“رجل حر” و”هم يعيشون”.. نظارة تمكنك من رؤية الوجه الحقيقي للعالم

إبراهيم إمام

شهدت ألعاب الفيديو طفرة في السنوات الأخيرة، فلم تعد الألعاب تعتمد على بطل يتحرك في مسار محدد، ويواجه مجموعة من العقبات التي يتجاوزها، بل أصبحت الألعاب تتميز بما يسمى “العالم المفتوح” (Open World Games)، وفي ألعاب العالم المفتوح لا يوجد هناك مسار محدد، بل عالم كامل يمكن لبطل اللعبة التحرك فيه كيفما شاء، ويملك قدرا كبيرا من الحرية.

ويعرض فيلم “رجل حر” (Free Guy) قصة شخصية من شخصيات “ألعاب الفيديو” (Video Games)، وهو من بطولة “راين رينولدز” الذي أصبح واحدا من أكثر الممثلين الأمريكيين شهرة في مجال أفلام التسلية.

العالم المفتوح.. ألعاب مليئة بالتفاصيل والتفاعل

يقدم الهيكل المعتاد للألعاب عددا من العقبات والمستويات التي يجب على البطل المرور بها حتى يصل إلى العدو النهائي، ليُنهي اللعبة بالفوز عليه، بينما لا تقدم “ألعاب العالم المفتوح” هذا التتابع من المستويات.

 

وكما في لعبة “أسطورة زيلدا: نفَس البرية” (The Legend of Zelda: Breath of The Wild)؛ يبدأ البطل اللعبة عالما لهدفه النهائي، وعليه أن يتفاعل مع العالم من حوله كيفما يشاء، ودون تتابع زمني محدد حتى يكتسب ما يرغب من مهارات تؤهله للوصول لهدفه النهائي، بل إن بعض الألعاب كلعبة “سايبر بانك 2077” (Cyberpunk 2077) تقدم نهايات مختلفة تختلف حسب المسار الذي يختاره كل لاعب.

تتميز عوالم هذه الألعاب بامتلائها بالكثير من التفاصيل التي يمكن التفاعل معها، وواحدة من هذه التفاصيل هي الشخصيات التي لا يمكن اللعب بها، وتمثل هذه الشخصيات المجتمع المحيط بالبطل، والتي يمكنه التفاعل معها دون أن يكون تفاعله بالضرورة مفيدا أو مضرا خلال رحلته. ويقدم فيلم “رجل حر” هذه الشخصية الهامشية بوصفها بطل الفيلم.

نظارة اللاعبين.. شخصية هامشية تدرك سر العالم الآخر

يحكي الفيلم قصة شخص يدعى “رجل”، وهو واحد من الشخصيات غير القابلة للعب، ونلاحظ مباشرة أن اسمه يشير إلى أنه مجرد شخص آخر، إنه شخص غير ذي أهمية. يشعر رجل بالانجذاب تجاه فتاة تلعب بها لاعبة ما، مما يدفعه إلى محاولة التواصل معها.

يقدم الفيلم فارقا رئيسيا بين اللاعبين والشخصيات غير القابلة للعب، وهو أن اللاعبين يرتدون نظارات، وذلك ما يدفع البطل إلى محاولة الحصول على نظارة أحد اللاعبين، وفور ارتدائها يدرك أن العالم من حوله مختلف تماما، فالأبطال يعيشون في عالم مختلف يمكنهم فيه أن يجمعوا المال ويشتروا أدوات تزيد من قدراتهم، ولا تتسم حياتهم بالتكرار الآلي الذي تعيشه الشخصيات غير القابلة للعب.

“راين رينولدز” أصبح واحدا من أكثر الممثلين الأمريكيين شهرة في مجال أفلام التسلية، وهو بطل فيلم “رجل حر”

 

نلاحظ هنا فكرة رئيسية، وهي أن ارتداء النظارة مكّن بطل الفيلم من إدراك حقيقة العالم من حوله، وتذكرنا هذه الفكرة بفيلم آخر من إنتاج عام 1988، وهو فيلم “هم يعيشون” (They Live).

“هم يعيشون”.. نظارة شمسية تغير حياة عامل فقير

يحكي فيلم “هم يعيشون” (They Live) قصة عامل بناء فقير يدعى “نادا” يحاول كسب قوت يومه، وكلمة “نادا” بالإسبانية تعني “لا شيء”، وهي إشارة من الفيلم إلى أن “نادا” ليس شخصا ذا أهمية إلى درجة كونه غير ملاحظ، أو لا أحد.

تقود الأحداث “نادا” إلى الحصول على مجموعة من النظارات الشمسية، وعندما يُقدم على ارتدائها يلاحظ “نادا” تغير كل شيء من حوله، فيكتشف أن هذه النظارات تكشف له حقيقة العالم من حوله والرسائل المبطنة في مظاهره، فهو يرى باستخدام النظارات العالم بدرجات الأبيض والأسود دون ألوان تمثل عامل تشتيت، ويتغير محتوى كل اللافتات الإعلانية والمجلات من حوله.

