“سجين للأبد”.. رسومات تفضح عشرين عاما من الظلم في غوانتانامو

عام 2002 أرسل ضابط استخبارات أمريكي برقية مستعجلة إلى مقر وكالة الاستخبارات المركزية من مركزه السري في تايلاند، وكانت تحمل تفاصيل خطيرة حول استجواب أبو زبيدة بعد القبض عليه في باكستان، قيل وقتها إنه أهم رجال “القاعدة”، والذراع الأيمن لأسامة بن لادن، ويقول صاحب البرقية: قد تؤدي التقنيات المستخدمة في تعذيبه إلى الوفاة، وفي تلك الحالة ستحرق جثته كي لا يُعثر عليها، لكن إن نجا فثمة ما يثير القلق.

ويستفهم مرسلها في حالة بقائه حيّا: “هل ستعطي الوكالة طمأنة معقولة بأن السجين سيبقى معزولا إلى الأبد”؟ فمن يكون هذا السجين اللّغز؟ ولماذا لا يزال معتقلا في أعتى معتقلات العالم إلى اليوم؟

أبو زبيدة.. سقوط أخطر رجل في تنظيم القاعدة

يُكنى هذا المعتقل باسم أبو زبيدة، واسمه الحقيقي زين العابدين، وتناديه أمه بهاني، وقد وُلِد بالسعودية سنة 1971 لعائلة فلسطينية مهاجرة، ويحمل شهادة مهمة في علوم الحاسوب حصل عليها من إحدى جامعات الهند.

 

مر أبو زبيدة بعدها على عدد من المحطات المهمة في حياته، من بينها مشاركته في المظاهرات الفلسطينية بالضفة الغربية في بداية شبابه، وهذا بعد أن سافر إلى الضفة الغربية، لينتقل فيما بعد إلى أفغانستان، حيث شارك في حربها الأهلية بعد خروج القوات السوفياتية منها رغم رفض عائلته لهذا، وقد أرسلت له أخاه وقتها ليقنعه بالعودة إلى بيته وعدم المشاركة في حرب لا تعنيه بشيء، لكنه لم يقتنع بهذا، وبقي في معسكر التدريب “خلدن” الشهير.

وقد كانت مهمة أبو زبيدة وقتها تزوير الوثائق وإرسال الجهاديين إلى عدد من نقاط العالم، قبل أن يقبض عليه في باكستان ويصاب من طرف قوة مشتركة بين باكستان وأمريكا، ليُنقل بعدها إلى المستشفى، ويحول إلى عدد من المراكز التابعة لوكالة المخابرات المركزية “سي آي إيه” (CIA)، وهذا في بولندا وليتوانيا والمغرب وأفغانستان وتايلاند.

وقد روّجت وقتها وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية أنه أخطر رجل في تنظيم القاعدة، وواحد من بين أهم زعمائها الذين خططوا ونفذوا هجمات في قلب الولايات المتحدة الأمريكية، أو ما بات يُطلق عليه اصطلاحا “هجمات 11 سبتمبر 2001”.

هذا ما جاء به الإعلام الأمريكي الذي روّجه للعالم على أنه الحقيقة، وقد جرى تدوير هذه المعطيات لسنوات، لكن الواقع شيء آخر تماما، وقد كشف هذا الفيلم الوثائقي جزءا منه.

غوانتانامو.. وصمة عار خارج نطاق القانون الأمريكي

استعرض الفيلم الوثائقي الأمريكي المنتج سنة 2021 “سجين إلى الأبد” (The Forever Prisoner) للمخرج “أليكس غيبني” فضيحة الولايات المتحدة الأمريكية في خليج غوانتانامو، وذلك انطلاقا من سجنها سيئ السمعة الموجود فيه، وهي الحيلة التي خلقتها أمريكا في هذا المعتقل من أجل التهرب من الملاحقة القانونية المفترضة، لهذا اتخذت هذا المعتقل الذي لا يبعد عن أراضيها كثيرا، لكنه يتبع لكوبا، وقد وضعت فيه كل من تشك في انتمائه إلى تنظيم القاعدة، ولا يهم عدد السنوات التي سيقضي بدون توجيه أي تهمة رسمية له، أو حتى بعد إسقاط كل التُهم غير المؤسسة بأدلة تدينه.

