“شوماخر”.. أفراح وأتراح في حياة أشهر سائقي السباقات في العالم

خالد عبد العزيز
“لطالما اعتقدت أنه لا يجب عليك أن تستسلم أبدا، بل يجب الاستمرار في القتال، حتى عندما تكون الفرصة ضئيلة”. بهذه الكلمات الحماسية التي تنتمي لبطل رياضة سباقات سيارات فورميلا 1 “مايكل شوماخر” يُمكن النفاذ إلي عمق شخصيته العنيدة المثابرة التواقة للنجاح، فمن منا لم يسمع باسمه، أو لم يعبر عليه بعينيه أثناء قراءة نشرات الأخبار، حتى إن كنت عزيزي القارئ لا تُدرك هيئته أو صورته، بالتأكيد مرّ اسمه من أمامك، خاصة على مدار السنوات السابقة.
ففي يوم الـ29 من ديسمبر/كانون الأول عام 2013؛ تعرض “شوماخر” لحادثة أثناء ممارسة رياضة التزلج على الجليد في فرنسا، حيث اصطدم بحجر، لتتحول حياته إلى سلسلة متعاقبة من المآسي، تُحيط بها طبقة كثيفة من الغموض والسرية، فبعد هذا الحادث أصبحت حياة “شوماخر” رهينة قصره العالي الأسوار بمحاذاة بحيرة جنيف السويسرية، ولا أحد يدري على وجه الدقة حالته الصحية، وهل إن كانت الغيبوبة غادرته وعاودت قدماه قدرتهما على السير مُجددا، أم أنه حبيس كرسي متحرك؟
وفي الفيلم التسجيلي الألماني “شوماخر” (Schumacher) الذي كتبه وأخرجه “هانس برونو كامرتونس” و”فانيسا ناكر” و”ميشائيل فيك” (2021)؛ نلتقي مع “مايكل شوماخر”، نقترب منه، ندخل عالمه، فالفيلم يُقدم بورتريها إنسانيا عن تلك الشخصية الفريدة، يطرح رؤية مقربة ليست فقط عن بطل يلهث محبوه وراءه بحثا عن أخباره، بل يقتحم عالم سباقات السيارات الذي لا يخلو من الإثارة والتشويق التي صبغت حياة شوماخر ولو بقدر يسير.
“عليك الاندماج مع سيارتك في كيان واحد”.. عودة للسباق الأول
يبدأ الفيلم بمشاهد متناثرة لـ”شوماخر” برفقة أسرته في رحلة بحرية، ثم ننتقل للمشهد التالي الذي نرى فيه سيارة “شوماخر” الحمراء الشهيرة وهي تقطع نفق السباق بسرعة جنونية رغم الظلام المحيط بأرجاء الطريق، ثم يرتطم هذا الظلام بدفقة نور وشمس الظهيرة الساطع، ثم يُصاحبنا صوت “شوماخر” قائلا “عليك الاندماج مع سيارتك في كيان واحد، فالوصول للكمال هو هدفي، لم أستطع العيش في سبيل شيء أقل”، وكأن خروجه من النفق يُعادل خروجه من العدم للحياة التي لا تتشابه مع حياة غيرها.
عندئذ تُصبح هذه المشاهد كأنها بمثابة مُقدمة أو برولوج يصلح كمدخل وتمهيد للفيلم وللشخصية التي هو بصدد الحديث عنها، وحينها يسهل فهم دوافعها في التالي من أفعال.

ثم ننتقل للمشاهد التالية،حيث سباق “شوماخر” الأول في الفورميلا 1، وهو سباق “سبا” في بلجيكا عام 1991، حينها لم يكن “شوماخر” قد جاوز عامه الثالث والعشرين، وقد واجه عددا من السائقين المحترفين بندية واضحة وبلا خوف أو تشكك في قدراته، بل العكس هو ما بدا حينها، فقد اختار الفيلم أن يبدأ سرده من تلك النقطة، وليس من البداية المعتادة (أي مرحلة الطفولة وما تلاها)، سيعرج الفيلم عليها ويتوقف عندها، لكن نقطة البداية هنا تُبدو كمدخل لفهم شخصية “شوماخر”، وكلما استمر السرد في التقدم ستكتمل الصورة أكثر فأكثر، سواء من الجانب الرياضي أو الإنساني، فكل منهما يُكمل الآخر ويتوافق معه.
