“صيف الروح”.. صفحة من تاريخ كفاح السود الموسيقي في قلب نيويورك

مشاهد مذهلة صُوّرت قبل أكثر من خمسين عاما، لكنها ظلت مدفونة لم يطلع عليها أحد، وكان يعتقد أنها فُقدت تماما، إلى أن جاء من أعاد اكتشافها وصنع منها فيلما وثائقيا طويلا مدهشا، حيث يستخدم الفيلم الموسيقى للتعبير عن يقظة الوعي الأسود عند الأمريكيين الأفارقة في فترة من أكثر الفترات سخونة في التاريخ الأمريكي الحديث. هذا هو فيلم “صيف الروح” (Summer of the Soul) الذي نال جائزة أفضل فيلم وثائقي في مسابقة الأوسكار 2022.
استطاع الموسيقي والمخرج الأمريكي “أمير ثومبسون” أن يتعامل مع ما يقرب من 40 ساعة من المواد المصورة لكي يصنع منها نسيجا مدهشا متناسقا، هو الذي شكل فيلم “صيف الروح” الذي تصنع موسيقاه إيقاع الفيلم، وتجعله أنشودة معبرة عن الصحوة الكبرى في فترة كانت تشهد بروز “القوة السوداء”، وبلوغ حركة الحقوق المدنية ذروتها في أعقاب اغتيال “مارتن لوثر كنغ”.
“كانت الموسيقى هي وسيلتنا الوحيدة للتعبير عن قوتنا”
إننا نعيش لما يقرب من ساعتين مع حفل كبير امتد لنحو ستة أسابيع كان يُقام يوم الأحد من صيف 1969 (يوليو/تموز- أغسطس/آب) في حديقة “ماونت موريس بارك” الواقعة على أطراف حي هارلم الشهير بجزيرة مانهاتن في مدينة نيويورك. كان مهرجانا ثقافيا وسياسيا كبيرا يتخذ طابعا موسيقيا شارك فيه عشرات الآلاف من الأمريكيين الأفارقة، في تجمع لم يسبق له مثيل، فقد جاؤوا نساء ورجالا وأطفالا وشيوخا يتمايلون ويرقصون معا على أشهر الأغاني التي كتبها ولحنها وأداها مغنون ينتمون لفرق موسيقية شهيرة. وكما يقول أحد الذين يظهرون في الفيلم: كانت الموسيقى هي وسيلتنا الوحيدة للتعبير عن قوتنا والإعلان عن وجودنا.
كانت بداية هذا المهرجان الموسيقي الكبير في عام 1967، لكن تصويره بكاميرات الفيديو لم يبدأ إلا في عام 1969، وبسبب توتر الأجواء السياسية مع بروز حركة القوة السوداء والمطالبة بالمساواة في الحقوق بين البيض والسود، وما وقع من احتكاكات؛ كان منظمو المهرجان يخشون من تدخل شرطة نيويورك التي لم تكن موضع ثقة لديهم بسبب تاريخها السيئ معهم، فما كان منهم إلا أن استعانوا بأفراد من منظمة “الفهود السود” لحماية التجمع الكبير.
لم يكن المهرجان الموسيقي الكبير مقتصرا على السود من الأمريكيين الأفارقة، بل كان يضم كل الجماعات العرقية من كوبا وبورتوريكو ونيجيريا وجنوب أفريقيا وبنما، وقد منح هذا التنوع الكبير في الأساليب الموسيقية المهرجان عمقا وقوة، وجعل التظاهرة بمجملها تصبح تدشينا قويا لما أطلق عليه “الموسيقى السوداء”، أي أنها تعبر عن ثقافة الجماعات والتجمعات الملونة التي لم تتح لها الفرصة من قبل للعمل معا، من أجل تأكيد الهوية المشتركة.
هذا ما يحرص الفيلم على تقديمه من خلال المونتاج الذي يبدو كما لو أنه قد خلق رقصة واحدة ممتدة متعددة النغمات والألوان، لكن العين لا يمكن أن تخطئ أبدا، الرسالة السياسية التي يوجهها المشاركون في الرقص والموسيقى خلاصتها: نحن هنا الآن.. ولن نسمح لأحد بأن يستبعدنا أو يهمشنا.
