“مكان ما فوق دخان النفّاثات”.. نظريات المؤامرة تقلب حياة قرية تشيكية
سكان قرية تشيكية يُصابون بجنون الارتياب الجماعي بعد وقوع حادث تسري على إثره إشاعة بأن الحادث عمل إرهابي، ويعتقد الجميع أن مرتكبه لا بد أن يكون شابا من اللاجئين العرب المسلمين المقيمين على أطراف القرية. فهل هذه هي الحقيقة؟
في أجواء ساخنة معبئة بالشك والقلق والرعب الغامض من المجهول، وبتأثير كل ما تبثه أجهزة الإعلام من أنباء عن أعمال إرهابية، ومع استمرار أزمة اللاجئين القادمين إلى أوروبا من البلدان الإسلامية والعربية، جاءت فكرة فيلم “مكان ما فوق دخان النفاثات” (Somewhere Over The Chemtrails).
هذا الفيلم هو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج التشيكي الشاب “آدم كولومان ريبانسكي”، وهو من نوع الكوميديا السوداء أو الاجتماعية الساخرة التي تحمل رغم الطابع الكوميدي رؤية سياسية واجتماعية جادة وموجعة، بل وشديدة المعاصرة.
نظرية المؤامرة في قرية تشيكية هادئة.. فيلم مكان
عرض الفيلم للمرة الأولى عالميا في قسم “البانوراما” بمهرجان برلين السينمائي الـ72، وتدور أحداثه في قرية تشيكية هادئة ليس مهما أن يكون لها اسم، فهي قرية مثل آلاف القرى غيرها، ويقطنها سكان لا يهتمون كثيرا بما يقع خارج حدود قريتهم، لكنهم سيجدون أنفسهم فجأة مولعين بنظرية المؤامرة.
هذا فيلم شخصيات وفيلم مكان، فليس من الممكن تجريد الشخصيات عن انتمائها لمكان ذي مواصفات محددة، فالحياة في القرية الصغيرة سلمية تماما، وتعتمد الخدمات فيها على الجهود التطوعية للسكان.
وهناك شخصيتان رئيسيتان لرجلين هما “ستاندا” و”برونيا”، أما الأول فهو رجل مترهل في منتصف العمر ينتظر أن تضع زوجته مولودا لأول مرة رغم أنه تجاوز سن الشباب، وأما الثاني فهو أكبر سنا، ويعاني من الاكتئاب منذ وفاة زوجته.
كلاهما عضوان متطوعان في فريق الإطفاء بالقرية، لكن “برونيا” هو رئيس الفرقة، وهو رجل صارم عابس، يريد أن يكون له دور في القرية، ولو كبديل لعمدتها الضعيف الشخصية.
عيد الفصح.. حادثة أشعلت نزعة عنصرية ضد العرب
ينتقل الفيلم من الخاص إلى العام، أي من قصة “ستاندا” الذي يسخر منه أهل القرية جميعا، ويعتبرونه نموذجا للفشل الذريع في كل ما يقوم به، كما تسخر منه زوجته وتتهمه بالعجز عن تدبر الأمور، إلى الموقف العام في القرية وما ينشأ بعد أن تصطدم سيارة بنافورة وسط حشد من أهالي القرية كانوا يحتفلون بعيد الفصح. ينتج عن الحادث إصابة أحد الأشخاص بجروح، أما الشخص الذي كان يقود السيارة فيفرّ هاربا ولا يتعرف عليه أحد.
لطالما كان “برونيا” يتحين أي فرصة للقيام بدور ما، لذا يقفز مباشرة إلى الاستنتاج بأن الحادث عمل إرهابي مدبر يقف وراءه شاب عربي من اللاجئين العرب الموجودين على أطراف القرية، بل ويؤكد أيضا أنه شاهده، وأنه سمعه يردد صيحة “الله أكبر”.
ثم يركب سيارته ويستخدم مكبر صوت يزف بواسطته النبأ إلى أهل القرية محذرا إياهم من الخروج من منازلهم، مطالبا الرجال بالانضمام إليه في تشكيل وحدة للبحث عن الفاعل والقبض عليه، وحماية القرية من أي هجمات أخرى محتملة.
“غيزة”.. شاب ثمل يعترف للقس بفعلته
تنقلب حياة السكان رأسا على عقب، وتتوقف احتفالات القرية بعيد الفصح، وينتقل الخبر من منزل إلى آخر، ويتبنى “ستاندا” الضعيف الشخصية بحماس فكرة المقاومة، فيمسك بهراوة غليظة وينضم لمجموعة من الرجال المترهلين يشكلون فرقة المقاومة تحت قيادة العجوز “برونيا” الذي يلقي فيهم كلمة تنضح بالعنصرية، إذ يحفزهم على ضرورة التصدي للعدوان ومقاومة العرب الوافدين الذين يسعون لتدمير نظام حياتهم. وتتحول فرقة الإطفاء التي يقودها “برونيا” إلى “ميليشيا” مسلحة بالهراوات وأسياخ الحديد.
