“سطوة الكلب”.. جناية راعي البقر الذكوري العملاق على نفسه
“عندما مات والدي، لم أرد شيئا كما أردت سعادة أمي. أي رجل أكون إن لم أساعد أمي؟”.
نفضت “جين كامبيون” عن نفسها غبار 12 عاما من الغياب عن الشاشة الكبيرة، وعادت وفي جعبتها فيلم جديد نتوقع له أن يترشح لعدد من جوائز الأوسكار إن لم يفز بإحداها، فقد أتى الفيلم الذي أنتجته منصة “نتفلكيس” وعُرض في عروض سينمائية محدودة بعنوان “سطوة الكلب” (The Power of the Dog).
هذا العنوان هو ذاته عنوان الرواية التي اقتبست عنها “جين كامبيون” الفيلم، وهي رواية “سطوة الكلب” التي نشرت عام 1967 للروائي “توماس سافدج”.
“جين كامبيون”.. عودة مربكة إلى الشاشة الكبيرة
يحتوي طاقم عمل الفيلم على عدد من الأسماء المميزة في عالم السينما، أولها المخرجة والكاتبة النيوزيلندية “جين كامبيون” التي كتبت وأخرجت فيلم “البيانو” (The Piano) عام 1993، وهو الفيلم الذي نالت به جائزة أوسكار أفضل مخرج، لكنها انقطعت عن عالم السينما منذ ذلك العام حتى عادت مرة أخرى بهذا الفيلم.
ربما تكون “كامبيون” هي أهم أسماء طاقم العمل، لكن أشهرهم بالتأكيد هو بطل الفيلم الممثل الإنجليزي “بينيديكت كامبرباتش” صاحب الاسم شديد التعقيد، بالإضافة إلى تاريخ من الأعمال الشهيرة، مثل شخصية “شيرلوك هولمز”، والدكتور “ستيفن سترينغ”، بالإضافة إلى الممثلة “كريستين دانست”، والممثل “جيسي بليمونز”.
على الرغم من النجاح الكبير المرتقب للفيلم، فإن هناك تباينا واضحا في ردود الأفعال بين النقاد والمشاهدين العاديين، حيث تنطوي أحداث الفيلم ونهايته بشكل خاص على بعض من الغموض نحاول إيضاحه في هذا المقال.
راعي البقر والعازفة.. حرب نفسية لحماية الثروة المهددة
تدور أحداث الفيلم في عالم رعاة البقر بولاية مونتانا في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1921، ويحكي الفيلم قصة راعي بقر يُدعى “فيل” وأخيه “جورج”، حيث يمثل “فيل” شخصية راعي البقر الكلاسيكية التي تتسم بالكاريزما الذكورية المتمثلة في سمات مثل قوة الشخصية والحزم والقوة البدنية وتحدي السلطة وفرض الهيمنة على المحيطين به، بينما يميل “جورج” إلى الحياة الحديثة التي يهيمن فيها أصحاب العلاقات داخل جهاز الدولة من خلال المناسبات الاجتماعية المختلفة، مثل الحفلات أو دعوات العشاء وغيرها من أشكال إقامة العلاقات الحديثة التي تتجاوز دورها الاجتماعي إلى دورها في تعزيز السلطة.
يملك الأخوان مزرعة للمواشي ويديرانها، مما يجعلهما من فئة الأثرياء في هذه الفترة، لكن عالم “فيل” ينهار عندما يتزوج “جورج” من امرأة فقيرة، إذ يظن “فيل” أن “روز” وابنها “بيتر” يحاولان خداع أخيه “جورج” كي يحصلا على ثروتهما، وحينها يبدأ “فيل” في إرهاب “روز” بكل أساليب الضغط النفسي التي تخطر بباله دون أن يضطره الأمر إلى مواجهة مباشرة أو صراع ما يكون فيه طرف مخطئ وآخر محق.
يعلم “فيل” أن “روز” كانت عازفة بيانو متوسطة الجودة من قبل، وأنها لم تعزف منذ زمن بعيد، وقد قام زوجها “جورج” بدعوة والديه ومحافظ المدينة وزوجته إلى العشاء، وطلب من روز التدرب على العزف حتى تعزف لهم.
عندما تبدأ “روز” في التدرب يبدأ “فيل” بالعزف على آلته المفضلة “البانجو” مقاطعا عزفها، بل إنه يحدق فيها بشكل مباشر بينما يعزف، وكأنه يقول لها لست عازفة جيدة، لن تكوني مصدر فخر لزوجك، تعلمين ذلك.
ينجح “فيل” بهذه الألاعيب النفسية، وتتحول “روز” التي لم تكن تشرب المشروبات الكحولية قبل زواجها إلى مدمنة كحول، وتنهار حياتها، وتتحول من الحزن إلى الاكتئاب، وبذلك ينتصر “فيل”، ويفرض هيمنته بشكل كامل على المشهد.
