“المبارزة الأخيرة”.. امرأة تشعل المعركة الأخيرة بين فارسين فرنسيين

ماذا لو أخبرتك أن هناك فيلما صدر العام الماضي للمخرج “ريدلي سكوت” المرشح لأربع جوائز أوسكار، والذي أخرج أفلام “صائد المستنسخين” (Blade Runner) و”المحارب” (Gladiator) و”مملكة السماء” (Kingdom of Heaven) و”المريخي” (The Martian) وغيرها من الأفلام الرائعة، وأن هذا الفيلم من كتابة وبطولة الثنائي “مات ديمون” و”بين أفليك” الذي كتب ومثّل فيلم “ويل هانتينغ الذكي” (Good Will Hunting). من المحتمل أنك ستندهش من هذا، لأن الاحتمال الأكبر لم تسمع به أصلا، والسبب في ذلك هو أن الفيلم فشل فشلا مروعا في شباك التذاكر.

ظننت أن فشل الفيلم التجاري سيعوض من خلال ترشحه لبعض جوائز الأوسكار، مثل أفضل تصميم ملابس، أو ربما أفضل تمثيل، أو أفضل تصوير، أو حتى أفضل صوت، لكن الفيلم لم يحصل على ترشيح واحد. من المفهوم تماما أن لا يفوز الفيلم بأي منها، لكن أن لا يقع ترشيحه على الإطلاق هو أمر مثير للدهشة بالتأكيد.

في رأيي الشخصي إننا الآن على وشك مناقشة أكثر الأعمال تعرضا للظلم من بين أفلام العام الماضي، سواء على مستوى الجوائز والمهرجانات أو على المستوى التجاري البحت، وهو فيلم “المبارزة الأخيرة” (The Last Duel).

المبارزة الأخيرة.. قصة من التراث الفرنسي بأسلوب ياباني

تتميز قصة الفيلم بالبساطة، إذ يحكي قصة صديقين تنامت الخلافات بينهما بمرور الزمن، حتى كانت القشة الأخيرة، حين قام أحدهما باغتصاب زوجة الآخر. وبسبب غياب الدليل طالب الزوج بحسم الخلاف من خلال مبارزة مباشرة بينه وبين غريمه ينصر الله فيها المحق ويقتل الكاذب، وكانت هذه المبارزة آخر مبارزة رسمية مسجلة في تاريخ فرنسا أثناء العصور الوسطى، لهذا السبب سُمي الفيلم باسم “المبارزة الأخيرة”.

لكن صناع الفيلم “ديمون” و”أفليك” و”سكوت” قرروا استلهام تجربة قام بها المخرج الياباني الملهم “أكيرا كوراساوا” في فيلمه “راشومون” (Rashomon)، وهو فيلم يحكي قصة مشابهة عن اغتصاب امرأة وقتل زوجها محارب الساموراي.

لم يقدم “كوراساوا” القصة في صورة خطية تعرض تتابع الأحداث بشكل مباشر، بل عرض الأحداث عدة مرات من وجهات نظر مختلفة، فتارة يحكي الفيلم من وجهة نظر الزوجة، وتارة من وجهة نظر زوجها، وتارة أخرى من وجهة نظر اللص المُتهم بالحادث، وأخيرا من وجهة قاطع أخشاب كان قد اكتشف جثة محارب الساموراي بعد الحادث.

في هذا الفيلم نواجه ثلاث وجهات نظر مختلفة، الزوج وصديقه، وقد كتب “ديمون” و”أفليك” قصتهما، لكن تبقى وجهة نظر الزوجة، وهي ما دفع الثنائي إلى الاستعانة بكاتب أو بالأحرى كاتبة ثالثة تشاركهما العمل.

قامت الكاتبة “نيكول هولوفسينر” بكتابة شخصية الزوجة “مارغريت”، وهي ليست مجرد كاتبة أنثى، بل إنها قدمت مجموعة من الأعمال المميزة التي تكشف عن زاوية نظر مميزة ومختلفة عن السائد في أعمال هوليود، مثل فيلمها “ما قيل يكفي” (Enough Said) الذي ترشح لجائزة أوسكار أفضل سيناريو.