المشكلة أن الحادث لا صلة له بالعرب ولا بالإرهاب، فالشاب “غيزة” -الذي يعرف جميع أهل القرية أنه مدمن على تعاطي الخمور- هو الذي كان يقود السيارة التي اصطدمت بالنافورة، وكان وقتها ثملا.
وفي غمرة شعوره بالندم، يذهب غيزة إلى الكنيسة للاعتراف للقس الشاب بفعلته، ويطلب من القس أن يوقف تلك الحمى التي اعترت أهل القرية، لأن هذا يتنافى مع الحقيقة والأخلاق، لكن القس لا يمكنه أن يفشي أسرار الذين يعترفون له، فيطالبه بأن يعلن بنفسه الحقيقة على الملأ، لكن “غيزة” يحجم عن ذلك، فهو يخشى سوء العاقبة.
الخط الأبيض.. إشاعة التسمم التي تُحدثها الطائرات النفاثة
عنوان الفيلم يشير إلى الخط الأبيض الذي يظهر خلف الطائرات النفاثة الحديثة في السماء، ومن ضمن الإشاعات التي تسري أن هذا الخط أو الدخان المنبعث من الطائرات التي نراها كثيرا تعبر سماء القرية؛ يمكن أن يسبب التسمم للحيوانات والنباتات والبشر.
يصدق “ستاندا” هذه الإشاعة بكل سذاجة، كما يقتنع بأن مقاومة التسمم يمكن فقط عن طريق رش الخل، فيُصاب بنوع من الهوس يجعله يشتري كميات كبيرة من زجاجات الخل، ويقلب محتوياتها في وعاء كبير، ثم يذهب ليرش الخل المخلوط بالماء على النباتات والحيوانات، ويغسل فيه الأغطية والمفارش، بل ويرشه على بطن زوجته الحامل التي تستنكر غباءه، لقد أصابته لوثة الخل، وهو ما يجعله قابلا لتصديق كل ما يسمعه.
ليس لدى رجال القرية ما يفعلونه سوى الجلوس كل مساء في الحانة لاحتساء البيرة التي نفخت بطونهم، وجعلتهم كسالى عاجزين عن عمل شيء نافع، بل إن الشخصية الرئيسية “ستاندا” يفشل أكثر من مرة في إزالة شجرة باستخدام منشار كهربائي، وقد حاول معلمه وأستاذه “برونيا” أن يعلمه، لكن دون جدوى.
سقوط الشجرة.. حادث في الصومعة يدفع القس للنطق
بعد أن تلد زوجة “ستاندا” طفلا يشعر بأنه استعاد شجاعته المفقودة، ويذهب مجددا، فينجح هذه المرة في قطع الشجرة الضخمة، لكنه يتسبب في سقوطها فوق الصومعة الصغيرة التي يأتي إليها القس بين وقت وآخر لكي يختلي ويردد صلواته. يتحطم سقف الصومعة ويسقط ليصيب القس بجروح، وينقل إلى المستشفى في سيارة الإسعاف.
في البداية يميل “برونيا” إلى اعتبار الحادث عملا إرهابيا آخر، لكنه يدرك أن صديقه “ستاندا” هو المتسبب فيه بعد أن يعثر في مكان الحادث على سيارته التي كان قد أعطاها له.
سيعترف القس أخيرا بحقيقة ما وقع في حادث النافورة متصورا أن الأمر يمكن أن ينتهي هنا، ولكن رغم إطلاع “برونيا” على الحقيقة، فإنه يرفض إعلانها، فهو يريد أن يبقي على فكرة الإرهاب العربي، للإبقاء على أجواء الخوف بين أهالي القرية، وبالتالي يمكنه التحكم فيهم. وهي الفكرة الفاشية التي يستخدمها بعض الحكام.
عنصرية البسطاء.. جريمة الإعلام في أوروبا الشرقية
العنصرية التي امتدت منذ سنوات إلى بلدان أوروبا الشرقية مع صعود اليمين السياسي، وتفاقم أزمات اللاجئين في أوروبا، أنتجت مثل هذا المناخ الذي يوجه له هذا الفيلم الشجاع نقدا لاذعا، لكنه يوضح في الوقت نفسه أن هؤلاء القرويين البسطاء ليسوا إلا ضحايا لعمليات الترويج وغسيل المخ الإعلامي المستمر في إغفال الحقائق، واختلاق الكثير من الأكاذيب، بهدف ترويض الرأي العام.
وفي أكثر من مشهد من مشاهد الفيلم نرى كيف أصبحت شبكة الإنترنت مثلا مصدرا أساسيا للمعرفة عند شخص مثل “ستاندا” الذي يصدق كل ما يقرأه مهما كان عبثيا ومتلاعبا به، كما يتوقف الفيلم في سخرية لاذعة أمام الميل المستقر لدى الناس لتبني نظرية المؤامرة، الأمر الذي يصل إلى حد عبثي حينما يسود الاعتقاد بين أهل القرية أن الخط الأبيض الذي تتركه الطائرات وراءها في السماء يسبب التسمم، وقد يؤدي إلى إجهاض النساء الحوامل.
