“حتى الغد”.. المَلاك التي انتهكت المحظور

عدنان حسين أحمد

لم يشأ المخرج الإيراني علي عسكري أن يتحدث في فيلمه الروائي الجديد “حتى الغد” (Until Tomorrow) بطريقة تقريرية مباشرة، فلا غرابة أن يلجأ إلى اللغة المجازية التي تلمّح إلى العُشر البارز من جبل الجليد، لكنها تشير في واقع الأمر إلى التسعة أعشار الغاطسة منه. فالبطلة الرئيسية “فريشته” تُنجب طفلة غير شرعية من لقاء حميمي عابر مع صديقها ياسر، لكنها تعني بالدرجة الأولى خرق العادات والتقاليد الاجتماعية التي تعارف عليها الشعب الإيراني منذ سنوات طويلة.

كما تنوي “فريشته” الهجرة هي وصديقتها “عاطفة” إلى أمريكا وكندا، لتحيطنا عِلما بهجرة العقول الشابة، وبأنّ إيران طاردة لأبنائها لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية، فـ”روشاني” سُجنت لأنها محامية وتدافع عن حقوق المظلومين، وأُغلق مَكتبها بالشمع الأحمر وصار المرور بقربه يُثير الشُبهة.

الهجرة.. اللّهاث خلف الحلم الغربي

ومع كل أشكال القمع السياسي والضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وتضييق الخناق على الحريات الشخصية والعامة، إلا أن المرأة الإيرانية الشابة على وجه الخصوص تقاوم هذه الضغوط بضراوة، وتتحدى الأسرة والمجتمع والقوانين الوضعية التي تُقيّد حياة المرأة، وذلك كما فعلت فريشته التي تعني بالفارسية “مَلاك” حينما أنجبت ابنتها الأولى التي بلغت شهرها الثاني من دون أن تحصل على وثائق رسمية، مثل بيان الولادة وهُوية الأحوال المدنية، الأمر الذي يضع الأم أمام منعطف خطير يدور حوله جانب من القصة الدرامية التي كتبها المُخرج بالاشتراك مع السينارست علي رضا خاتمي.

 

يبدأ التوتر منذ المَشهد الاستهلالي للفيلم، وينتقل مباشرة إلى المتلقي العضوي الذي يجد نفسه على الأقل منفعلا ومتفاعلا مع أحداث الفيلم الدرامي، والذي تتصاعد ثيمته منذ اللحظة التي تتصل فيها والدة فريشته وتُخبرها بأنها ستصل إلى طهران هي والوالد، لأن ابن عمها رضا قد وقعت له حادثة سير ونُقل إلى أحد مستشفيات العاصمة، وعليهما أن يمضيا الليل في منزل ابنتهما، ويعودا في اليوم الثاني إلى مدينتهما التي ظلت مجهولة لنا نحن المتلقين.

تستدعي فريشته صديقتها الجامعية المقرّبة عاطفة التي تفكر بالهجرة إلى كندا وتأخذ دروسا مكثفة باللغة الإنجليزية، حيث تنجح في القراءة والكتابة والمحادثة والإصغاء، وتضمن المعدّل المطلوب الذي يؤهلها للحصول على تأشيرة الدخول إلى البلد الجديد الذي يكفل لها حياة كريمة تخلو من المنغصات التي تعاني منها على الدوام في بلدها الأم.

زيارة على حين غرّة.. البحث عن مُضيف للابنة غير الشرعية

تحاول فريشته بشتى السُبل أن تتملص من هذه الزيارة، لكن إصرار الأبوين على المبيت عندها ليلة واحدة يجعلها عُرضة للفضيحة والسؤال عن ابنتها الرضيعة التي أنجبتها بطريقة غير شرعية تتنافى مع أعراف وتقاليد ودين المجتمع الإيراني.

تتصاعد الأحداث حينما تطلب فريشته من جيرانها أن يحتفظوا بحاجيات الطفلة وملابسها وحليبها بحجة رشّ البيت بمُبيد حشري، على أن تستعيد هذه الحاجيات غدا.

فريشته وعاطفة تجوبان شوارع طهران للبحث عن مخرج لإيواء الطفلة حتى يوم غد

 

إحدى الجارات لم تكلّف نفسها عناء الرد، لأنها لا تفتح الباب لامرأة تحمل صبية من دون أب شرعي، والثانية لا تستطيع أن تضع هذه الحقائب في منزلها من دون موافقة زوجها، وتخشى الاتصال به هاتفيا كي لا تُشتت تركيزه في العمل، أما الثالثة فتوافق على مضض، وتعبر عن خشيتها من انتقال الحشرات إلى منزلها.

