“لوتزو”.. نهاية حزينة لصيّاد فارق قاربه الصغير في مالطا

قيس قاسم

يقترح المخرج المالطي “أليكس كاميليري” في فيلمه “لوتزو” (Luzzu) مناقشة التحديات الجدية التي تواجه مجتمعه من خلال نص روائي يتأسس على وقائع ومتغيرات جديدة تشهدها الجزيرة منذ دخولها الوحدة الأوروبية، إذ تهدد بتغيير أنماط العيش التقليدية فيها وإحلال أخرى غيرها.

تشترط ضرورات التوافق مع الوحدة الأوروبية التنازل عن أعراف وقيم مجتمعية كالتي أجبرت بطله صيّاد السمك البسيط على ترك مهنته التي توارثها من أجداده، والتي لا يعرف مهنة سواها، وذلك تجاوبا اضطراريا منه مع الشروط الاقتصادية الجديدة التي تفرضها شركات الصيد العملاقة على صغار الصيادين المالطيين، وبسببها يجدون أنفسهم مجبرين على ترك البحر وكل ما فيه من خيرات لها وحدها.

هشاشة محلية وازدهار أجنبي.. واقع السينما المالطية

حصل فيلم “لوتزو” على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في الدورة الأخيرة لمهرجان سندانس السينمائي الدولي، ورغم أنه روائي فإن شدة صلته بالواقع المالطي، واختياره ممثلين غير محترفين أكثرهم من صيادي الجزيرة؛ تُقرّبه من الفيلم الوثائقي، وتُضفي على مساره السردي مصداقية ربما هي ما جعلته فيلما مهما واستثنائيا حظي باستقبال نقدي أكثر من جيّد، وأعاد النقاش حول واقع السينما المالطية، وأسباب انحسار إنتاجها المحلي.

 

ظروف إنجاز فيلم “لوتزو” الصعبة وقلة ميزانيته -كما يؤكد مخرجه في مقابلات صحفية- تلقي الضوء على واقع السينما المالطية التي فضلت أن تكون موقعا تصويريا، لا جهة منتجة للأفلام.

استهوت الجزيرة تاريخيا منتجي السينما الأمريكية والأوروبية كموقع مناسب لتصوير أفلامهم فيها، وبشكل خاص الأفلام الكبيرة الإنتاج، مثل الروائي البريطاني “قصة مالطا” (Malta Story) والأمريكيين “كابتن فيليبس” (Captain Phillips) و”طروادة” (Troy) وأعمال أخرى كثيرة.

هذا التوجه أضعف الإنتاج السينمائي المحلي، إلى جانب قلة مخصصات الدولة لقطاع السينما، الأمر الذي يدفع عددا من المخرجين المالطيين لاختيار السينما المستقلة وسيلة رخيصة لإنجاز أعمالهم عبرها، وفيلم “لوتزو” واحد منها.

“جسمارك”.. معاناة صيّاد بسيط يبحث عن قوت يومه

شُحّ الصيد تنقله المشاهد التي تصوّر الصيّاد “جسمارك” (يلعب دوره صياد من سكان الجزيرة اسمه جسمارك شيكلونا) وهو على متن قارب “لوتزو” (الاسم الذي يطلقه صيادو الجزيرة على القوارب الخشبية الصغيرة المتعددة الألوان) وسط البحر، حيث يُعيد رمي شباكه مرات ومرات أملا في صيد وفير.

 

وفي المساء يعود بالأسماك القليلة العالقة بالشباك، وعلى الساحل تسأله امرأة عجوز عن ما إذا كان بإمكانه التنازل عن واحدة منها. إنه مشهد يلخص حالة فقر تعيشه الجزيرة، وشُحّ صيد متأتٍّ من استحواذ السفن الكبيرة على أكثر الموجود منه.

يعكس المشهد داخل البيت مع زوجته وطفله الرضيع توترا نابعا من قلقهما على تركه ساعات طويلة عند مربية مهملة، فالزوجة تعمل في مطعم مقابل أجر قليل لا يكفي لسد احتياجات العائلة، والزوج يرفض طلب المعونة من أهلها الذين لا يكنّون له تقديرا كبيرا بسبب عمله كصيّاد بسيط لا يتناسب مع مكانة ابنتهم الاجتماعية.