ثلاث زوايا ترسم ملامح الفيلم.. هندسة القصة

من الواضح أن التحدي الرئيسي في هذا الأسلوب هو تحدي الملل، فعندما يقوم المخرج برواية القصة ذاتها من ثلاث وجهات نظر مختلفة، فإنه يواجه خطرا قد يقع فيه، وهو أن يجعل المشاهد يشاهد نفس الفيلم ثلاث مرات مختلفة، ويحدث هذا لأسباب متعددة، كأن يكون الدافع لمعرفة وجهات النظر المختلفة ضعيف، أو أن وجهات النظر ليست متباينة بدرجة تصنع فارقا حقيقيا بين القصص الثلاث.

قام “ريدلي سكوت” باستخدام حيلة ذكية تغير من سؤال الفيلم الرئيسي، وقد ساعدته أو ربما دفعته القصة إلى ذلك. فالقصة -كما ذكرت- تدور حول حادثة اغتصاب، وتسلسل وجهات النظر يبدأ بالزوج ثم الغريم ثم ينتهي بالزوجة، لكن من المؤكد أن استكمال أحداث الفيلم بعد أن نشاهد وجهة نظر المتهم سيكون مملا للغاية، حيث أن وجهة نظره كما عرضت في الفيلم تظهر بوضوح أنه مخطئ، فإن كان سؤال الفيلم من هو المخطئ؟ فسينتهي الفيلم في منتصفه، لكن “ريدلي” بدأ الفيلم بمشهد من المبارزة نفسها كي يدفع المشاهد إلى التساؤل عن المنتصر في النهاية.

نتابع أحداث الفيلم وندرك الفوارق بين رواية الأبطال، وربما نتفهم بعضها ولا نتعاطف مع البعض الآخر، وكما ذكرت سيكون من الصعب التعاطف مع وجهة نظر المتهم، ومن ثم يعلم المشاهد تقييمه الشخصي للأحداث في منتصف الأحداث، لكنه يظل مدفوعا بالمشاهدة، لأننا على الرغم من تقييمنا الشخصي للحدث إلا أنه لن يصنع فارقا، فالمحاكمة لن تنبني على الدلائل أو حتى المنطق، بل على إرادة الإله من خلال نصره لأحد الأطراف على الآخر في مبارزة، وهو أمر لا يمكن استنتاجه في أي لحظة من لحظات الفيلم حتى يحدث بالفعل.

لم تقدم هذه الحيلة حلا لمشكلة التكرار، بل قدمت عذرا لتجاهل هذه المشكلة تماما.

“دي كاروج” و”لي غري”.. صديقان جمعتهما الحرب وفرقتهما العطايا

عندما نصل إلى منتصف المقال تقريبا بينما لم نناقش أحداث القصة نفسها، بل نتحدث فقط عن الإطار العام للفيلم، فهذا يعني أننا أمام عمل متقن.

قصة الفيلم مستوحاة من قصة حقيقية، وهي قصة الزوج “سير جان دي كاروج” وصديقه المتهم “جاك لي غري”، فقد جمعت الحروب الصديقين ووطدت علاقتهما، إذ شارك كل منهما في عدد من المعارك، وكان لكل منهما دور في إنقاذ حياة الآخر. لكننا نعلم مع البداية أن قوة العلاقة غير متكافئة. لقد أنقذ “لي غري” حياة “جان دي كاروج” في إحدى المعارك، لكن “دي كاروج” لا يعلم ذلك، فهو لم يره في خضم الأحداث، وعلى العكس من ذلك فإن “لي غري” قد شاهد “دي كاروج” بينما ينقذ حياته خلال المعركة.

لقد أقدم كل منهما على ذات الفعل النبيل تجاه الآخر، لكن أحدهما لا يعلم أن الآخر فعل ذلك، وينتج عن ذلك أن “دي كاروج” يظن أن “لي غري” مدين له بحياته، ولا يشعر بالعكس لأنه لا يعلم أنه مدين بحياته لصديقه.