وحينما تصل صديقتها عاطفة تضع الحقيبة الأخيرة فوق سطح البناية، وتشرع معها في رحلة ملحمية في شوارع مدينة طهران، علّها تجد مَنْ يحتفظ بابنتها الرضيعة لليلة واحدة فقط.

وبالتزامن مع عملية البحث عن أحد الأصدقاء أو المعارف، تواجه فريشته بعض المشكلات الجانبية مع رئيسها “بهنام” في العمل، وذلك لأنها طبعت بعض الأعمال الغرافيكية بطريقة سيئة، الأمر الذي دفعه لتوبيخها، كما تأخرت في إنجاز “الكتالوج”، لكنها وعدت بأن تجلبه غدا، وإلا فإنها ستتحمل تكاليف الاثنين معا.

مهدي وماهسا.. طرق باب حبيب سابق

يزداد التوتر بعد كل محاولة تبوء بالفشل، فحينما ذهبت فريشته إلى المحامية روشاني وجدت أن الشرطة سجنتها، ووضعت مكتبها تحت المراقبة، وصار المرور أمام المكتب يثير الريبة والشك.

ياسر يحاول نقل فريشته وعاطفة والطفلة الرضيعة على دراجة نارية

 

أما صديقتها عاطفة فقد اقترحت على فريشته الاتصال بمهدي الذي جمعها معه قصة حب فاشل منذ السنة الجامعية الأولى وأصبحا صديقين، لكنها لا تعرف زوجته “ماهسا”، وحينما وصلتا إلى هناك اعتذر مهدي لعدم موافقة زوجته على المقترح، لأنها لا تريد أن تتحمل مسؤولية طفلة في الشهر الثاني من عمرها، كما تبين أنها أجهضت مولودها، وصارت تتحامل على كل امرأة ولودة وتتعامل معها بجفاف.

لقد انتقلت معاملة ماهسا الفظة إلى زوجها، وباتت تتضايق حتى من الطريقة التي ينظّف بها أسنانه، وتختلق الأعذار لإثارة المشاكل والمنغصات. وحينما غادرتا قرر مهدي إيصالهما بسيارته الخاصة، وبدأ يشكو لهما سوء معاملة زوجته طوال الطريق إلى حي “نَواب”، حيث يعمل صديق فريشته ياسر -الذي أنجبت منه ابنتها غير الشرعية- في محل والده لبيع أسماك الزينة.

محاولة للخلاص.. الوقوع في شباك الدكتور

وبما أن ياسر يخشى من انكشاف سره ومعرفة علاقته العابرة التي أفضت إلى إنجاب هذه الطفلة، فقد طلب منهما أن تذهبا إلى محل للوجبات السريعة وسيلحق بهما.

هناك تدور نقاشات طويلة تبدأ باللوم والتقريع، وتمر باستثارة مشاعر الأبوة عبر أوجه الشبه بين أنف الطفلة وأنف والدها، وتنتهي بموافقته على أخذها إلى قريبته نادية التي تعمل ممرضة بقسم الأطفال في إحدى المستشفيات، حيث ستحتفظ بالطفلة لليلة واحدة مقابل مبلغ من المال، لكن حظها السيئ جلب مدير القسم في تلك الليلة، وانكشفت مخالفة الممرضة نادية لأنها أدخلت طفلة رضيعة من دون وثائق، الأمر الذي دفعها لإغراء رئيس القسم بفريشته، ولتكشف لنا فسادها كممرضة من جهة، وانحطاط مدير القسم من جهة أخرى، إذ حاول ابتزازها جنسيا مقابل الاحتفاظ بالطفلة حتى الغد، بحجة أن الناس كلهم يطلبون منه المساعدة، لكن ما من أحد يساعده، وما من شخص يسأله ماذا تريد.

رئيس القسم يسأل عن الأوراق الثبوتية للطفلة الرضيعة

 

حينها تبادر فريشته المُمتحَنة والمغلوبة على أمرها فتسأله بذهول: ماذا تريد؟ فيأتيها الرد الصادم والمفاجئ “لا شيء، سوى بعض المحبة والحنان، وبعدها سأدع طفلتكِ هنا الليلة، وغدا تأتين وتأخذينها بصحة تامة وتذهبين”.

تتصرف فريشته بذكاء حاد وكأنها وافقت على هذه المقايضة والابتزاز، فأخبرته بأن صديقتها موجودة في غرفة الانتظار، ستصرفها وتعود، ويزداد التوتر حينما تشرعان بالهروب من بناية المستشفى، وينتهي بهما الأمر عند البوابة الخلفية للمستشفى، فيخبرهما أحد سائقي الإسعاف بأن بوابة الخروج من الجهة المقابلة، لكن فريشته تتذرع بالفقر وتقول إنها لا تستطيع أن تسدد الأجور، فيأخذهما بسيارة الإسعاف وينقلهما إلى خارج المستشفى، غير أن المحنة بقيت قائمة لأن والديها على وشك الوصول.