العامل الفقير “نادا” لا يصدق ما يراه عندما يرتدي النظارات الشمسية

 

ينظر “نادا” إلى لافتة إعلانية مكتوب عليها “تخفيضات”، لكن بمجرد ارتدائه للنظارات يجد المكتوب أصبح “استهلك”، بينما تتحول النقود إلى أوراق مكتوب عليها “هذا هو إلهك”، بينما يتغير غلاف المجلات الدورية إلى “أطع”.

نقد الأيديولوجيا.. بصمة التيار اليساري في السينما

يرى الفيلسوف اليساري السلوفيني “سلافوي جيجك” أن فيلم “هم يعيشون” واحد من نجاحات تيار اليسار في السينما، حيث يقدم الفيلم نقدا عميقا للأيديولوجيا، والأيديولوجيا في فكر “جيجك” تتجاوز الأفكار السياسية الكبيرة مثل الرأسمالية والليبرالية وغيرها إلى الحياة اليومية.

يقدم “جيجك” فكرته بناء على وجود مفارقة بين الأيديولوجيا والحياة العملية، وتمثل الأيديولوجيا الأفكار المتخيلة التي تقود سلوك الناس وتصرفاتهم، وكما نلاحظ في فيلم “هم يعيشون”، فهناك لافتة إعلانية تشير إلى أن المحل يقدم تخفيضات للعملاء، لكن على الرغم من ذلك فالرسالة المبطنة لهذا هي
“استهلك”، ما يعنيه أنه ليس من الطبيعي أن يشتري الإنسان أشياء لمجرد أنها رخيصة الثمن، فمحرك الإنسان ليست الحاجة، بل الرغبة، والرغبة التي يخاطبها هذا الإعلان هي الاستهلاك.

يرى “جيجك” أن الأيديولوجيا هي تلك الفكرة الزائفة التي تفكر فيها قائلا سأشتري منتجا لأنه رخيص، ويلاحظ “جيجك” أن المجتمعات الإنسانية تحركها هذه الأفكار الزائفة، بل تربطها وتحافظ على تماسكها.

 

هكذا يقدم الفيلم نظارات تساعد البطل على رؤية حقيقة العالم من حوله، وهو الأمر الذي يشترك فيه الفيلم مع فيلم “رجل حر”.

الوقوع في الحب.. خطأ مدمر في الحياة المعاصرة

يرى الفيلسوف “سلافوي جيجك” أن الوقوع في الحب هو فعل مضاد للأيديولوجيا، إذ تقدم الحياة المعاصرة فكرة عن الشخص الناجح بوصفه شخصا لديه وظيفة ذات أجر مرتفع، يعيش وحده، وله جاذبية تساعده على الاستمتاع بعلاقات جنسية سريعة مع عدد كبير من الفتيات.

يقول “جيجك”: بالنسبة لشخص كهذا يمثل الوقوع في الحب شيئا مدمرا، بل إنه مضاد لفكرة السعادة، لهذا يلفت “جيجك” النظر إلى فكرة أن هناك علاقة بين الوقوع والحب، فالحب ليس أمرا هينا يمكن أن تقوم به بينما تستكمل حياتك بإيقاعها المعتاد. الوقوع في الحب هو وقوع بالمعنى الحرفي.

وعلى الجانب الآخر يرى “جيجك” أن التصاعد الكبير في سوق وكالات الزواج يمثل أيضا هروبا من الوقوع في الحب، فكما هو الزواج التقليدي من خلال المعارف والعائلات، فإن الذهاب إلى وكالات متخصصة في البحث عن شركاء حياة مناسبين، يمثل بحثا من الناس عن حب دون وقوع، وعن سعادة دون ألم.

مواجهة ألم الحقيقة.. خيار منبوذ يفسد السعادة الزائفة

نلاحظ أن دافع “رجل” للخروج من حياته المكرر المملة ومحاولته الحصول على النظارات كان الحب، على العكس من فيلم “هم يعيشون” الذي جعل حصول “نادا” على النظارات ناتجا عن الفضول والمصادفات لا أكثر.

 

على الجانب الآخر يعرض الفيلم محاولة “نادا” إقناع صديقه بارتداء النظارات حتى يرى الحقيقة، لكن رفض صديقه كان قاطعا، إلى درجة اضطرتهما إلى العراك في مشهد عنيف يستمر مدة 20 دقيقة متواصلة، فالبشر يفضلون السعادة الأيديولوجية عن مواجهة ألم الحقيقة، وهو ما يعرضه أيضا فيلم “رجل حر”، حيث تظهر حياة الشخصيات غير القابلة للعب حياة سعيدة مستقرة لا يعكر صفوها أي مشكلة، لكن ما عجز عنه الفيلم هو عرض ما يتطلبه الأمر كي يتمكن شخص من إقناع الناس بالتخلي عن هذه السعادة الزائفة من أجل الوصول إلى الحقيقة، فلم يتطلب الأمر من “رجل” إلا خطبة بلاغية بسيطة أدت إلى إقناع الناس بالتعاون معه.