“بيتر”.. محورية الصراع النفسي للفتى الرقيق
هذه القصة هي السبب الذي جعل الكثيرين يرون أن الفيلم ينطوي على قدر لا بأس به من الملل، ذلك أن القصة تسير بشكل خطي لا يعترضها شيء.
لعل أحد أهم عناصر القصة الناجحة هو وجود نزاع أو تضارب يدفع بأحداث القصة للأمام، وفي حالة فيلم “سطوة الكلب” فإن هذا الصراع غير ملاحظ على السطح، لأن الصراع يدور كله في نفس “بيتر” ابن “روز”، ومن ثم فمن المهم اعتبار أن “بيتر” ليس أحد شخصيات الفيلم، بل هو محور القصة، فنحن لا نشاهد قصة صراع “فيل” و”روز”، بل نشاهد “بيتر” الذي يراقب الإيذاء المستمر لوالدته، حيث أن الصراع الذي يدفع الأحداث هو صراع “بيتر” مع نفسه، و”بيتر” هو شاب ضعيف البنية بشكل متطرف، وهو ذو ميول فنية، وبصفة عامة يعرض طاقة أنثوية رقيقة.
هذا الشاب الرقيق ذو الطاقة الأنثوية الذي لا يرغب في شيء كما يرغب في سعادة والدته كما يقول في الثواني الأولى من عرض الفيلم، وهو في حيرة من أمره، إذ لا يمكنه أن يوقف “فيل” عن إيذاء والدته، لكن هذا الصراع النفسي لا يفصح عن نفسه إلا بأثر رجعي في الدقائق الأخيرة من الفيلم، وهو الأمر الذي جعل كثيرين يشعرون بغموض النهاية وعدم فهمها.
إنسان الثورة الصناعية.. معايير الرجولة في القرن العشرين
من المهم أن نلاحظ العام الذي تدور فيه أحداث الفيلم، وهو عام 1921، فتلك فترة زمنية مميزة في تاريخ الإنسانية، إذ حدث فيها كثير من التطور السريع نتيجة للثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وقد تميزت هذه الفترة بصراع عدد من الأفكار مع الزمن، وهو الأمر الذي يبرر بطء أحداث الفيلم إلى حد ما، فقد اعتمد الذكور قبل الثورة الصناعية على القوة البدنية والشخصية الحازمة بصفة خاصة في فرض النفوذ وحماية أنفسهم ومن يهمهم أمرهم، وهو ما أدى إلى مقاربة وخلط مفاهيم الذكورة مع مفاهيم الرجولة، لكن التطور فائق السرعة في التقنيات أدى إلى تضاؤل أهمية هذه الصفات مقارنة ببزوغ نجم صفات أخرى، مثل القدرة على الإدارة والتسويق وإنشاء علاقات اجتماعية.
اعتماد الذكور على الأعمال اليدوية والانخراط في أنشطة تحتاج إلى القوة البدنية مع ظروف الحياة القاسية في العالم الغربي آنذاك؛ جعل البعض يقدر أن سوء رائحة الجسد علامة على العمل الجاد، مما نتج عنه احتقار الاهتمام بالنظافة، بوصفها صفة من صفات النساء اللاتي لا يملكن ما يملك الذكور من صفات تساعد على الهيمنة في هذا العصر، وبطبيعة الحال تصبح السخرية من النساء من علامات الذكورة، وتصبح السمنة مثلا علامة على الضعف ومثارا للسخرية.
من المفهوم أن السمنة ليست علامة على الصحة الجيدة، وليست أمرا محمودا، لكن الخلط يكمن في جعل الجسد أحد عوامل إضفاء القيمة على شخص أو نزعها عنه، وهو الأمر الذي ينطبق أيضا على القوة البدنية التي هي شيء محمود، لكنها ليست عاملا في تقييم قيمة الإنسان، وهذا الخلط وتبني هذه الأفكار هو ما يميز شخصية “فيل” التي لا تترك فرصة دون عرضها والتأكيد عليها.
“الذكورة السامة”.. محاولات إيجاد ثغرة في حائط منيع
تُعرَّف الصفات التي يتصف بها “فيل” في الخطاب العالمي الغربي حاليا بالذكورة السامة، ومن الملفت أن التأثير السام لشخصية “فيل” عبّر عن نفسه بشكل حرفي، فقد أدى إلى أن أصبحت “روز” مدمنة كحول، أي أنها تسمم جسدها بالمشروبات الكحولية.
الإصرار الشديد من قبل “فيل” على استعراض هذه الصفات يدفعنا إلى التفكير في أنه يقوم بالمبالغة في التعويض عن شيء ما.
يبدو لنا أن هناك أمرا غير منطقي في رغبة “فيل” المستمرة في إيذاء “روز” وابنها، وعدم قدرته على تكوين علاقة إنسانية بحكم مرور الزمن وسكنهم جميعا لبيت واحد. يشاركنا “بيتر” الشك في أن هناك ما يخفيه “فيل” ويسعى إلى معرفة هذا السر، وذلك في محاولة منه لإيجاد ثغرة يستطيع منها النفاذ من خلال الحائط الذكوري المنيع الذي أقامه “فيل” حول نفسه، لكي ينتقم لوالدته “روز”.