“الاضطرار إلى القتال بهذه المعدات البدائية كان دافعا لي”.. أيام الطفولة
اعتمد بناء الفيلم على شقين لا ثالث لهما، الأول هو اللقاءات المصورة مع أسرة “شوماخر” وأصدقائه والمقربين منه، والشق الآخر يحتوي على المواد الأرشيفية لـ”شوماخر”، سواء تلك اللقاءات التي أجراها في السابق أو مشاهد للسباقات الكثيرة التي اشترك فيها، لكن بنية سردية ضخمة مثل هذه تحتاج إلى بناء جيد يحكمها حتى لا ينفرط عقد الحكاية، لذا لجأ السيناريو إلى تقسيم القصة إلى ثلاثة فصول متصلة في سرد خطي تقليدي.
لكل فصل وحدته السردية التي تُشكل مع الفصل التالي نسيجا سرديا متكاملا ذا وحدة واحدة، وكلها تدور في نفس الفلك ولا تحيد عنه، وهو حياة “مايكل شوماخر” من البداية وحتى اللحظة الآنية، وكل جزء من هذه الأجزاء يُزيح الستار عن جانب من حياة بطلنا، وهكذا حتى تكتمل الصورة.
في الفصل الأول يعود السيناريو إلى طفولة شوماخر، حيت يصاحبنا صوته وهو يسرد طفولته قائلا “كل شيء بدأ في الرابعة من عمري، حينما كان والدي مهتما بصيانة الآلات القديمة، وأثناء صيانة دراجة نارية قديمة تبلغ سرعة محركها 40 كم في الساعة، صنع والدي منها سيارة سباقات صغيرة”.
وعند تلك النقطة يفتح “شوماخر” خزائن ذكرياته كاشفا عن المزيد من التفاصيل العائلية التي تبلغ قيمتها في ما ورائها، وتحديدا في كيفية تربية الشغف والحلم من الصغر، ومسؤولية العائلة وقدرتها على التحكم في ذلك وفق التقدير السليم، بل ودفعه في مسار متدفق نحو المزيد من النجاحات، وهذا ما فعله أبواه، فنراه في مشاهد أرشيفية أخرى أثناء اشتراكه في سباق بطولة العالم للناشئين، حيث يُخبرنا بأنه يفوز بمعدات وإطارات سيارات قديمة ليست في الحالة المثلى، وبما يكشف عن الطبيعة المادية لأسرته التي لم تكن في أفضل أحوالها، لكنها راهنت على قدرة ابنها لتحقيق حلمه والوصول لهدفه، أو مثلما يقول “الاضطرار إلى القتال بهذه المعدات البدائية كان دافعا لي”، فالرهان هنا ليس على الإمكانيات المتاحة التي تؤثر بلا شك، بل على التحدي والمثابرة التي يُمكنها فعل المزيد، والتي سيكشف عنها الفيلم تباعا، وبالتالي يصلح هذا الفصل أن يُطلق عليه اسم “التحدي”.
صعود القمة.. مسيرة متعرجة مثل مضمار السباق
يقول “شوماخر”: تفوز بسباق، والسباق التالي علامة استفهام، هل ما زلت الأفضل أم لا؟ هذا ما هو مضحك، لكن هذا هو المثير.
