“لقيط”.. أنين فلذات الأكباد التي ترميها الصين إلى الشارع

بين عامي 1979-2015 أصدرت الصين قانونا لا يسمح بأكثر من طفل واحد في الأسرة، في محاولة منها للسيطرة على النمو السكاني المخيف، وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 150 ألف طفل صيني -معظمهم من الفتيات- وقع وهبهم وتبنيهم خارج الصين.

ينطلق الفيلم الوثائقي “لقيط” (Found) الذي أنتج عام 2021 من فكرة أرهقت وأتعبت آلاف الأسر الصينية على مدى أكثر من 36 سنة كاملة، وهي المدة الزمنية التي حُرموا فيها من إنجاب طفل ثان وأكثر، بعد أن سطّرت حكومتهم جملة من النظم المجحفة في حق كل من يخرق هذا القانون، حتى ولو كان هذا عن طريق الخطأ.

أطفال العلب الكرتونية.. جواهر ثمينة تلتقطها الملاجئ

من بين العقوبات القاسية التي فرضتها الصين تسليط غرامات مالية مرتفعة لا يمكن تسديدها، إضافة إلى قيامها بإجراءات أخرى غير إنسانية، منها إجبار النساء على إجراء عمليات جراحية بالقوة لتوقيف عملية الإنجاب بشكل نهائي، وهو الأمر الذي خلق جملة من المآسي والأحزان والدموع التي سُكبت عبر الزمن، ولا تزال إلى غاية اليوم متحجرة في عيون آلاف الأمهات والآباء وأقربائهم من الذين اضطروا إلى رمي أبنائهم في الطرقات والشوارع، بعد أن أنجبوا ابنا ثانيا عن طريق الخطأ، خوفا من انتقام النظام الصيني الصارم في هذا الأمر.

يجري تحويل الرضع بعد العثور عليهم في عُلب كارتونية إلى ملاجئ الأيتام، حيث يوضعون في غرف مكتظة موزعة في كل واحدة منها حوالي 20 طفلا، وتشرف على كل حجرة منها مربية واحدة، وهو الأمر الذي أثر على رعايتهم اللازمة، وبعد فترة تستقبل هذه الدور طلبات للتبني من داخل الصين وخارجها من قبل الأسر المحرومة من الإنجاب، أو ممن لديها رغبة في توسيع العائلة عن طريق التبني.

وتشير التقديرات التي ساقها الفيلم المذكور بأن هناك أكثر من 150 ألف طفل وقع تبنيهم خارج الصين، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، لهذا لا تزال تلك الأسر التي تخلت عن أبنائها تعاني من تأنيب الضمير، رغم أنهم أجبروا على فعل هذا العمل الذي يتعارض مع الطبيعة البشرية، ودفعوا لفعله انطلاقا من الظروف التي حتّمت عليهم رمي فلذات أكبادهم في الشوارع والأسواق وتحت الجسور، وهي نفس المآسي التي يعيشها حاليا الأطفال المتبنون المحاصرون بجملة من الأسئلة حول ماضيهم وتاريخهم وبحثهم عن الأسباب التي جعلت أقاربهم يتخلون عنه ويرفضونهم.

بنات الملاجئ.. لقاء المصائر والأسئلة والقرابات

استطاعت الشركة الأمريكية المختصة في الفحوصات الوراثية “23 آند مي” أن تجمع بنكا واسعا من المعلومات في موقعها الرسمي، حيث يمكن لأي شخص -خاصة المتبنّين- إرسال لعابه في أنبوب للشركة لتحليله، ووضع النتائج في الموقع كبيانات، وهي الطريقة التي تمكّن من جمع شمل العائلة أو معرفة أبناء العمومة والأقارب عن طريقها، وهو الأمر الذي فعلته “كلوي” الصينية المتبناة من قبل والديها اللذين احتضناها “ساري” و”جين”، وهي تسكن في منطقة فينكس بمقاطعة أريزونا، وقد قام والداها بتعميدها بالديانة اليهودية في القدس المحتلة، كما أدخلاها في مدرسة يهودية في أريزونا.

كلوي وسادي وليلي خلال رحلة البحث عن جذورهن في الصين

وقد تعرفت “كلوي” في تلك السن على “سادي” التي تعيش هي الأخرى في منطقة ناشفيل بمقاطعة تينيسي الأمريكية، كما تعرفت “سادي” على “ليلي” المتبناة التي تعيش في أوكلاهوما، وقد أصبحن صديقات وبدأ التواصل بينهن، وهذا بعد أن علمن أنهن أبناء عمومة، وينحدرن كلهن من الصين، وقد أحضرن إلى أمريكا عن طريق التبني.

ومن الأمور المشتركة بينهن أيضا مكوثهن في نفس الملاجئ تقريبا بمنطقة غوانزاو الصينية، وقد اتفقن -بعد أن توطدت علاقتهن عن طريق المكالمات الجماعية التي يقمن بها- على محاولة البحث عن جذورهن ومعرفة ماضيهن، ومحاولة إيجاد أجوبة للأسئلة التي تحاصرنهم منذ سنوات، وأبرزها محاولة معرفة عائلاتهن الحقيقية والوقوف على شعورهم، ومعرفة أسباب رميهن في علب كرتونية في الشوارع وتحت الجسور وأمام العمارات، وأكثر من هذا هل كانوا يملكون قلوبا حين قاموا بهذا، وكيف حال ضمائرهم.