أحاديث الساحل.. انعكاسات المشهد الاقتصادي للجزيرة

تتشكل تفاصيل المشهد الطبقي والتحولات الاقتصادية الجارية في المدينة الساحلية عبر مجموعة علاقات اجتماعية يمثل الصياد وعائلته مركزها، ويمثل الصيادون وتفاعلاتهم وسط المكان الذي يعيشون فيه طرفها الآخر.

الأحداث والحوارات الجارية بين الصيادين أثناء تجمعهم عند الساحل في المساء بعد يوم عمل متعب من دون مردود يكفي لتأمين قوتهم اليومي؛ تُحيل بطريقة غير مباشرة إلى أسباب ما هم عليه.

الصيادون أثناء تجمعهم عند الساحل بعد يوم عمل متعب من دون مردود يكفي لتأمين قوتهم اليومي

 

يُعطي النص (كتابة المخرج نفسه) مساحة للصياد والتطورات الجارية على شخصيته ومواقفه، استقامته وحُبّه للصيد الذي توارثه عن أجداده يزيدان من مشاكله ومن صعوبة توفير مصدر مالي يؤمّن عيشا جيّدا له ولعائلته. الوضع الصحي لولده الرضيع يفاقمها، حيث يظهر من الفحص الطبي أنه يعاني تأخرا في النمو بسبب سوء التغذية، ينصحه الطبيب بتوفير أغذية داعمة غالية الثمن تُحسّن وضعه الصحي.

سر المخازن.. مؤامرة ليلية تجفف أرزاق الصيادين

تحت ضغط الحاجة تضطر الزوجة “دينيس” (تلعب دورها شابة من سكان الجزيرة اسمها ميكيلا فاروجيا) لطلب مساعدة من والدتها، ويقبل الزوج مُكرها بذلك، خاصة بعد ظهور ثقوب في أرضية قاربه تتسرّب المياه عبرها، مما يُعيق إبحاره لمسافات أبعد.

ما يزيد من مشاكله أن القليل الذي يحصل عليه لا يتمكن من بيعه في مزاد الأسماك بالسعر الذي يريده. ومع مرور الأيام ينتبه هو وابن عمه “ديفيد” (يلعب دور ابن عمه الحقيقي الصياد ديفيد شيكلونا) إلى سلوك الوسيط التجاري المثير للاستغراب، إذ يُصرّ متعمدا على إهمال أسماكهما على قلة أعدادها، وعرضه عليهما مبالغ زهيدة بدلها.

نظرة صاحب المزاد ومساعده الآسيوي للصياد تشي بعدم ارتياح لعناده ومطالبته بمعاملة عادلة، شكوكه فيما يُبيّتان ضده وضد بقية الصيادين تدفعه للتسلل ليلا إلى مخازنه واكتشافه عمليات تلاعب وتحايل تجري في السر داخلها، ويوصله تسلله إلى معرفة التواطؤ الحاصل بين المفتشين التابعين للدولة وبين صاحب المزاد وسياسيين متنفذين في الجزيرة يحرصون على عدم الظهور علنا في المكان.

تجويع الصيادين الصغار.. تحالف المهرب والسياسيين الفاسدين

جرى تصوير كثير من المشاهد القصيرة وسط البحر بكاميرا محمولة على الكتف، التقطها المصور البارع “ليو ليفري”، وهي تولد إحساسا قويا عند المتفرج بواقعيتها، وأن كل ما يشاهده على الشاشة هو حاصل بالفعل على الأرض.

في مزاد السمك يضغطون على الصيادين لترك مهنتهم

 

تلك المشاهد تفضح أسرارا تكتّم عليها السيناريو حتى الربع الأخير من الفيلم، وهذا التكتم سبقته إشارة تفيد بمنع الصيادين من صيد الأسماك النادرة والغالية الثمن والمهددة بالانقراض، إلا بقياس محدد ومُثبت من قبل لجان الوحدة الأوربية. هذه الإشارة الدالة يُعاد صوغها دراميا خدمة لمسار حكاية تتشابك فيها مواقف أخلاقية وسلوكيات تُحدد طبيعة كل شخصية ومصيرها اللاحق.