يفترق الصديقان حين يصبح “لي غري” مرافقا لأمير المقاطعة، بينما يستمر “دي كاروج” كمحارب، ونلاحظ بمرور الوقت أن أمير المقاطعة الذي يقوم بدوره “بن أفليك” يفضل “لي غري” على “دي كاروج”، وينتج عن ذلك أنه يغدق عليه من العطايا والهبات، لكن المشكلة تحدث عندما يقوم الأمير بإهداء قطعة أرض إلى “لي غري”، بينما كان من المفترض أن يمتلكها “دي كاروج”. يغضب “دي كاروج” بالطبع، ويسعى لاستعادة ما يراه حقه، لكن سعيه لا يؤدي إلا إلى زيادة الفجوة بينهما.

الفارسان الفرنسيان “دي كاروج” و”لي غري” في مواجهة بعضهما قبل بدء المبارزة الأخيرة

تتوالى الأحداث على ذات المنوال، فيحصل “لي غري” على كثير مما يراه “دي كاروج” حقه الطبيعي حتى يلتقي الطرفان في حفلة، ويقدم كلاهما على الصلح، لكن في هذه الحفلة تلفت “مارغريت” زوجة “دي كاروج” نظر “لي غري” ويقع في حبها.

“مارغريت”.. وهم الحب المتبادل والتدلل الأنثوي

تلتقي “مارغريت” و”لي غري” مصادفة لعدد محدود من المرات، لكن على الرغم من أن “مارغريت” تعتبر هذه اللقاءات عابرة، بل إنها لا تذكر بعضها، فإن “لي غري” يظن أنها تبادله الحب.

يستغل “لي غري” غياب “دي كاروج” عن منزله، ويذهب إليه كي يعترف لـ”مارغريت” بحبها، ويقيم علاقة جنسية معها، وهو يظن أنها تبادله الحب، وأنها تقاومه كنوع من التدلل الأنثوي، بينما تقول “مارغريت” إنه أقدم على اغتصابها.

ربما نلاحظ من خلال هذه الأحداث أن هناك مشكلة رئيسية في عقدة الفيلم، هذه المشكلة هي أنه لا يوجد حدث واحد يختلف عليه الأبطال الثلاثة، بل هناك دائما مشكلة بين طرفين منهما، ويغيب عنه الطرف الثالث.

لقد أقحم “دي كاروج” في حادثة الاغتصاب لأن الضحية هي زوجته، لكنه كان غائبا عن الحدث ولا يعلم الحقيقة، ولا يملك إلا أن يختار تصديق زوجته أو غريمه “لي غري”. وهو الأمر المشابه في المشكلات السابقة بينهما، فدائما ما يرويها “دي كاروج” لزوجته التي لا تعلم الحقيقة، ومن ثم فهي تختار تصديق زوجها أو لا.

“مارغريت” زوجة “دي كاروج”، والتي تعرضت للاغتصاب من قبل صديقه “لي غري”

من وجهة نظري الشخصية أن هذه المشكلة تمثل نقطة ضعف على مستوى الحبكة، على الرغم من أنها لم تضعف من جودة وتشويق الفيلم.

غلبة التكنولوجيا على دور السينما.. مبررات الفشل الواهية

حقق الفيلم إيرادات تقدر بخمسة ملايين دولار أمريكي، بينما كلّف إنتاجه أكثر من 100 مليون.

قال “ريدلي سكوت” في مقابلة إن السبب في هذا هو الجمهور صغير السن الذي أصبح ملتصقا بشاشة هاتفه المحمول ولم يعد يذهب إلى السينما، لكن هذا السبب ليس على درجة كبير من الدقة، ففي الوقت الذي فشل فيه هذا الفيلم، نجح فيلم “لا يوجد وقت للموت” (No Time to Die)، وهو الفيلم الذي يحكي واحدة من قصص “جيمس بوند” الشخصية الإنجليزية التي كانت يوما ما شخصية شهيرة في أوساط الشباب، لكنها لم تعد على ذلك في واقع الأمر.

