“تام تام باسكت”.. فريق المهمَّشين الذي صنع مجدا في ضواحي نابولي

د. أمــل الجمل

“طالما أننا ولدنا هنا فهذا يعني لي أننا إيطاليون، وليس من العدل أن يلعب الآخرون بينما نُمنع نحن من اللعب”.. هكذا يتحدث أحد الشباب الأفارقة الموهوبين ضمن فريق “تام تام لكرة السلة” عن لُبّ قضيتهم التي أثارت الجدل والنقاش من حولها لسنوات، حتى وصلت إلى منصات التواصل الاجتماعي التي قدمت دعما لا يُستهان به لهذا الفريق، مثلما ساندهم أهم الكتاب الصحفيين هناك.

هذا كله ضمن أحداث الفيلم الوثائقي “تام تام باسكت” (47 دقيقة، إنتاج 2021)، من توقيع المخرج المصري المقيم بإيطاليا محمد قناوي، ومن إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية، حيث بدأ رحلته بين دور العرض السينمائي نهاية يناير/كانون الثاني الماضي.

كاستل فولتورنو.. مدينة مُتدهورة أحياها “تام تام”

تدور أحداث تلك الحكاية في مدينة كاستل فولتورنو التي تبعد عن العاصمة الإيطالية روما نحو 200 كلم باتجاه الجنوب، بينما تقع على بعد 35 كيلومترا شمال غرب نابولي، وهي مدينة ظلت تعاني الإهمال والمشاكل، وفي مقدمتها الهجرة غير الشرعية، والحرمان من الخدمات العامة وتدهور الموجود منها، حتى إنه بعد أن كان عدد سكانها يبلغ نحو 25 ألف نسمة من الإيطاليين، إضافة إلى 18 ألف نسمة من المهاجرين الأفارقة، ظلت هذه الظروف في تدهور حتى رحل عنها الكثيرون، وبقي فيها نحو 25 ألف نسمة فقط (وفق إحصائية عام 2019)، وتشير التقديرات إلى أن ثلثي السكان من المهاجرين.

 

ما سبق يُعد جزءا لا يتجزأ من قصة الفيلم الذي تبنى قضية “تام تام”، وأصر على أن يحكي قصة هؤلاء الأطفال والشباب في سن المراهقة في ظل الحرمان من الحقوق، إذ يحكي الشريط الوثائقي عن مجموعة من الشباب الموهوبين من أصول أفريقية نجحوا في تحقيق المستحيل رغم معيشتهم في ظل ظروف حياتية واقتصادية صعبة للغاية، فجميعهم ولدو على الأراضي الإيطالية، لكنهم وبحكم القانون الإيطالي لم يحصلوا على الجنسية، وذلك رغم تشربهم تلك الثقافة بكافة تفاصيلها، ورغم محاولتهم الاندماج في ثنايا هذا المجتمع.

تقسيم طبقي.. نهر يقسم المدينة إلى أغنياء وفقراء

ذات يوم يتحمس المدرب “ماسيمو أنتونيلي” (بطل إيطاليا عام 1976) مع آخرين للقيام بتجربة تخدم المجتمع الذي يعيشون فيه، تتمثل في أن يُنشئ فريقا لكرة السلة يُطلق عليه اسم “تام تام”، يقوم بتدريبه ويمنحه الخبرات التي يمتلكها، وأثناء ذلك أيضا يسعى لمنح مساحة لمن لا يملكها، خصوصا من أبناء الأفارقة.

بالفعل يبدأ ماسيمو برحلة تكوين الفريق بالمرور على المدارس لرؤية الطلاب والبحث عن الشخوص الملائمين منهم، وانتقاء مَنْ يمتلك الموهبة، فينجح في إقناع نحو 17 من أصول أفريقية و14 من الإيطاليين.

لقد كان فريق “تام تام” لكرة السلة فرصة، بل ربما يمكن اعتباره حلما كان يبدو بعيدا عن الواقع، لكنه بالتأكيد أصبح حقيقة غيرت حياة العديد من الشباب في كاستل فولتورنو. لقد كانت التجربة غير عادية بالمرة، خصوصا أنها تُقام في تلك المدينة المقسومة إلى نصفين، حيث يشقها النهر إلى طبقتين اجتماعيتين، إحداهما طبقة الأغنياء، والثانية طبقة المهاجرين الفقراء، وهذا ما انعكس بوضوح على الفريق.

