“قلب الأبطال”.. سباق التجديف في بحر متلاطم من الأنانية والصراع

د. أحمد القاسمي

هل المجد الرياضي إلا ما يرسخ في عمق الرياضي من اعتزاز بذاته ورضى عنها بعد أن تكون مرحلة الانتصارات الباهرة البطولات العظيمة قد ولّت؟

المفارقة أن هذا المجد الفردي لا يتحقق إلا بنكران الذات أثناء المنافسات والانصهار في روح المجموعة ليعمل الفريق بقلب رجل واحد، ومن هذه المفارقة يصوغ قصته فيلم “قلب الأبطال” (Heart of Champions) الذي أخرجه الأمريكي “ميكائيل ميلر” (2021)، فيعرض مسار مجموعة من طلبة جامعة “بيلستون” وهي تقاتل للفوز بالبطولة الجامعية لرياضة التجديف للموسم الدراسي (1999-2000).

تجديف الفراعنة.. رياضة ضاربة في عمق التاريخ

التجديف رياضة قديمة ضاربة في عمق التاريخ، يُثبت ذلك تاريخ بابل القديمة ورسومات معابد الأقصر الفرعونية حينما كانت زوارق المسابقات الفردية التي تسمى اليوم “كاياك” تُصنع من أوراق البردى، بينما تصنع القوارب الجماعية من الخشب.

وفي محاضرة ألقاها في الموسم الثقافي الأثري الثالث لمكتبة الإسكندرية بعنوان “الرياضة البدنية في مصر القديمة” (وهي متاحة على النت)؛ يذكر الدكتور عبد الحليم نور الدين أنها كانت تمارَس بنفس الطريقة التي تُمارس بها رياضة التجديف الآن. ويقول: نستقي معلوماتنا من اللوحة الشهيرة للملك أمنحتب الثاني بالجيزة، إذ يذكر النص: لم يكن هناك من يجاريه في العدو، كما أنه استطاع أن يجدف بمجدافه البالغ عشرين ذراعا بمفرده لمسافة أربعة أميال في قارب الصقر، أما منافسوه فلم يستطيعوا مجاراته بعد نصف ميل فرجعوا.

 

وتعد رياضة التجديف اليوم بمختلف اختصاصاتها من الرياضات المائية الأولمبية، فتُمارس في الأنهار والبحيرات والشواطئ، ويزيدها ما تقتضي من جهد عضلي كبير وتنسيق في الحركات بين أعضاء الفريق ليجدفوا بقلب رجل واحد نبلا، فتضحي مثالا على التضحية بالجسد من أجل فكرة النصر والتضحية بالقرار الفردي والإرادة الفردية من أجل الوجود الجماعي الفاعل والمنسجم.

كما أن بهاءها يكمن في تلك التفاصيل التي تلتقطها الكاميرا وأشعة الشمس تلتمع وهي تصطدم بسطح الماء، وأزياء الفرق المتنافسة تتفاعل مع زرقة المياه وتشكل مهرجان ألوان، وفتنتها في لقطات الإدراج وهي تلتقط حركة المجاديف تعمل في خفة وانسجام موقعين، وفي عمل قائد الدفة على تصحيح المسار وضبط النسق أثناء السباق.

نهضة الفريق المتناحر.. حكايات أفلام المغامرات الأمريكية

يجعل التفاعل إذن بين عمق الذاكرة وفتنة الراهن رياضة التجديف موضوعا سينمائيا أمريكيا بامتياز، فقد عهدنا هوليود تبحث باستمرار عن موضوعات الحركة والإثارة القابلة للمعالجات السينمائية المبهرة، وكثيرا ما مثلت رياضة البيسبول وكرة القدم الأمريكية وكرة السلة ورياضة الهوكي موضوعات السينما المفضلة. وحين يكون كاتب السيناريو عضوا قديما في فريق التجديف في كليته أيام الدراسة، فلا شك أن المعالجة الفيلمية ستكون مديحا لهذه الرياضة. ذلك هو شان فيلم “قلب الأبطال” وشأن كاتبه “فوجان غجاجا”.