انتقام الجمرة الخبيثة.. نهاية راعي البقر العملاق
ينجح “بيتر” في الانتقام لوالدته بالفعل. لكن كيف تمكن هذا الشاب الضعيف من قتل رجل في قوة وسطوة “فيل”؟
لم يلجأ “بيتر” إلى القوة، بل تقرب من “فيل”، وعلم منه أن بعض الماشية تموت بسبب إصابتها بمرض “الجمرة الخبيثة”.
كان “بيتر” يرغب في أن يكون طبيبا جراحا، وهو ما ساعده على امتلاك بعض المعلومات عن كيفية انتقال هذا المرض وخطورته على الإنسان. وكان من نتائج تقرب “بيتر” من “فيل” أيضا تعلمه ركوب الخيل، وهي المهارة التي استخدمها في الذهاب إلى المناطق البرية المحيطة بحثا عن جثة حيوان مات بسبب عدوى الجمرة الخبيثة، وباستخدام أدواته الطبية الجراحية قام “بيتر” بسلخ جلد هذا الحيوان متفاديا انتقال العدوى إليه، ثم أعطى هذا الجلد إلى “فيل” كي يصنع له حبلا من حبال رعاة البقر، وهو ما أدى إلى إصابته بالعدوى ثم الموت.
“أنقذ روحي من سيف الأعداء، وحياتي من سطوة الكلب”
استطاع “بيتر” قتل “فيل” والتخلص منه وتحرير “روز” من سطوته، وبعد أن نعلم بموته نشاهد “بيتر” ينظر إلى صفحة من التوراة من “سفر المزامير” تنص على “أنقذ من السيف نفسي؛ من يد الكلب حبيبتي”. وهو النص الذي اقتبس منه عنوان الرواية، وبالتالي عنوان الفيلم.
النص العربي يحوي على بعض التقديم والتأخير، ويتسم بلغة غير مألوفة، مما جعلني أعتمد على النص الإنجليزي في فهمه، ويمكن ترجمة النص الإنجليزي بلغة حديثة إلى التالي “أنقذ روحي من سيف الأعداء، وحياتي من سطوة الكلب”. وهو النص الذي يشير إلى قصة سيدنا داود عليه السلام في التراث اليهودي والمسيحي.
فقد كان داود عليه السلام شابا حدث السن لا يتوقع أحدا منه أن يكون جنديا مؤثرا في جيش طالوت الذي ذهب لمواجهة جيش من العمالقة بقيادة جالوت، وقد كتب الله لداود على حداثة سنه وضعف بنيانه أن يكون هو من يقتل العملاق جالوت.
نهاية الفيلم.. مفتاح القصة الذي يدفع إلى إعادة المشاهدة
ينتهي الفيلم بانتصار “بيتر” الضعيف لأمه على العملاق “فيل”، وفي هذه اللحظة ينكشف لنا معنى كثير من أحداث الفيلم السابقة. تدفعنا لحظة الكشف في نهاية الفيلم إلى إعادة مشاهدته مرة أخرى بعين مختلفة، فتكتسب كل أحداثه ومشاهده مهما كانت عابرة معنى أكبر مما كانت عليه في المشاهدة الأولى.
هذا الاحتياج إلى إعادة المشاهدة يأتي في صورتين؛ المحمودة منها، وهي عدم القدرة على الخروج من عالم الفيلم، ومن ثم يرغب المشاهد في مشاهدته مرة أخرى، أما الصورة الأخرى فهي ما حدث في سطوة الكلب، حيث يكون الاحتياج إلى إعادة المشاهدة ناتجا عن الشعور بأننا لم ندخل عالم الفيلم بشكل كامل بسبب افتقادنا أحد المفاتيح الهامة في فهمه، وبمجرد حصولنا على هذا المفتاح نعود مرة أخرى كي نشاهد ونشتبك مع أحداث الفيلم.
لا شك أن الفيلم يعاني من ضعف هيكله القصصي، فالوزن الأكبر أو التأثير الأكبر للقصة لا يقع في منتصفها أو ثلثها، بل في الدقائق الأخيرة من الفيلم. لكن لا شك أيضا أن ضعف الهيكل تعوضه قوة الأسلوب الفني في التصوير والموسيقى التصويرية والأداء بالغ التميز لطاقم التمثيل بكامله.
يضعني فيلم “سطوة الكلب” في موقف متردد بين ترشيح مشاهدته وعدم ترشيحها لهذا أرى أنه من المناسب أن نقول إن أجواء الفيلم ظلامية بعض الشيء، وهو أميَل إلى جمال الأسلوب، وأبعد عن قوة السرد، الفيلم مميز بلا شك، لكنه غير لطيف، ويحتاج إلى مزاج خاص كاحتساء كوب قهوة بينما تجلس وحيدا.