موسيقى البلوز.. فن الانعتاق من أغلال الماضي الأليم
كان المغني الأسود “ب. ب. كنغ” من أشهر المغنين وعازفي الجيتار في تلك الفترة، وكان يغني البلوز، واعتبر -دون منافس- ملك البلوز، أي هذا النوع من الغناء الذي يتميز بالنغمات الحزينة، وكان عازفا ماهرا على الغيتار، وهو يظهر على المسرح في الجزء الأول من الفيلم يعزف منفردا على الغيتار، ويجعل الجمهور يرقص على موسيقاه التي جعلته أفضل عازف غيتار في النصف الثاني من القرن العشرين، ثم يغني أغنيته الشهيرة “لماذا أغني البلوز؟” (Why I Sing the Blues) التي يقول مطلعها: لماذا أغني البلوز.. أعرف أن الجميع يريد أن يعرف لماذا أغني البلوز.. لقد كنت هنا طويلا.. وقد سددت ديوني.. لقد جلبوني على متن سفينة.. وكان هناك رجال كثيرون يحرسونني.. وكانت هناك السياط.. وكل الناس يريدون أن يعرفوا لماذا أغني البلوز.
إنها أغنية تشع بالحزن، وتذكر بتاريخ العبودية الذي عانى منه أسلاف هؤلاء المجتمعين الآن في الحديقة الكبيرة في هارلم، يعبرون عن شغفهم الكبير بالموسيقى والرغبة في الانعتاق من أسر الماضي. ومعروف أن موسيقى البلوز نشأت أصلا في الجنوب الأمريكي وفي المزارع، حيث كان العبيد الذين جلبهم التجار البيض من أفريقيا يعملون في مزارع القطن. وأصل هذه الموسيقى أفريقي، لكنها اختلطت فيما بعد بالجاز والـ”روك آند رول”، كما يكتسب كثير من أغانيها معاني روحانية.
يظهر في الفيلم أيضا القس والناشط السياسي المعروف “جيسي جاكسون” وهو يصعد على خشبة المسرح ويقف بجوار المغنية الأسطورية “مهاليا جاكسون”، ثم نراه في لقطات صُورت حديثا، يتحدث عن ذكريات تلك الفترة، وعن المهرجان الكبير الذي شارك فيه ولم يكن قد تجاوز الثامنة والعشرين من عمره، ثم نعود إلى لقطات الماضي لنشاهده وهو يلقي كلمة مؤثرة يردد خلالها الكلمات الأخيرة التي نطق بها “مارتن لوثر كينغ” قبيل اغتياله مباشرة، وذلك حينما قال إنه يريد أن تغني “ماهاليا جاكسون” أغنية “خذ بيدي” (Take My Hand)، ثم يقدم “مهاليا” وتغني تلك الأغنية التي تصطبغ بقوة بالعنصر الديني الروحاني، ثم نراها تميل عليه وتطلب منه أن ينادي على تلميذتها وصديقتها الشابة “مافيس ستابلز” لتصعد وتشاركها غناء تلك الأغنية، ويكون لها أثر بالغ على الجمهور.
كانت “ماهاليا” وقتها في ربيعها الثامن والخمسين، وكان المرض قد اشتد عليها، بينما كانت “مافيس” في الثلاثين، وكان ظهور ملكة البلوز الديني في المهرجان هو آخر ظهور علني لها قبل وفاتها في عام 1972. وقد أشاع ظهورها وغناؤها على المسرح شعورا جماعيا مدهشا بالروحانية، واندمج الجميع معها كما نستطيع أن نرى في تلك المشاهد المؤثرة. إنها تردد بصوتها الأسطوري: خذ يدي.. قدني للأمام.. نعم نعم نعم.. دعني أقف.. فأنا متعبة.. نعم أنا كذلك.. أنا ضعيفة.. يارب.. يارب.. لكن عبر العاصفة.. عبر الليل.. قدني إلى النور.
“توني لورانس”.. أسرار شخصية صانع المهرجان الذكي
أما الملك غير المتوج في الحفل الكبير فكان المغني والعازف والناشط السياسي الأسود “توني لورانس” (وهو من جزر الهند الغربية أصلا) الذي يقف وراء تنظيم المهرجان منذ عام 1967، وكان شخصية محبوبة لدى الجميع، ورغم موقفه النضالي الصلب في مناهضة العنصرية، فإنه كان يتمتع بصداقة مع البيض الليبراليين أيضا، وكان يحظى بالتقدير والاحترام من جانب الجميع.