في مشهد ليلي يظهر صاحب المزاد مع مساعده الآسيوي وهما في عرض البحر، والعامل منهمك بجمع ما وقع اصطياده من أسماك محظور صيدها، فبعد إخفائها أثناء النهار تحت سطح الماء، يقومون ليلا على اليابسة ببيعها سرا لتجار متعاونين مع سياسيين فاسدين يحصلون على مبالغ كبيرة مقابل حمايتهم.

يكتشف “جسمارك” مع ابن عمه غاياتهم الخبيثة التي لا يُراد من ورائها الربح غير المشروع فحسب، بل إنهم يخططون أيضا لتجويع الصيادين الصغار وإجبارهم على ترك عملهم، والبحث عن آخر غيره، وبهذا يخلو البحر لأصحاب الأساطيل التجارية وحدهم.

بيع القارب.. نقد مبطن لسياسات الاتحاد الأوروبي

يندفع الصياد النزيه “جسمارك” لمجاراة المتلاعبين بالصيد البحري، بسبب المعاملة السيئة التي يتلقاها من عائلة زوجته والسخرية التي تقابله بها حماته أمام أصدقائها الأثرياء، لاعتماده عليها في رعاية ابنه ودفعها أثمان معالجته طبيا.

“جسمارك” في طريقه لبيع قاربه القديم بعد أن تحالف المهربين مع السياسيين لتجويع الصيادين الصغار وإجبارهم على ترك عملهم

 

يقترح الصيادة على الوسيط العمل معه لأنه يعرف ماذا يدبر ليلا، وتراجعه عن مواقفه الرافضة للانصياع له مؤلم، لكنه يبرره بحاجته الماسة للمال والتخلص من هيمنة عائلة زوجته واحتقارها له، فكرامته وعوزه هما ما دفعاه للذهاب إلى حيث لا يريد أخلاقيا، غير أن خطوته السيئة أخسرته صداقاته ومهنته التي أحبها منذ صغره، وتوارثها من والده وجَده.

المشهد الحاصل لرجل شهم لم يجد حلا لفقره وعوزه المتأتي من فعل مدروس يُخطط له أصحاب الأساطيل البحرية بمباركة دول الوحدة الأوربية، يخضع لتشريح درامي مقرون ضمنا بنقد حاد للسياسات البحرية الأوروبية.

نقد كُتب بلغة سينمائية بارعة تعرف كيف تُسرّبه من دون فجاجة، عبر حوارات ذكية وقصص متداخلة مع مسار قصة مركزية بسيطة لكنها شديدة العمق، نهايتها ذات دلالات كبيرة تُلخصها قصة بيع “جسمارك” لقاربه.

تراجيديا النهاية.. أداء مبهر يتسرب إلى نفسية المشاهد

يأخذ الصياد “جسمارك” ما حصل عليه من مال عبر مشاركته تجار السوء، ويخطط لإقامة مشروع تجاري خاص بتشجيع من السياسيين الذين تتوافق مصالحهم مع مصالح أصحاب سفن الصيد العملاقة، ويقدم هؤلاء للصيادين عروضا مغرية لشراء قواربهم الصغيرة منهم، مقابل قبولهم التخلص منها، عبر تسليمها إلى شركة مختصة بتحطيمها.

 

يودع الصياد قاربه حزينا، ويذهب مباشرة إلى ساحل البحر، ليراقب من بعيد زملاءه القدامى، وكأنه يودعهم نهائيا كما ودع قاربه الصغير و”دفنه” بنفسه، فتتسرب تأثيرات النهاية الحزينة إلى دواخل المُشاهد، وتظل معه حتى بعد خروجه من قاعة السينما.

هذا التأثير القوي نابع من قوة أداء ممثلين هواة لعبوا أدوارهم بطريقة تثير الإعجاب، وأيضا أسلوب كتابة الشخصية الرئيسية في الفيلم وتطورها الديناميكي، إذ تَصلح أن تكون درسا في فن رسم الشخصية السينمائية، إلى جانب الاشتغال السينمائي الرائع المشجع بمجموعه على وصف “لوتزو” بالفيلم الجميل القادم من جزيرة قَلّما نشاهد أفلاما منها، تُصنع بأيدي سينمائييها.


إعلان