وإذا تأملنا هذه الجملة سنجد أنها مُعبرة بجلاء شديد عن طبيعة تلك الفترة الزمنية من حياته، ينطلق من سباق لآخر، قد يحرز هذا ويخفق في آخر، وتلك طبيعة الرياضة، لكنه يتقدم ويُحقق ويصل إلى ما لم يصل إليه غيره، ففي هذا الجزء ننتقل مع “شوماخر” من سباق لآخر، ومن هذه البلد إلى تلك، حيث تختلف أمكنة السباق من عام لآخر، وكلما تعاقبت السباقات اكتسب بطلنا مزيدا من النجاحات، وتتراكم لديه الخبرات، ليصبح هو ومضمار السباق جسدا واحدا يستقيم في أحيان كثيرة، ويتلوى عند الانعطافات الحادة، ثم يستقيم مُجددا بسيارته الأشبه بصاروخ مُنطلق بسرعة تقترب من 350 ميل في الساعة.

عبر عدد من المشاهد والتسجيلات الأرشيفية نتابع “شوماخر” من هذا السباق إلى ذاك، ليس هو وحده، بل نراه بعيون زملائه وخصومه أيضا، سواء في لحظات النجاح أو الراحة، انتقاله وتدرجه من الفورميلا 3 إلى الفورميلا 1، تلك النقطة الفارقة في حياته التي لم يعد بعدها “شوماخر” الذي يعرفه الجميع، بل تحولت شخصيته وحياته أيضا إلى مسار مختلف.
ميدان القتال.. كشف الستار عن خفايا حلبة السباق
على الرغم من أن أحداث الفيلم تدور حول شخصية “شوماخر”، فإنه يحوي طبقة أخرى، وهي كشف الستار عن ما يدور في هذه الرياضة الخطرة سواء في حلبة السباق، أو ما يدور وراء الحلبة في غرفة التحكم التي تشبه غرفة العمليات الحربية، وكأن حلبة السباق ميدان معركة، لذا ليس المستهجن أو الغريب أن يطلق “شوماخر” على السباق ميدان القتال، فبالتأكيد يختلف أمر قيادة سيارة بسرعة مقبولة عن قيادتها بسرعة تقترب من 400 ميل في الساعة.
حينما انتقل “شوماخر” إلى الفئة الأعلى لسباقات فورميلا 1 لم يكن عمره قد جاوز 23 وسنة بعد، ويواجه أسماء كبيرة في هذا المجال، مثل “ايرتون سينا” المتسابق الأسطوري الذي فقد حياته في إحدى السباقات، وغيره من المتسابقين، فالنظرة المتبادلة بين المتسابقين رغم احتوائها على الود والاحترام، فإنها مصحوبة بكثير من الضغائن أو الشوائب التي سرعان ما تطرأ في حلبات السباق، مثل اصطدامات السيارات المتكررة التي قد تؤدي إلى نتائج وعواقب قد لا تخطر على بال أحد، مثل ارتطام سيارة “شوماخر” في إحدى سباقات بطولة العالم بسيارة المتسابق المنافس، وحينها تحول الأمر إلى عراك دفع ثمنه حينها بالابتعاد عن حلبة السباقات لفترة ليست بالهينة.

هنا نكتشف جانبا آخر من الرياضة بصفة عامة، وهو الكم الهائل من الضغوط النفسية التي يتعرض لها اللاعبون، بحيث تُصبح دافعا غير مبررا لأفعال قد تبدو غير متناسبة مع الصورة الذهنية عنهم.
حوادث اللعبة.. للرياضة وجه سعيد وآخر حزين
ينطلق الفيلم في التعبير عن الصعوبات التي تواجه لاعبي تلك الرياضة، ومدى الخطورة المحتملة على حياتهم، فنرى في أحد المشاهد “شوماخر” في إحدى اللقاءات الصحفية وهو يبكي بشدة جراء رحيل “ايرتون سينا” قائد سيارات فورميلا 1، ثم يتعرض السرد في المشاهد التالية للحوادث التي تعرض لها “شوماخر” نفسه، فالرياضة لها وجهان، فوز وخسارة، وإن كان الفوز حليف بطلنا بصورة متكررة.