إن هؤلاء الأفراد بدلا من الالتفات إلى ما يواجهونه في حياتهم من مصاعب اقتصادية وحياتية عدة يخلقون من حادث فردي صغير لا قيمة له عملا إرهابيا، والسبب يكمن في الترويج المستمر لفكرة الخطر القادم من الخارج، سواء من خارج القرية أو من خارج البلاد، ولا بد أن يكون وراءه العرب.
ولعل الأجواء الحالية التي تشهدها بلدان أوروبا الشرقية وسط تداعيات الحرب في أوكرانيا، أبرزت نزعة العداء العنصري للعرب والأفارقة بوجه عام، مما يمنح هذا الفيلم مصداقيته وأصالته وشجاعة مخرجه.
إشاعة تتحول إلى جنون ارتياب جماعي.. ألاعيب الكوميديا
ينتمي الفيلم إلى سينما النقد السياسي من خلال الكوميديا الساخرة، وهي حركة قديمة عرفتها السينما التشيكية منذ الستينيات على أيدي مخرجين مثل “ييري مينزل” صاحب فيلم “قطارات تحت الحراسة المشددة” (Closely Watched Trains) الذي حصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي عام 1967، و”ميلوش فورمان” صاحب فيلم “كرة رجال الإطفاء” (The Firemen’s Ball) الذي كان يوجه نقدا لاذعا لبيروقراطية الحزب الشيوعي، وتعرض للمنع عدة سنوات، وبعد ذلك غادر “فورمان” البلاد إلى أمريكا، حيث أخرج عددا من الأفلام في هوليود.
ويعتمد “آدم ريبانسكي” مخرج “مكان ما فوق دخان النفاثات” أسلوبا مماثلا في توليد الكوميديا عن طريق المواقف الصغيرة التي تتحول إلى أحداث كبيرة، مصورا عجز الإدارة البيروقراطية عن مواجهة المشكلة، وتحول الإشاعة إلى فزع يؤدي إلى تصرفات ساذجة ومضحكة.
ويعتمد الفيلم أساسا على السيناريو الجيد الذي كتبه المخرج نفسه، فيبقي باستمرار على أجواء التشكك الذي يتصاعد تدريجيا فيتحول إلى جنون ارتياب جماعي عند أهل القرية. وهنا يبرز أداء الممثلين في نقل المشاعر المتناقضة، من الطيبة والوداعة التي هي أقرب إلى السذاجة، إلى الفزع والتوحش الذي ينتج عن تغذية فكرة المؤامرة الخارجية.
“ستاندا” و”برونيا”.. أدوار مُتناقضة لممثلين كبيرين
اعتمد المخرج على اثنين من الممثلين الكبار المعروفين هما “فاكلاف هيزينيا” و”مايكل اشتنيك” في الدورين الرئيسيين، وهو يستغل التناقض في تكوين الشخصيتين، خصوصا أن “ستاندا” الذي يبدو كأنه ابن “برونيا” يتأهب لكي يصبح أبا للمرة الأولى منذ زواجه.
أما “برونيا” فرغم أنه لم ينجب أطفالا، فإنه مغرم بالقيام بما يشبه دور والد “ستاندا”، وهو يعترف في أحد المواقف بأن الأبناء هم أهم شيء في الحياة، ويبدي شعورا بالحسرة لكونه لم ينجب من زوجته الراحلة، لذلك يحاول أن يعوض عدم قيامه في الحياة بدور الأب، من خلال فرض هيمنته على الآخرين الذي يعتبرونه أيضا بطلا.
لقد عثر “ستاندا” الآن على دور جديد له يستعيد من خلاله مجده القديم عندما كان جنديا مقاتلا في الجيش، وفي أحد المشاهد يذهب ويرتدي بزته العسكرية القديمة، ويخرج لكي يصدر الأوامر لرجال الشرطة ويستنكر تقاعسهم عن العثور على الإرهابي الوهمي الذي يرفض أن يتخلى عنه حتى النهاية.
مخرج الفيلم “آدم ريبانسكي” هو من مواليد 1994، وقد درس السينما في مدرسة براغ السينمائية، وأثناء دراسته أخرج ثلاثة أفلام قصيرة نال عنها عددا من الجوائز الدولية، وقد تخرج عام 2021، ويبرز في أفلامه دائما اهتمامه الكبير بجماليات الصورة من حيث التكوين، واللقطات البعيدة العامة التي تبرز جمال الطبيعة الساكنة، وهو ما نلمسه في هذا الفيلم بفضل تعاونه مع مدير التصوير “ماتيه بينوش”.