إن قصص “جيمس بوند” أصبحت شيئا من الماضي، وعلى الرغم من هذا نجح الفيلم، أو ربما بسبب هذا في واقع الأمر، فقد نجح فيلم “لا وقت للموت” بسبب المشاهدين الأكبر سنا الذين ذهبوا إلى دور السينما لمشاهدة بطل شبابهم المفضل.

يرى بعض النقاد أن السبب هو عرض الفيلم في السينما وليس على منصات مثل “نتفليكس” أو “إتش بي أوه ماكس” (HBO Max). إننا نعيش في زمن الإنترنت، وأصبح كثير من الجمهور يفضل مشاهدة الأفلام على شاشة تلفاز خاصة في المنزل، بل إن البعض يشاهد الأفلام على شاشة الهاتف المحمول، لكن هذا السبب أيضا لا يقدم تفسيرا كاملا، فعلى الرغم من هيمنة منصات العرض على دور السينما بسبب التقدم التكنولوجي، وبسبب جائحة كورونا أيضا؛ فإن عددا من الأفلام نجح من خلال العرض في دور السينما، مثل فيلم “كثيب” (Dune)، وقد بدأ عرضه في دور السينما بعد أسبوع واحد فقط من بدء عرض فيلم “المبارزة الأخيرة”.

وجهة النظر الثالثة -وهي ما أميل إليه بشكل شخصي- تتمثل في دور الدعاية في عدم عرض الجوانب الإيجابية للفيلم، إذ يمكننا مشاهدة المقاطع الترويجية للفيلم لنستنتج منها أن هناك قصة تاريخية واتهامات بالاغتصاب ومبارزة لا أكثر، وهو ما يقدم لنا فكرة مشوشة عن الفيلم، لا يوجد ما يضمن لنا أننا سنمر بتجربة ممتعة، فهو يبدو فيلما تاريخيا طويلا، وقد يكون باعثا على الملل.

كما لا تركز هذه المقاطع على المواهب المتعددة التي شاركت في الفيلم، إن فيلما أخرجه مخرج فيلم “المصارع”، ويكتبه كاتب فيلم “ويل هانتينغ الذكي”، ويقوم بدور البطولة فيه من قام بدور “بات مان”، و”جيسون بورن”؛ هو فيلم لا يمكن تجاهله بالتأكيد.

ذاكرة السينما.. نسيان لفيلم من العصر الذهبي لهوليود

الأسوأ من كل ما ذكرنا من أسباب الفشل هو أن دعاية الفيلم تجاهلت تماما نقطة القوة الرئيسية للفيلم، وهي عرض القصة من وجهات نظر مختلفة، وقامت بالتركيز على فكرة سياسية، وهي أن الفيلم يقدم فكرة نسوية، إذ يعرض قصة امرأة رفضت أن تسكت عن الاعتداء الذي تعرضت له، وطالبت بحقها حتى النهاية.

في النهاية يبدو أن فيلم “المبارزة الأخيرة” سيكون واحدا من الأفلام التي ستنساها ذاكرة السينما بعد وقت قصير، إذ لم يحصل على نجاح تجاري أو أكاديمي.

يشبه الأمر تماما الفيلم المصري “الناصر صلاح الدين” الذي أخرجه يوسف شاهين وقام ببطولته أحمد مظهر، فقد فشل على المستوى التجاري، لكنه كان أكثر حظا، إذ حظي بنجاح جماهيري متأخر أتى بعد عرضه الأول بسنوات.

لقد قدم لنا “ريدلي سكوت” واحدا من تلك الأفلام التي ميزت العهد الذهبي لهوليود من حيث ضخامة الإنتاج وإتقان عناصر الفيلم المختلفة، مع حبكة مشوقة، بالإضافة إلى كثير من مشاهد الإثارة والحركة، وهو فيلم يمكنكم قضاء سهرة نهاية أسبوع ممتعة بحق بينما تشاهدونه.