وقد نقل هذا الفيلم الوثائقي الجانب المظلم لأمريكا بعيدا عن شعاراتها الزائفة حول حقوق الإنسان والعدالة، وغيرها من الشعارات التي احتلت بها بلدانا لتحقيقها، فالواقع شيء آخر تماما.

اختار المخرج “أليكس غيبني” جانبا واحدا فقط حتى يظهر هذا الزيف، وهذا من خلال تسليطه الضوء على أبو زبيدة الذي لا يزال معتقلا في غوانتانامو رغم مرور 20 سنة كاملة، دون أن توجه له تهمة واحدة، ولم يقدَّم ضده أي دليل، بل إنهم تمادوا أكثر من هذا حين مارسوا ضده أمرا بشعا وغير إنساني في القصة، فقد مورست ضده أبشع وأكثر أنواع التعذيب دموية، ومنها طرق جديدة في التعذيب لا تزال آثارها باقية عليه إلى غاية اليوم رغم مرور وقت عليها.

السي آي أيه.. أساليب تعذيب تخرق أعراف التعاون

ردت القيادة في وكالة الاستخبارات المركزية على صاحب البرقية المرسلة من مركز الاعتقال في تايلاند بقولها إن السجين (تقصد أبو زبيدة) لن يتعرض لموقف يكون فيه اتصال بينه وبين آخرين، وسيبقى في معزل عن العالم لبقية حياته، وهذا ما حدث، فلا يزال أبو زبيدة معتقلا في غوانتانامو رغم صدور أحكام من طرف المحاكم الأمريكية بضرورة إطلاق سراحه، لكنها تبقى مجرد قرارات غير مُنفذة لا تملك أي قيمة ما دام هذا السجين لا يزال في نفس وضع اعتقاله.

وينقل المخرج بعض المعاناة التي مر بها أبو زبيدة في التعذيب، وقد أكد بعض الضباط المشاركين في هذه العملية بأن التعذيب لم يكن مجديا وقتها، لأن أبو زبيدة تعاون مع المحققين في كل شيء، وقد اعترف وقدم خدمات جليلة لم يحلموا بها مطلقا، وهذا من خلال التحقيق الأولي الذي بدأه مكتب التحقيقات الفيدرالي عن طريق العميل “علي صواف” الذي عمل سنوات (1997-2005) في “إف بي آي” (FBI)، وهو مختص بالجماعات الإسلامية، ويملك بنك معطيات حول هذا الموضوع، وهو الأمر الذي سمح له بالتواصل بشكل ودي مع أبو زبيدة في سجنه السري، حيث كانت المعلومات تتوافد بكثرة إلى رؤسائه، وقد سبق لهذا العميل أن ألّف كتابا حول أبو زبيدة.

بوستر فيلم “سجين للأبد” الذي تحدث عن أبي زبيدة الذي تعرض لأسوأ تعذيب في معتقل غوانتانامو

إضافة إلى زميله “ستيف غودن” الذي عمل هو الآخر في هذا الجهاز سنوات (1991-2019)، وقد قدّم العميلان شهادتهما حول أبو زبيدة في هذا الفيلم، وأظهرا بأنه كان يتعاون بشكل طبيعي، لكن وكالة المخابرات المركزية كان لها رأي مختلف بعد أن أوقفت عملهما، وأرسلت فريقا جديدا ليمارس طرق تعذيب جديدة ومبتكرة.

التعذيب المعزز.. تواطؤ بين العلم الحديث والسياسة

قاد عالم النفس “بوريس” واسمه الحقيقي “جيمس ميتشل” رفقة زميله “بروس جيسين” فريقا من المحققين مارسوا بقيادة هذا العالِم أبشع طرق التعذيب وأكثرها دموية، فقد استعملوا العِلم الحديث لخدمة الأجهزة الأمنية الأمريكية، ومن بين تلك الأساليب عملية “الإيهام بالغرق”، وقد مورست هذه العملية على أبو زبيدة أكثر من 83 مرة، حيث قيدوه على لوح خشبي، ثم قاموا بسكب المياه على رأسه وقطع التنفس عليه، كما مارسوا عليه التعذيب المعزز، وهو نوع من أنواع التعذيب يوضع فيه السجين داخل تابوت ضيّق لأيام، وتصبغ الغرفة باللون الأبيض، وتطلق عليه أصوات مزعجة، ويحرم من النوم.