نرى في الفيلم كيف أثار ظهوره على المسرح عاصفة من التصفيق وانطلق في الغناء، ودفع الحيوية في أجساد الجميع، فبدأوا يتمايلون على إيقاعات أغانيه.
يتضمن فيلم “صيف الروح” كثيرا من اللقطات الأرشيفية والصور الفوتوغرافية الثابتة، وكذلك المقاطع التي يتحدث فيها كثير من الذين حضروا الحدث وشاركوا فيه عندما كانوا شبابا في ذلك الوقت، وهم يتحدثون اليوم ليسترجعوا ذلك الحدث. من بين هؤلاء “ألين زيركين”، وهو أمريكي أبيض كان مساعدا لـ”توني لورانس” في إقامة مهرجان هارلم الثقافي، وهو يصف “لورانس” بأنه كان شابا شديد المرح والحيوية و”صاحب ابتسامة أسطورية”.
أما “مارغوت إدمان” التي كانت ضمن فريق الإنتاج في المهرجان فتقول: كان دائم الحركة، وكان إيجابيا للغاية، ولم يكن يغضبه أي شيء. ويضيف “زيركين” أنه: كان أيضا مروجا جذابا.
ونحن نستمع إلى هذه الشهادات على خلفية صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود، ثم لقطات قصيرة بالألوان تتعاقب سريعا لـ”توني لورانس” وهو يتحدث ويخاطب الجمهور خلال حفلات المهرجان، وتتعاقب صوره في أزياء ملونة مختلفة. لقد كان رجل علاقات عامة من الطراز الأول، إننا نراه بصحبة مشاهير الموسيقيين والسياسيين مثل “روبرت كينيدي” وغيره.
وكان كما يقول “آلان ليدز” (وهو أمريكي أبيض كان مديرا لمسرح المهرجان) يملك براعة كبيرة في السيطرة على حفلات ضخمة، والقدرة على بناء مسرح هائل الحجم، وتوزيع نظام عملاق للصوت يستمع إليه في وضوح تام نحو 40 ألف شخص في الحديقة خلال ستة أيام آحاد من عطلات متعاقبة لنهاية الأسبوع، وكان أكبر تحد في ذلك الوقت هو إقناع مهندسي الصوت بالعمل معه، لأنهم جميعا كانوا يشعرون بالقلق من احتمال عدم حصولهم على أجورهم في نهاية المطاف، لكنه استطاع إقناعهم بالعمل كما أقنعهم بضمان سلامتهم الشخصية أيضا، فالأجواء كانت شديدة التوتر في تلك الفترة.
“شقيقنا الروحي ذو العينين الزرقاوين”.. عمدة نيويورك
يتحدث في الفيلم أحد أعضاء منظمة “الفهود السود”، ويشرح كيف تقاعست شرطة هارلم عن حماية المهرجان، فتولى “الفهود السود” -المرتبطون بالعمل السياسي النضالي من أجل الحقوق المدنية، ولو من خلال فرض القوة السوداء بالعنف- حماية الحشود الموجودة في الحديقة الشاسعة. ونرى في الفيلم صورا كثيرة لإجراءات الأمن التي اتخذت بعيدا عن تدخل الشرطة.
كان “توني لورانس” هو الذي قام بتقديم من دعاه “شقيقنا الروحي ذو العينين الزرقاوين جون ليندساي عمدة نيويورك” (من 1966 إلى 1973)، وكان رجلا ليبراليا (من الجمهوريين) صعد إلى المسرح، وألقى كلمة رائعة وسط ترحيب كبير من جانب جمهور الحاضرين، وفي لقطات وصور من الأرشيف نراه يداعب أطفالهم، ويرقص معهم، ويدافع عن حقوقهم، وكل هذا في تواضع كبير وحب وصدق حقيقي لا أثر للزيف أو الافتعال فيه.
ومن مزايا الفيلم أن مخرجه يعرف كيف يستخدم مواد الأرشيف القديمة، فيأتي بصور كثيرة لهذا الرجل وهو يلتقي بالسود الأمريكيين في أحيائهم الفقيرة، دون أن يخشى شيئا، ودون أن يشعر بالتوتر، أو أنه في مكان غريب عليه، وكان يحمل طفلا أو يداعب فتاة صغيرة، ويخاطب الجميع على قدم المساواة كواحد منهم، وكان يدعو لتطبيق برامج مكافحة الفقر، وكان السود الأمريكيون يثقون فيه كما لو كان واحدا منهم.