فريق تام تام مع المدرب خلال تجهيزات ما قبل المباريات

 

في البداية سارت الأمور بشكل جيد رغم أن اللاعبين من أصول إيطالية بدؤوا في الانسحاب التدريجي لأنهم لم يصمدوا أمام متطلبات التجربة من اجتهاد وإخلاص وتفانٍ، فكان المدرب يبحث عن شخصيات أخرى بديلة تمتلك الموهبة ليقوم بإقناعها بالانضمام للفريق.

معضلة الملعب.. بداية انهيار الحلم

كان الملعب المجهز متاحا، حيث وفرته إحدى المدارس، لكن بعد قليل تم سحب الملعب، ولم يجد المدرب مكانا لتدريب أفراد فريقه. كادت الفكرة أن تنهار ويتحطم الحلم. لا يذكر هنا ماسيمو هل تم سحب الملعب منه بعد أن أصبح الفريق بأكمله من الأفارقة أم لا، لكن تفصيلة لاحقة عن المكان الجديد تشي بأن عددا قليلا جدا من الإيطاليين كان لا يزال موجودا ضمن الفريق.

من هنا بدأت رحلة البحث عن ملعب بديل، واستقر الأمر على مكان في فضاء مهجور بجوار البحر رشحه له أحد أصدقائه، كان المكان مقفرا يفتقد لأي تجهيز، لكن مع الإصرار وبعض الجهود تم تجهيزه بشكل جيد، لكن ظلت معضلة أنه كان يبتعد مسافة كبيرة عن المدينة وعن بيوت هؤلاء اللاعبين الشباب، ومن هنا اختفى تماما من الفريق جميع اللاعبين الإيطاليين، ولم يصمد سوى أبناء الأفارقة.

كان الشباب يتأخرون أحيانا كثيرة على موعد التدريب، وكان المدرب لا يُعلق لأنه لا يريد أن يضغط عليهم، لكن ذات يوم تأخر أحد هؤلاء الشباب لما يقترب من الساعة، وعندما وصل لم يقل شيئا ولم يعتذر. من هنا وجدها المدرب فرصة لتحذيرهم من التأخير مجددا، وأن مَن يفعل ذلك سيتم حرمانه من اللعب وفصله من الفريق.

المدرب “ماسيمو أنتونيلي” مع اللاعبين الأفارقة الذين شكلوا فريق “تام تام”

 

في تلك اللحظة شرح الفتى الأفريقي لماذا تأخر، فقد كان لا يمتلك أي أموال ليستقل الباص أو أي وسيلة مواصلات، مما جعله يسير على قدميه لمدة ساعتين حتى يصل إلى مكان التدريب، بذلك التفسير شعر المدرب بشيء ما يلمس قلبه، لأن إصرار الشاب على السير نحو ساعتين كان تعبيرا قويا عن الشغف بتلك اللعبة، ومن هنا أيضا وُلد شعور بالمسؤولية الاجتماعية داخل ماسيمو تجاه هؤلاء الشباب.

عن الخلاص الاجتماعي.. حين تكون الرياضة سبيلا للاندماج

يُتيح الفيلم فرصة كافية للشباب -والفتاة الوحيدة المشاركة بالفريق أيضا- كي يتحدثوا عن أهمية تلك اللعبة وما تُمثله لهم، وكيف جعلتهم يشعرون بالحرية بأنهم يمتلكون موهبة ستخلق أمامهم أفقا واسعا بعد أن كانوا يشعرون بأنهم رغم أنهم وُلدوا في إيطاليا فإنهم مُستبعدون. لقد نشؤوا في شوارع ومدن إيطاليا والتحقوا بمدارسها، لكنهم بدون جنسية، وكأنهم وجوه لا تحمل أي أسماء لدولة ما.

الآن في ظل التفوق في تلك الرياضة أصبح هؤلاء الشباب على حافة الاندماج، فقد وجدوا في الرياضة التي أهداهم إياها المدرب ماسيمو الرغبة في الخلاص الاجتماعي، والرغبة في تكوين مجموعة، والقدرة على تغيير مصيرهم.

