة واضحة، ويتقبلون ردود الفعل حولها بطيب خاطر حتى لو كانت قاسية وفي غير محلها، ويتجسد ذلك السلوك أثناء تصفيات البطولة في مراحلها النهاية، فلتحديد الفائز بالكأس في المباريات يتطلب الأمر من الفريقين الواصلين للنهائي الذهاب إلى دبي، حيث تقام المباراة هناك. المركز الاجتماعي عاجز عن إتمام المهمة لافتقاره للمال المطلوب، لكن إدارة نادي الاتحاد تبادر وتقدم الدعم له بطلب من مدربهم.

العودة إلى النادي.. فرحة الخسارة وحزن الانتصار

يسافر فريق المعاقين ويلعب المباراة النهائية، ورغم أنه يخسر المباراة فإن اللاعبين لم يتأثروا بخسارتهم، فقد كانوا فرحين بالمركز الثاني وكأنه المركز الأول، لم يهتموا بالنتيجة، فالفرحة بالمشاركة هي الأهم بالنسبة إليهم.

هذا درس تعلمه خالد الذي ودعهم حزينا على فراقهم، وأما هم فقد كانوا مبتهجين له لأنه سيعود إلى ناديه، لكن هذه المرة كمدرب رئيس بعد انتهاء عقد المدرب الأجنبي. لحظة الوداع مؤثرة، لكنها واعدة بفهم جديد وتحولات مواقف اشتغل على تجسيدها فريق عمل متكامل.

أدت موسيقى عامر طاشكندي التصويرية وظيفتها بأكمل وجه، وكذلك التصوير البارع الذي برع فيه المصور “جوسيب كوفيت” المشتغل أكثر الوقت داخل مساحة ضيقة هي مساحة المركز وملعبه الصغير، كما أن التمثيل كان لافتا في جودته، والنص الجديد المكتوب برهن على  نجاعة الاقتباس حين يراعي محلية الأحداث، ويقترح معالجة موضوعات شديدة الحساسية، يعزز تجسيدها على الشاشة وجود الفن السابع داخل مجتمعات عربية تجرب التعبير عن قضاياها بلغة الصورة المؤثرة والممتعة في آن واحد.


إعلان