مُجازفة.. تهريب الرضيعة بحقيبة يد

لم يبقَ أمامها سوى التفكير بالقسم الداخلي الذي تُقيم فيه عاطفة، وذلك رغم العقوبة الصارمة التي قد تتعرض لها أي طالبة تخرق قوانين المبيت في الأقسام الداخلية، وأقلّها الطرد من القسم، أو الحرمان من الدراسة لسنة واحدة.

وبما أنّ الوقت يمر سريعا، تقترح فريشته أن تترك ابنتها الرضيعة عند عاطفة، حيث تضعها في حقيبة يدوية تتسع لها بالكاد، وتمر بحذر شديد من جوار موظفة الاستعلامات التي سمحت لـعاطفة باصطحاب صديقتها كزائرة بعد أن أخذت هويتها، وحينما تحركتا قليلا نادت عليها وكأنها اكتشفت أمرا مثيرا له علاقة بالطفلة المخبأة في الحقيبة، لكن الموظفة تُخبرها بوجود طرد بريدي يخصها، فتعاودان المضي إلى الغرفة بتيقّظ كبير من كاميرات التصوير المزروعة في ممرات القسم.

فريشته تبلغ تعليماتها لصديقتها عاطفة قبل أن تترك ابنتها وتغادر القسم الداخلي

 

وما إن يصلا الغرفة حتى تأتيهما صديقة تبعث فيهما الخوف من جديد، لكن فريشته تلوذ بزاوية الغرفة وتتفادى كشف وجودها، ثم تبدأ بسرد تعليماتها بشأن طريقة تهيئة الحليب للرضيعة ووقت إرضاعها وتبديل حفاضتها، واستعمال قطرات من الشراب المنوّم إذا ما شرعت بالبكاء.

“لمن هذا الطفل؟”.. نهاية جامحة قابلة للتأويل

تتسيّد في هذا الفيلم حاسة الشمّ التي نلحظها كثيرا عن فريشته التي تعبر عن حسها الأمومي، وتعلّقها الفائق بابنتها في كل مرة كانت تشمّها بعمق وتتنفس أريجها، لكنها في هذه المرة احتضنتها، واستلقت إلى جوارها وكأنها لا تريد أن تتركها وحيدة حتى الغد. وخشية أن تتأخر على والديها اللذين وصلا إلى طهران أخبرتها عاطفة بضرورة المغادرة الآن واستقبال والديها اللذين أرهقتهما هذه السفرة الطويلة.

تتأجج مشاعر فريشته وهي جالسة في المقعد الخلفي من سيارة الأجرة حينما تمسك برضّاعة طفلتها، حيث تغالبها الدموع، وتبدأ في بكاء صامت يحطّم الأعصاب، وقبل أن تصل إلى بيتها تقرر العودة إلى القسم الداخلي واصطحاب ابنتها من جديد بطريقة تنطوي على كثير من التحدي، وليأت بعدها الطوفان.

فريشته تعود لتأخذ ابنتها الرضيعة من صديقتها عاطفة، وذلك بعد أن تركتها في القسم الداخلي

 

وحينما تصل كان الوالدن بانتظارها، ولا غرابة في أن يسأل الوالد بدهشة: لمن هذا الطفل؟ فيكرر السؤال لكنه لم يلقَ جوابا، إذ تمضي إلى البيت وتلجهُ من دون أن تنبس بكلمة واحدة، تاركة نهاية القصة مفتوحة وقابلة للتأويل من قِبل المُشاهدين الذين يمكنهم أن يتخيلوا النتائج المترتبة على هذا السلوك الجامح لفتاة شابة تجاوزت بالكاد عقدها الثاني، وبدأت تفكّر بالهجرة والرحيل.

جدير بالذكر أنّ المخرج علي عسكري أنجز أربعة أفلام قصيرة، وهي على التوالي “أكثر من ساعتين” و”طفل” و”الصمت” و”الشاهد”، إضافة إلى فيلمين طويلين هما “الاختفاء” و”حتى الغد”، وقد شاركت أفلامه الستة في مهرجانات محلية وعالمية، أبرزها “كان” و”البندقية” و”برلين”.

كما ونال عسكري العديد من الجوائز لحساسية الثيمات التي يعالجها في أفلامه، إضافة إلى توفرها على الاشتراطات الفنية والجمالية، وقدرته على استثارة مخيّلة المتلقي التي تجد ضالتها المنشودة في اللغة السينمائية المتطورة التي تتصدى للواقع، من دون أن تهمل الجوانب المجازية التي يقصدها قبل أي شيء آخر.