أثناء مفاصل عديدة بالفيلم نرى بوضوح علاقة هؤلاء اللاعبين بالمدرب التي تكاد تشبه علاقة أبوية من زاوية الالتزام والتعاطف، وذلك من خلال محاولات المدرب ماسيمو لتسهيل الأمور عليهم بتوفير بعض الأشياء، كأن يُحضر لأحدهم “حلقة الباسكت” ويُعلقها له بجوار بيته ليتدرب كلما وجد وقتا لذلك، أو يحضر لهم أشياء تساعدهم في أمور حياتهم المنزلية.

المدرب ماسيمو مع الفتاة الأفريقية الوحيدة في الفريق وسط الشباب، حيث تحكي لنا عن تجربتها والصعوبات التي يواجهها الفريق

 

هو جانب عاطفي إنساني مؤثر بالفيلم يُؤكد على إصرار ماسيمو على مساعدة هؤلاء اللاعبين وأسرهم في تحقيق الاندماج الاجتماعي الكبير؛ ببساطة عن طريق القيام بأكثر الأشياء التي يحبونها في الحياة، والتي تجمعت في لعبة كرة السلة.

يُواصل ماسيمو تدريبه للفتاة أيضا، سيقدم لها ملاحظاته عن ضرورة مواصلة إنقاص الوزن بأسلوب رقيق هادئ وغير منفر، لذلك نتفهم جيدا نظرات الإعجاب والامتنان التي نشعر بها في مقلتي تلك الفتاة وهي تنظر إليه أثناء تقديم إرشاداته وتشجيعه المستمر لها، وتأكيده أنها متميزة جدا في موهبتها بخطف الكرة بسرعة والقدرة على التسديد بمهارة، وهو ما يُفسر حماس تلك الفتاة التي يبدأ بها الفيلم لقطاته مثلما يختم مشاهده أيضا بها، وهي تجري على شاطئ البحر للتدريب لمواصلة مشوارها في إنقاص الوزن.

أزمة الجنسية.. الآمال العريضة تصنع المستحيل

ما بين لقطتي الافتتاح والختام والآمال العريضة والأحلام التي يتحدث عنها هؤلاء الشباب، تظهر فجأة المعضلة الأكبر التي تجعلهم فجأة يشعرون بأنهم “لا شيء”.. هكذا يعترف أحدهم، أما المشكلة فترجع إلى عدم حصولهم على الجنسية الإيطالية.

تلك المعضلة لن تكون مثار جدل له كبير صدى (ليصل إلى البرلمان وصفحات الصحف ومنصات التواصل الاجتماعي) إلا عندما تقف حائلا أمام المنافسة العادلة ضمن مسابقات البطولة الإيطالية بسبب تعنت فدرالية كرة السلة هناك، إذ تشترط قوانين الفدرالية ألا يتضمن أي فريق أكثر من لاعبين اثنين فقط من الأجانب، فما الحل وأبطال الفريق بأكمله من أفارقة لا يحملون الجنسية الإيطالية؟

بعض أعضاء فريق “تام تام” لكرة السلة الذي يحلم بالحصول على الجنسية الإيطالية للمشاركة في البطولات الدولية

 

لم يستسلم ماسيمو على مدار السنوات، وتغلب على كافة العقبات لتحقيق حلمه المستحيل بتكوين فريق “تام تام” من شباب لا يملكون إلا شغفهم وموهبتهم، وبنفس تلك الإرادة أيضا وظف كل علاقاته لنشر قضية الفريق على أوسع مدى، حتى اضطر الاتحاد الإيطالي لكرة السلة (FIP) أن يستجيب للضغط العام ويُعلن قرارا يمنح فريق “تام تام” إعفاء خاصا ليتمكن من المشاركة في البطولة الوطنية للتميز لمن هم تحت الـ17 سنة.

وختاما، أعتقد أن هذا الفيلم المتميز والمهم سيُسهم هو أيضا بدوره في إعادة فتح النقاش إزاء السماح لجميع الأطفال المهاجرين المولودين في إيطاليا والذين يدرسون في المدارس الإيطالية، لممارسة الرياضة على المستوى الإقليمي على قدم المساواة مع أقرانهم الإيطاليين.