وبعد مصرع الزعيم الزنجي “مارتن لوثر كينغ” وانفجار العنف، نراه ينزل إلى شوارع هارلم ويصرح أمام عدسات التليفزيون قائل: أهالي هارلم يريدون العيش بسلام، إنهم يريدون أن يتمكنوا من السير في الشارع وهم يشعرون بالأمان.
وعندما نزل إلى الانتخابات للمرة الثانية على مقعد عمدة المدينة في 1969، كان يتعرض لهجوم من جماعات البيض العنصريين-كما نرى أحدهم يسبه في وجهه من دون أن ينجح في استفزازه- بينما كان يحظى بتأييد مطلق من جانب السود والجماعات الملونة عموما. ونرى أحد مراسلي التليفزيون يصفه أمام الكاميرا قائلا: لقد دفع الحيوية والنشاط في أوساط السود من أصل أفريقي والبورتوريكيين.
وفي كلمته أمام جمهور المهرجان الثقافي يقول “ليندساي”: إن هذا المهرجان الكبير لم يكن ليحدث لولا الدعم الكبير والطاقة التي قدمتها هذه الجماعة العظيمة في مدينتنا نيويورك.
إنه يتحدث ببساطة وهدوء وثقة، وعندما يقول مدينتنا نيويورك يشعر الحاضرون بالانتماء وبأنهم جزء من هذه المدينة العظيمة، وعندما يحاول النزول عن خشبة المسرح يجذبه “توني لورانس” ويطلب منه أن يشترك معه في الغناء أمام الجميع.
مهرجان هارلم.. موسيقى الترويج لثقافة التعايش والتكامل
شاركت في المهرجان فرق موسيقية عدة، ويرصد هذا الفيلم الوثائقي المذهل حضورها وتعبيرها عن ثقافتها من خلال الموسيقى، وهو ما يؤكد أن للفنون دورا كبيرا في دعم الحب والسلام والترويج لثقافة التعايش والتكامل والامتزاج رغم اختلاف الخلفيات العرقية.
صحيح أن مهرجان هارلم الثقافي كان مهرجانا موسيقيا، لكنه كان أيضا تظاهرة سياسية تؤكد على حق هذه الجماعة البشرية في الحرية والحياة والمساواة، وجدير بالذكر أنه لم تقع أي أعمال عنف خلال تلك الأسابيع الستة رغم أن مجموع من شاركوا في الحضور تجاوز 300 ألف شخص، كان معظمهم من السود مع أقلية من البيض.
وقد فاق هذا المهرجان مهرجانا آخر مماثلا أُقيم بعده مباشرة في مزرعة في مدينة نيويورك في شهر أغسطس/آب، هو مهرجان “وودستوك”. لكن مهرجان هارلم اعتبر بمثابة “وودستوك الأسود”، فقد كان جميع المشاركين فيه من الموسيقيين السود، في حين كان عدد الموسيقيين السود في وودستوك قليلا للغاية، ومن أشهرهم “جيمي هندركس.
“صيف الروح”.. رحلة وثائقية إلى أحاسيس الماضي المتمرد
“صيف الروح” فيلم وثائقي كبير مصنوع بكثير من الرقة والسحر، يُشيع فيه المونتاج روح التمرد لكن من دون غضب، وهو يمزج بين الصور واللقطات، وينتقل من الصور الثابتة إلى الصور الحية، ومن الأبيض والأسود إلى الألوان، ومن نجوم الموسيقى والغناء إلى الجمهور العادي الذي جاء من كل مكان، مع إيقاع موسيقي هادئ مُعبر، وكما ينقل لنا الحدث فإنه ينقل أيضا الأحاسيس والمشاعر والأجواء التي كانت سائدة.
ولا شك أن مثل هذه الاحتفالات الفنية الكبرى ساهمت إلى جانب النشاط السياسي المكثف والنضال ضد العنصرية في الانتقال السلس من المناخ العنصري الذي كان سائدا، إلى التوافق على العيش المشترك والتمتع بالحقوق المدنية نفسها.
ويجعلنا الفيلم ونحن نسترجع تلك الفترة نتساءل: ما الذي حدث بعد ذلك وأوصل الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم؟