يبدأ الفيلم بحالة التدهور التي يعيشها الفريق، فقد أنهى الموسم الرياضي وهو في المركز الأخير، وكانت الفوضى تسود بين أعضائه، فقد شاع الاقتتال المستمر بينهم، وظل هاجسهم هو حب القيادة والبروز إرضاء للنرجسية أو بحثا عن إعجاب الطالبات وودّهن، ثم يبدأ المنعرج الجديد في حياة الفريق بحلول المحارب القديم في حرب الفيتنام المدرب “مورفي”، فبفضل خبرته وشخصيته القيادية يعمل على تغيير العقول والقلوب، فيعوّل على أساليبه غير التقليدية حتى يدفع الطلبة إلى إظهار قدراتهم الحقيقية والتغلب على نزعاتهم الشخصية والأنانية، فيكونون فريقا منسجما ومقاتلا ينتهي مسعاه إلى النجاح الباهر، فيفوز الفريق بالبطولة رغم العقبات الجمّة، ويصبح الفتية المتقاتلون أبطالا تفخر بهم الكلية.

 

لم تكن صناعة فيلم بهذه المواصفات بالأمر الهيّن، فالسيناريو نمطي صيغ على منوال أفلام المغامرات الأمريكية التقليدية، والأدوار فيه معهودة، ومصائر الشخصيات منتظرة، وهذا ما يُعسّر المهمة على الممثل الذي يهفو إلى ترك بصمته الخاصة على الدور، ويسعى إلى منح الأثر أصالته وتميّزه، وأدبيات رياضة التجديف خاصة، فمن تقاليدها على سبيل المثال أن يمنح الفريق الخاسر الفائزين قمصانه اعترافا له بتفوقه، وعدم معرفة المتفرّج بهذا التفصيل الدقيق يعسّر عليه فهم بعض الأحداث في الفيلم.

خلق التشويق.. لقطات مؤثرة في ما وراء القصص الكبرى

كانت الأحداث الكبرى تجري وفق التجارب الذائعة في السينما الأمريكية كما أسلفنا، ولكي يكتسب الفيلم خصوصيته؛ فقد راهن صانعوه على التفاصيل الصغيرة، فأدرجوا عدة قصص شخصية مؤثرة، فالمدرب “جاك مورفي” هو خريج كلية بيلستون نفسها، وعودته إلى مؤسسته تجعل بعض المشاعر تختلط في ذهنه ووجدانه، ويكون لهذا الماضي دور حاسم في إذكاء الأحداث، فهناك سيصطدم من جديد بـ”ديفيد جيمس” غريمه أيام الجامعة بالأمس، ووالد الطالب “أليكس” قائد الفريق اليوم، وهو ثري وإداري مؤثر في توجهات الكلية واختياراتها، ويستعمل كل نفوذه لمساعدة ابنه للمنتخب الأولمبي.

لم يكن استقدامه للمدرب “مورفي” إلا عملا على تحقيق هذا الهدف، فهو يعلم هشاشته النفسية بعد أن استولى عليه الشعور بالذنب لعجزه عن إغاثة زملائه السابقين في التجديف الذين فقدهم في جنوب شرق آسيا، وظل يعتبر نفسه مسؤولا عن مقتلهم بشكل ما، ويعلم حاجته إلى العمل.

ولا تقل قصة اللاعب الموهوب “كريس” مأساوية، فقد منحته الكلية منحة دراسية على أن يشارك في فريق التجديف ويساعده على تحقيق الانتصارات، لكنه متخاذل يريد المشاركة بالحد الأدنى الذي يخول له الاحتفاظ بمنحته، بل إنه يتمنى إلحاقه بفريق المبتدئين، ووراء تراخيه قصة شخصية مؤثرة، فقد أصرّ على حضور والديه وحبيبته ليتابعوا سباقا في التجديف يقوده. وفي طريقهم إليه ارتكبوا حادثا مروعا قضى عليهم جميعا، فنفر من اللعبة ولم يعد يمارسها إلا لحاجته إلى تمويل دراسته الجامعية. ومحنته هذه ستمثل عائقا أمام السمراء “شين” المحبة له لتتسلل إلى قلبه الحزين.