ذلك النجاح جعل “فيراري” المنافس العتيد قبلة تلقائية لـ”شوماخر، حينما انتقل لهذا الفريق الذي تعرض لسلسة من الهزائم، ويبحث عن من يُعيد الاسم الشهير للصدارة مُجددا، وعند هذه النقطة يسرد الفيلم تبعات تلك المرحلة التي جعلت “شوماخر” يصل لآفاق أكثر نجاحا، وهي الفترة التي ارتبطت بالانتشار لدى الجمهور بالسيارة الحمراء الشهيرة التي تنطلق من هذا الانعطاف إلى ذاك بمهارة تستحق الثناء.
“أريد فقط أن أكون معروفا كشخص عادي جدا”.. جانب الإنسان
يتحدث “مايكل شوماخر” قائلا: “أريد فقط أن أكون معروفا كشخص عادي جدا، وأكون قادرا على السير في الشارع مثل أي شخص آخر”، فحياته لم تسر وفق منوال طبيعي، إذ اختطفته الشهرة والأضواء، وجعلته شخصية عامة مثيرة للاهتمام، لذا بدت ردود أفعاله أمام كاميرات وسائل الإعلام دالة على أنه يراها كسجن يأسر روحه المنطلقة، ومن ثم يتصرف نحوها بشيء من العدوانية.

تلك الرغبة الحثيثة في ممارسة الحياة بشكل تلقائي تُعبر عنها زوجته “كورينا” في أحد المشاهد وهي تصف زوجها بأنه زوج ورب أسرة من الطراز الأول، لم يضع ظروف عمله وحياته كعائق أمام القيام بمهامه كأب حقيقي.
هنا ينطلق الفيلم في مستوى سردي مغاير عن المستوى السابق، فإذا كان السرد يأخذ طابعا مثيرا ويحوي بصمة مهنية أو رياضية أكثر، فإن الروح العالقة في هذا الجزء إنسانية خالصة، وتكشف عن شخصية لا تقل في استثنائيتها الإنسانية شيئا عن ريادتها الرياضية، وقد دعم هذا الاتجاه الانتقال بالكاميرا بين عائلة “شوماخر”، تارة تتحدث الزوجة، وتارة يتحدث الأبناء أو الأب، شذرة من هنا وأخرى من هناك، وهكذا حتى تكتمل المصفوفة.
جبال الألب.. حادثة تكسو الفيلم طابعا مأساويا
نصل إلى الفصل الثالث من الفيلم، وفيه يأخذ السرد منحى مُغايرا، إذ يبدأ هذا الجزء من الحادثة المأساوية التي تعرض لها “شوماخر” أثناء رحلة التزلج في جبال الألب الفرنسية.
يأخذ الفيلم طابعا مأساويا منذ تلك اللحظة، ويفقد حسه الرياضي الحماسي، فطوال الأحداث نرى سباقات السيارات والتدرج من هذه الحلبة إلى غيرها، مما جعل إيقاع الفيلم لاهثا لدرجة أن مدة العرض التي تقترب من الساعتين لا يشعر بهما المتفرج، وهذا يُحسب لقدرة الإخراج على توليف ومزج هذا الكم الهائل من المشاهد الأرشيفية واللقطات التوثيقية في رابط وإيقاع شديد الإحكام، ليبدو الفيلم جيدا من الناحية الحرفية وطموحا بدرجة كبيرة.

على الرغم من أن “شوماخر” لم يظهر طوال أحداث الفيلم إلا من خلال المشاهد والتسجيلات الأرشيفية، فإن الفيلم لم يتأثر بوجوده الفعلي من عدمه، فالصورة اكتملت عنه بالفعل، من خلال الاقتراب من المحيطين به، وبالتالي بدت الصورة أكثرا واقعية واكتمالا، وبعيدة عن أي رتوش أو مؤثرات داخلية، وهذا يدفعنا للتساؤل عن شوماخر الحاضر الغائب، هل يكسر قيود عزلته ويخرج للحياة مُجددا؟