مسايرة اليوميات.. حفر في الأعماق لصناعة التشويق

وظفت مخرجة الفيلم “أماندا ليبيتز” كل عناصر التقصي والتحري للوصول إلى الحقيقية التي تبحث عنها الفتيات، وفي الوقت نفسه لتزرع معطيات الإثارة والتشويق في هذا الفيلم العاطفي، لهذا وجهت الكاميرا لتتبع حياتهن ويومياتهن في بيوتهن ومدارسهن ومع أسرهن وأقاربهن، وقد خلقت هذه المسايرة بُعدا معرفيا ناتجا من الأسئلة التي تُحفر عميقا في ذهن كل واحدة منهن، انطلاقا من أحلامهن الطفولية وكوابيسهن وخوفهن من الحقيقة الموجة، وموقفهن من فكرة التبني ومن الحياة بشكل عام، إضافة إلى زرع الأسئلة المحورية في متن الفيلم، فهل سيتقبلن الحقيقة في حالة معرفتها؟ وهل سيتألمن كثيرا أو قليلا؟ وهل سيكون الألم بأثر رجعي في آنية فقط؟

ليلي رفقة المربية التي اعتنت بها في صغرها قبل التبني

كل هذه المعطيات العاطفية تحفر عميقا في قلب كل فتاة، وكل واحدة منهن تبحث عن إجابة واضحة للوقوف عليها ومعاينتها، لهذا وُظِّفت المختصة في الأنساب الصينية “ليو هاو” في الصين، لمساعدتهم من أجل الوصول إلى أسرهن البيولوجية، وقد تعاملت “هاو” مع الأمر ليس بكونه وظيفة تمارسها، بل لأنها عانت كثيرا في طفولتها من التميز والخوف من هذا القانون المجحف، لهذا بدأت رحلة البحث علّها تجد العائلات الحقيقية للفتيات الثلاثة.

رحلة الصين.. عودة لزيارة الملاجئ والمربيات

بعد أن جمعت “هاو” معطيات معينة عن الموضوع رتبت لهن رحلة إلى الصين، وقد شاركت فيها الفتيات الثلاث وبعض أفراد عائلاتهن، فوقفن على الأماكن التي رُمين فيها، والملاجئ التي تربين ومكثن فيها في وقت معين من الماضي، كما التقين بالمربيات اللواتي كن يسهرن عليهن في الملاجئ.

لقد ولّدت هذه المشاهد حزمة كبيرة من العواطف الجياشة والمشاعر المختلطة بعد أن عدن وعرفن بعض تفاصيل الماضي، لكن الحظ لم يحالفهن في العثور على أسرهن البيولوجية، إذ وقع الشك في بعضهم، وعند تحليل الحمض النووي “دي إن إيه” (DNA) لم يتطابق معهن، لكنه اقترب من تلك الأسر، لذا قمن بزيارتهم لمعرفة الشعور الأسري عن طريقهم، لأنهم هم أيضا تخلوا عن أطفالهم مجبرين.

رسالة الفيلم.. سيل العواطف الإنسانية يتحدث

يعكس الفيلم الوثائقي الأمريكي الصيني “لقيط” شحنة من المشاعر المتدفقة، ويضع المشاهد ضمن مجموعة من الخيارات الصعبة والسيئة التي يمكن أن يتخذها الإنسان في فترة ما من حياته، ومن بين هذه الخيارات التخلي عن ابنته أو ابنه نتيجة لظروف ما، فكانت هذه الرسالة القوية من أهم ما جاء به الفيلم، لأن الغريزة الإنسانية تحتم على الفرد البحث عن ماضيه لبناء حاضره ومستقبله، وهذا ما حدث مع هؤلاء الفتيات اللواتي يتباعدن في السن نسبيا، فـ”كلوي ليبيتز” (13 عاما) و”سادي مانغلسدورف” (14 عاما) و”ليلي بولكا” (17 عاما)، لكنهن يشتركن في نفس الهم الإنساني، وكأن هذه المشكلة عامة ولا تتعلق بشخص محدد.

ليلي رفقة المرأة الامريكية التي تبنتها، فهي تساعدها عن البحث عن أسرتها البيولوجية

لقد استطاعت المخرجة “أماندا ليبيتز” أن تتعامل معهن بكل احترافية من خلال اقترابها الشديد منهن، والدليل أنها استخرجت منهن تلك الأحاسيس التي احتفى بها الفيلم، وجعلت هذا الفيلم كتلة من العاطفة والانفعالات الإنسانية، وقد حافظت على هذه المعطيات انطلاقا من تحكمها في جسد العمل وبنائه، إذ استطاعت أن تتلاعب بالفضاءات والأماكن والزمن والتنقل بينهما بكل سهولة تامة، وهو الأمر الذي خلق جمالية في البناء، فكان مدفوعا بإيقاع وتدفق المشاعر في كل فصل من فصوله، مما حافظ على تماسك الفيلم وعدم الذهاب به صوب الحشو والثرثرة الزائدة التي تقتل جمالية المشاهدة وتشتت ذهن المتلقي.

فيلم “لقيط” من الأفلام الجيدة التي تناولت جانبا مهما من تاريخ الصين الحديث، وقد عُرض أول مرة بمهرجان “هامبتنز” السينمائي الدولي في 9 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2021، بعدها عرضته منصة “نتفليكس” المكلفة بتوزيعه أيضا على منصتها بداية من 20 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2021.


إعلان