“جون كيمبل” و”أليكس”، حيث يبدو التنافس قاتلا بينهما

 

يجمع الأثر بين المأساتين، فـ”مورفي” صديق قديم لوالد “كريس” ومعجب بمهارة الفتى، فيبدأ في حثه على العودة إلى اللعب بروح جديدة، ليخرجه من حداده العميق؛ ويجد في ذلك سلوى تهوّن عليه شعوره بالذنب إزاء زملائه.

سيسهم هذا اللقاء في تحسين نتائج الفريق، وفي الحد من الصدامات العنيفة بين زعيمي الفريق “أليكس” و”جون كيمبل”، وتنافسهما في عشق الفاتنة سارة، لكن “أليكس” سيظل ممزقا بين تطلعات والده الانتهازية وتحريضه له على التخاذل لإفشال الفريق وقد آلت القيادة إلى “جون”، وبين تأثير المدرب “مورفي” الذي يحاول انتزاع الأنانية من قلبه والتصدي لمؤامرات والده.

لقد كانت هذه العناصر فاعلة في خلق التشويق والتعاطف، ومنح الفيلم القدرة على التأثير في المتفرّج.

شخصية المدرب.. عصارة من الحكم الفلسفية والتجارب الرياضية

يحتل المدرب في هذه النوعية من الأفلام مكانة مميزة بين جميع الشخصيات، فيكون الحكيم العميق الرصين المجرّب بالأمور، ويرى نفسه في حماسة الشبان الذين يحيطون به، ويعمل على تسليمهم المشعل ليواصلوا الرحلة من بعده، فيقسوا عليهم حين يستوجب الموقف القسوة، ويقترب منهم ويسعى إلى أن يعلمهم فلسفة الحياة، وأن يشرح لهم الفرق بين المهمة والهدف حين يستوجب الموقف اللطف والهدوء، فمهمتهم أن يبذلوا الوسع من الجهد في التدريبات، أما هدفهم فهو الانتصار على فريق هارفارد المتوج بالبطولة الوطنية.

وليس المجدّف الأقوى هو من يكون قائدا للفريق بالضرورة، فالقيادة تُقاس بصلابة القلوب لا بقوة العضلات، وما وجودهم معا إلا ليكونوا فريقا، أي ليضعوا مهاراتهم الفردية في خدمة المجموعة في المقام الأول، لذلك فإن المدرب يتحدى “ديفيد جيمس” ويزيح ابنه من موقع القيادة، ويضع “جون” بدلا منه.

المدرب “جاك مورفي” هو خريج كلية بيلستون، وقد كان محاربا قديما في حرب فيتنام

 

ولعلّ هذه المكانة تمثل المبرر لأقواله الطويلة الأشبه بالطرادات التي يلجأ إليها كُتّاب المسرح في المواقف التحليلية والحجاجية التي تقتضي من الشخصية تبرير أعمالها، لكن رغم طرافتها وقيامها على الحِكم العميقة، فإنها كانت تثقل الفيلم بخطاب تعليمي متعسّف، وتفقده الإيقاع الضروري الذي تحتاجه أفلام الحركة والإثارة.

سياط الهزيمة المذلة.. عقاب التمزق وانعدام الفكر المدبر

تتفاعل المجموعة مع عالمها الجديد، فتلتزم بالانضباط والتفاني في تطبيق التعليمات والتدرب على التركيز والقدرة على التحمل أولا، ثم تمر إلى مرحلة الخلق، فيبتكر “جون كيمبل” تمرين التدريب بعيون معصوبة حتى يرفع من درجة الانسجام بين حركات الفريق، وحتى يصلوا إلى التجديف الآلي كما لو كانوا جسدا واحدا منصهرا.

تتبنّى المجموعة أطروحة المدرب والفيلم في آن واحد، فمهارات الأفراد وحدها لا تشكل فريقا ما لم تشتغل في شكل منسجم ومنتظم، وما لم تسكنها روح المجموعة. ولا بد أن يقفز العنوان إلى ذهن المتفرّج هنا، فالقلب المنسوب إلى الأبطال جاء مفردا ليؤكد وحدة الكيان والتحامه في شكل كتلة صماء رغم تعدد أفراده، والمقارنة بين بداية الفيلم ونهايته تبرز ذلك بجلاء، إذ يستهلّ بسباق البطولة الوطنية، ويجعل فريق كلية بيلستون يتقدم في البداية، لكن حماسة أفراده تفتقد إلى الروح وإلى الفكر المدبر، فسريعا ما يتراجعون ثم يتقهقرون إلى المركز الأخير لتحصل الهزيمة المذلة.