وقد وافق على برنامج التعذيب هذا الرئيس الأمريكي السابق “جورج بوش” بتواطئ مفضوح مع وزارة العدل، ويصف موقع “سي إن إن” (CNN) هذا البرنامج الذي اعتمدته أمريكا بالتفصيل كأسلوب جديد ومبتكر يتضمن “الضرب والتقييد في وضعيات ضغط مُلتوية، وتغطية الرأس، والتحويط بالجدار، والإيهام بالغرق، والإذلال الجنسي، والصفع المتكرر، وتعريض المحتجزين للحرارة الشديدة أو البرد الشديد، وتعريضهم إلى ضجيجٍ يصم الآذان، وحِرمانهم من النوم إلى حد الهلوسة، وحِرمانهم من الطعام والشراب، وحَبْسِهم في صناديق صغيرة شبيهة بالتوابيت، وحجب الرعاية الطبية عن إصاباتهم”.

إحدى رسومات أبو زبيدة لتجسيد عملية تعذيبه بأسلوب الإيهام بالغرق

يقول الموقع: وقد تعرض بعض المحتجزين إلى “إمهاء شرجي” و”إنعاش شرجي” و”تغذية شرجية” على نحو غير ضروري طبيا، إلى جانب تعذيب المحتجزين جسديا، كما كانت هناك تهديدات ضد عائلاتهم، كالتهديدات بإيذاء أطفالهم، والتهديدات بنحر أمهاتهم أو الاعتداء عليهن جنسيا.

حرب الإرهاب.. فساد المخابرات ومطية خرق القوانين

أورد فيلم “سجين للأبد” في مقدمته أرقاما هائلة عن التكاليف الكبيرة التي تكبّدها العالم جراء الحرب العالمية على الإرهاب، وقد جرى تقديرها بحوالي 8 تريليون دولار، مع تسجيل أكثر من 900 ألف ضحية، وهجر حوالي 38 مليون شخص بيوتهم، وقد قدّم نماذج أخرى عن المستفيدين من هذه الأموال.

وقد تعاقدت وكالة الاستخبارات المركزية مع “جيمس ميتشل” والدكتور “بروس جيسين” بمبلغ 180 مليون دولار لتدريب العملاء والمحققين في المواقع السرية في ثماني دول أجنبية على أسلوب الاستجواب المُعزَز، وهو “الإيهام بالغرق”، ومن المحير أن يُعلن العالمان النفسيان في مؤسستهما عدة مستشارين سبق أن عملوا في وكالة المخابرات المركزية، مكافأة لهم على هذا العقد المغري، وهي أدلة واضحة ساقها المخرج عن حجم فساد هذه المؤسسة التي تدّعي الحرب على الإرهاب.

عالِم النفس “جيمس ميتشل” الذي ابتكر أساليب التعذيب المعزز ووظفه على أبو زبيدة

كما اتخذت الولايات المتحدة من عملية الحرب على الإرهاب ذريعة لتنفيذ بعض المخططات السياسية والعسكرية، إذ قامت بتجاوز عدد من القوانين والأعراف الدولية، كما صنفت كل من لا يساندها في هذه الحرب بأنه سيكون ضدها، وهي قيمة خطيرة نقلها الفيلم الذي تتبع خطى هذه الحرب الطويلة، مع إبراز كيفية تعامل المراكز الأمنية الأمريكية مع المعتقلين في مراكز الاعتقال السرية.

شخوص الفيلم.. أطراف ساهمت في صناعة الحقبة المُظلمة

تنعكس القيمة التوثيقية والتاريخية في فيلم “سجين للأبد” في نوعية الشهادات والمداخلات والضيوف الذين تعامل معهم المخرج، وهم أطراف أساسية فاعلة في صناعة تلك الحقبة الأمريكية المظلمة، كما كانوا أشخاصا أساسيين في التعامل أو في تعذيب أبو زبيدة، ومن بينهم الجنرال “ألبيرتو جي مورا” الذي عمل في البحرية الأمريكية (2001-2006)، و”لورنس ويلكرسون” رئيس موظفي وزير الخارجية “كولن باول” (2002-2005)، ومستشار الاستخبارات المركزية “جون ريزو” (2001-2002)، والمحقق من مجلس الشيوخ “دنيال جي جونز” (2007-2016)، والعميل الفيدرالي “علي صواف” الذي ألّف كتابا عن أبو زبيدة (1997-2005)، وزميله العميل “ستيف غودن” (1991-2019)، وهشام أخ أبو زبيدة، إضافة إلى العالمين النفسيين “جيمس ميتشل” والدكتور “بروس جيسين”، ومحامي أبو زبيدة “جوزيف مارغويليس”.