رجل الأعمال الشرير.. قصة متكررة في عالم التكنولوجيا

تعرض أحداث فيلم “رجل حر” خلفيات إنتاج هذه اللعبة التي تدور بداخلها أحداث الفيلم. فقد قام بتصميم هذه اللعبة مصممان شابان طموحان كانا يرغبان في تصميم لعبة تتطور شخصياتها وتكوّن حيوات مستقلة، لكن رجل الأعمال “أنتوان” يستولي على البرنامج الذي قاما بتصميمه، ويقوم بإنتاج نسخة أقل ثورية، لكن أكثر تجارية، مما يمكنه من الحصول على الكثير من الأرباح دون الإحالة إلى برنامجهم الأصلي.

في هذه القصة يعرض الفيلم ديناميكية متكررة في عالم التكنولوجيا، وذلك عندما يقوم فريق من الشباب بتصميم برنامج ثوري يحقق نجاحا كبيرا، ثم تقوم شركة كبيرة بالاستيلاء عليه لصالحها، لكن الفيلم يعرض شخصية كاريكاتيرية ذات بعد واحد لـ”أنتوان”، وهي شخصية رجل الأعمال الذي لا يفكر إلا في أفكار شريرة، رجل الأعمال غير المهتم بأصالة منتجه، بل بالأرباح التي سيجنيها منه، إلى درجة الكذب على الجمهور ووعدهم بإصدار جديد من اللعبة متوافق مع الأجهزة الأقدم، بينما لا ينوي حقيقة إنتاج هذا.

ليس بالعسير إدراك أنه لا توجد شخصيات كهذه في الحياة، بل إنه من المستحيل في عالم ألعاب الفيديو أن تقوم شركة بالكذب المستمر على جمهورها بهذ الأسلوب الساذج الذي عرضه الفيلم.

كانت أحدث حالة مشابهة لهذا هي لعبة “سايبر بانك 2077” التي قامت بإنتاجها شركة “سي دي بروجيكت” (CD Projekt)، وهي شركة ذات تاريخ طويل من الألعاب الثورية الناجحة، لعل أبرزها لعبة “ذا ويتشر 3: ذا وايلد هانت” (The Witcher 3: Wild Hunt).

 

لم تتوافق لعبة “سايبر بانك 2077” مع تطلعات اللاعبين ولا وعود الشركة، مما أدى إلى خسارة الشركة ملايين الدولارات، ومواجهة عدد كبير من الشكاوى القانونية وغيرها من المشكلات.

في واقع الأمر، ما عرضه فيلم “رجل حر” عن العلاقة بين حركة المال والشركات الكبرى والمطورين الشباب هو صورة بسيطة أيديولوجية بعيدة كل البعد عن تركيب الحياة. وعلى الجانب الآخر لم يختلف الأمر كثيرا في فيلم “هم يعيشون” الذي يكتشف فيه “نادا” أن هناك مجموعة من الكائنات الفضائية الشريرة التي تسيطر على الأرض وتتشكل بهيئة آدمية، وتقوم بإنتاج هذا النظام الظالم الذي يستغل البشر في العمل الشاق في مقابل أجور زهيدة، وهي أيضا فكرة أيديولوجية ساذجة تفترض وجود ما هو شرير خالص.

لم يستطع كل من الفيلمين أن يقدم رؤية مركبة عن مصدر المشكلة التي يعرضها.

صراع الحرية والحقيقة.. نهاية تقليدية وأخرى مركبة

لقد قدم فيلم “رجل حر” بداية قوية وفكرة مميزة، لكنه لم ينجح في استكمالها حتى النهاية، وبسرعة بالغة صعد الفيلم من العمق الذي بدأ عنده إلى السطح.

ينتهي الفيلم نهاية هوليودية تناسب تسعينيات القرن الماضي، وهي النهاية التقليدية، وذلك بهزيمة الشر وحصول “رجل” على حريته، وهي للسخرية حرية داخل حدود اللعبة فقط، ثم يدرك مصمما اللعبة الأصليان حبهما لبعضهما.

وعلى النقيض من ذلك ينتهي فيلم “هم يعيشون” نهاية أكثر تركيبا، حيث يموت “نادا” في نهاية الفيلم مضحيا بحياته في سبيل تدمير النظام الذي يستخدمه الفضائيون ليكفل لهم التحرك في صورة بشر، مما يؤدي إلى أن يدرك جميع الناس وجودهم.

لقد دفع “نادا” حياته ثمنا لإيصال الحقيقة للجميع، وهي نهاية تجمع بين الحزن أو التشاؤم بسبب موت البطل، مع التفاؤل الناتج عن تحقيقه الهدف الذي لا يقتصر على شخصه.


إعلان