“أليكس” يتخلص من حداده العميق ليقود الفريق إلى النصر

 

وكان المخرج قد رتب لهذا المآل جيدا، فيلتقط صورة الغطس عبر الدرون لنرى جميع القوارب متوازية متجهة إلى الهدف مباشرة، بينما يبدو قارب فريق الكلية مائلا إلى اليسار، والإشارة هنا بيّنة لغياب المهارة والانسجام، ولكون الفريق مجموعة من الأجساد بدون فكر منظّم.

سباق البطولة الوطنية.. فرحة النصر العظيم والثأر والوفاء

ينتهي الفيلم بسباق البطولة الوطنية للموسم اللاحق، ويكون التنافس شديدا، وحينما تصل الإثارة إلى ذروتها يطلب القائد من الجميع غمض الأعين، فيفعلون وكأنهم يسلمونه أجسادهم ويضعونها تحت تصرفه دون جدال أو نقاش، ويخوضون السباق بقلبه هو الذي هو قلوبهم جميعا، وقد انصهرت وتجمّعت في كيان واحد.

في نهاية المطاف يتحقق النصر العظيم، ليكون ثأرا لهزيمتهم، ووفاء لمدربهم الذي يعزل، ولقائدهم “جون كيمبل” الذي توفي قبل أيام من المنافسة بسبب مكيدة دبرها منافسه على قلب “سارة”، ويكون أيضا عقابا لـ”أليكس” الأناني الذي استغل ثمالة سارة ليوهم “جون” بخيانتها له معه، وينشأ بينهما شجار ينتهي بسقوطه العنيف في المياه فتجرفه.

ولأنهم يمثل نموذج الشر، يجعله الفيلم يخسر كل أهدافه، وهي الفوز بقلب “سارة وعضوية الفريق والمكان في الفريق الأولمبي واطمئنان النفس والاعتزاز بالذات.

نبذ الأنانية.. قيم تتجاوز عالم الرياضة إلى الحياة

بحث الفيلم عن التأثير في المتفرج بكل السبل، موظفا تقنيات التصوير والقصص الفرعية والتشويق، وغير ذلك من المعالجات السينمائية. وكان يعمل على أن يقدّم درسا في الرياضة مداره على كيفية تحقيق النصر، وعلى ضرورة التعاون ونبذ الأنانية للوصول إلى هذه الغاية النبيلة.

أليكس ووالده الثري والإداري المؤثر في توجهات كلية بيلستون واختياراتها، والذي يستعمل كل نفوذه لمساعدة ابنه للمنتخب الأولمبي

 

لقد تجاوزت القيم التي يعمل الفيلم على غرسها مجال الرياضة إلى الحياة، فقد كان المدرّب يُلحّ على ضرورة التكامل بين أفراد الفريق بدل الصدام المدمّر، وهو شيء مما بات يسمى اليوم بالعيش معا، ومداره على أننا كلما نبذنا أنانيتنا وعملنا على الانصهار في المجموعة وخدمناها بصدق حققنا مجدنا الشخصي ونجاحنا الذاتي.

ومع ذلك فإن الفيلم لم يخلُ من هنات حالت دون ارتقائه إلى مصاف الأعمال المتقنة التي تحقق الإيرادات القياسية أو الترشيحات إلى الأوسكار، فقد ظل أسير النمطية التي كرستها الأفلام السابقة له على مستوى حبك الأحداث، وعلى مستوى خلق الشخصيات وتجسيم أدوارها عند التمثيل.

كما مالت مرحلة الوسط فيه -حيث تحدث المواجهات العاتية والصراع العنيف- إلى الطول المفرط (نحو ساعة وأربعين دقيقة)، مما أوهن التشويق أحيانا، وحوّل المواقف التي يُراد لها أن تكون حماسية إلى لقطات مضجرة.


إعلان