شكّلت هذه الأسماء الثقيلة إضافة حقيقية في الفيلم، وأعطته مصداقية كبيرة، وقد جاء معظمها في صالح أبو زبيدة، لأنه لا يزال بريئا في نظر العدالة الأمريكية، ورغم هذا لم يتجرأ أي رئيس أمريكي على إطلاق سراحه.

مخرج فيلم “سجين للأبد” أليكس جيبيني الذي قدّم العديد من الأفلام الملتزمة بالقضايا الانسانية

من هنا يكون فيلم “سجين للأبد” قد عكس القيمة الحقيقية للسينما الوثائقية في نقل الوقائع والحقائق وإعادة اكتشافها من جديدة، وقد سهّل الضيوف استخراج المعلومة وغربلتها وفقا لسياق منطقي، إضافة إلى أن المونتاج الذكي خلق سلاسة في توارد الأفكار والانتقالمن حدث لآخر دون الإحساس بالقلق أو الملل، رغم أن مدته الزمنية اقتربت من الساعتين.

رسم طُرق التعذيب.. قيمة توثيقية تعكس وحشية أمريكا

قامت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بإتلاف كل الأشرطة المتعلقة بتعذيب أبو زبيدة، وهذا ما ساعد بشكل كبير على حجب المعلومة، لكن محامي أبو زبيدة استطاع أن يعيد اكتشاف الأحداث من جديد، بعد أن تبين بأن أبو زبيدة يُجيد الرسم، لهذا قام بإعادة رسم طرق التعذيب والمراحل الأساسية التي مرّ بها في تلك المعتقلات السرية.

هذا هو ما أعطى قيمة توثيقية للفيلم ولقضية أبو زبيدة بشكل عام، إضافة إلى الجمالية الكبرى التي عكسها في الفيلم، وهو الأمر الذي شكّل انطلاقة أساسية فيه، حيث نقلت تلك الرسومات إحساس ابو زبيدة وما مرّ به، وفي الوقت نفسه عكست وحشية التعذيب وأساليب أمريكا الفاشية، وقد ختم أحد المتدخلين في الفيلم مداخلته بجملة عكست بدرجة كبيرة ما حدث لهذا السجين عبر سنوات اعتقاله الظالمة، وعكس كذلك القيمة الحقيقية لأمريكا وزيفها، وهذا بقوله “لقد قمنا بسجن أبو عبيدة ليس بما فعله بنا، بل لما فعلناه نحن به”.

“تاكسي على الجانب الملظم”.. أوسكار أفضل فيلم وثائقي

“أليكس غيبني” هو من مخرجي الأفلام الوثائقية المُهمّين، إذ سبق له أن قدم العديد من الأفلام الملتزمة بالقضايا الانسانية، من بينها فيلم “تاكسي على الجانب المظلم” (Taxi to the Dark Side) الذي صدر سنة 2007، وقد حصد هذا الفيلم جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي، ويتناول فيه قضية قريبة من أجواء هذا الفيلم، إذ تتمحور قصته -حسب ما جاء في الملخص-على “مقتل سائق سيارة أجرة أفغاني يُدعى ديلاوار في ديسمبر 2002، وذلك بعد تعرضه للضرب حتى الموت من قبل جنود أمريكيين أثناء احتجازه خارج نطاق القضاء، للتحقيق معه في مركز اعتقال باروان في قاعدة بغرام الجوية”.

بعد الانتهاء من فيلم “سجين للأبد” وبداية عرضه التجاري بأسابيع قليلة؛ أعلنت محكمة واشنطن قبولها طلب إطلاق سراح أبو زبيدة، كما أعلنت الحكومة الليتوانية عن استعدادها لدفع تعويض قدره 130 ألف يورو بعد أن أصدرت “المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بعدم قانونية فترة اعتقاله في ليتوانيا في معتقل تابع للعسكرية الأمريكية قبل نقله إلى غوانتانامو”.