“في أفضل سنواتنا”.. صداقة عالِم مجهول وطالب فقير تتخطى الصراع الكوري

يتخذ المخرج الكوري الجنوبي “دون هون بارك” من علم الرياضيات مدخلا لعرض قصة درامية تكشف أحوال العيش في الكوريتين الشمالية الجنوبية، من دون السقوط في مطب الدعاية المجانية لطرف على حساب آخر، معتمدا في ذلك على نص سينمائي يقدم شخصيتين تجمعهما الظروف في مكان واحد، ويوحدهما هاجس إنساني واحد.
أول هؤلاء العلماء هو عالِم رياضيات جاء هاربا من الشمال، وخسر الكثير عند وصوله إلى الجنوب، أما الثاني فهو ابن القسم الجنوبي الذي عانى فيه بسبب فقره تمييزا طبقيا كاد أن يقضي على مستقبله الواعد في علم الرياضيات، حيث وجد نفسه ومن حيث لا يدري مرتبطا بواحد من أكثر علماء الرياضيات شهرة، وتتنافس سلطات البلدين على كسبه لجانبها لأغراض بعيدة عن العِلم الذي يكرس نبوغه فيه من أجل خير البشرية جمعاء.
أكاديمية صارمة ومحلية طاغية.. تقاليد السينما الكورية
يستمد فيلم “في أفضل سنواتنا” (In Our Prime) حيويته وتميزه من تقاليد سينمائية كورية جنوبية عريقة تجمع بين التجديد والالتزام الصارم بالشروط الأكاديمية التقليدية، مع حرص شديد على الاحتفاظ بالروح المحلية الطاغية في هذا النص السينمائي الآسر الذي يأخذ المُشاهد في دروب شتى، وينقله من مكان إلى آخر من دون أن يشعر بالثقل أو الضجر.

قصة طالب الثانوية “هان جي وو” (الممثل دونغ – وي كيم) فيها من العناصر الدرامية الكثير، فإلى جانب كونه فقيرا دخل مدرسة خاصة بالطلبة المتفوقين دراسيا، وأغلبهم من عوائل غنية؛ فقد كان مستقيما أبيّ النفس عصاميا رغم فقر والدته وموت والده، وقد حصل على معدلات جيدة في مرحلة الدراسة المتوسطة أهلّته لدخول المدرسة الخاصة.
كل تلك الخصال لم تمنع عنه تنمرا وتعاملا غير عادل من قبل مُدرسيه، وبشكل خاص مُدرّس الرياضيات الذي وجد في نتائجه الأولية الضعيفة مقارنة ببقية الطلبة مؤشرا أوليا على عجزه الأكيد عن تجاوز امتحانات المدارس الخاصة.
حارس المدرسة.. صداقات الليالي الممطرة تقلب الأحداث
ينصح المُدرّس طالبه “هان جي وو” بالانتقال إلى مدرسة عامة، وفي أوج غضبه من تقييم المُدرّس له يرتكب هفوة صغيرة مع بقية من التلاميذ يخططون لتهريب طعام وشراب خارج مهجعهم في القسم الداخلي. خلال تسلله إلى الخارج يُلقي حارس المدرسة “لي هاك سونغ” (الممثل تشوي مين-سيك) القبض عليه متلبسا.
لقد تستّر “جي وو” أمام الإدارة على بقية المشاركين معه، وتحمّل وحده مسؤولية الخطأ، وبسببه وجد نفسه مهددا بالطرد من القسم الداخلي.
يستغل المخرج تلك اللحظة الحرجة ليعرض جانبا من حياة الناس الفقراء في العاصمة سيول، فوالدته رغم كدحها تتقاضى راتبا شهريا ضعيفا، وتعيش في شقة بائسة أراد المبيت فيها، لكن لضيق مساحتها قرر الخروج منها إلى الشارع.

في الليل الممطر عاد إلى المدرسة ولجأ إلى مكان منعزل فيها، وقد عثر عليه صدفة حارس المدرسة، ومن هنا جرى التعارف بينهما، ونشأت صداقة حقيقة سيبني عليها الفيلم بقية معماره السردي، ويدخل عبرها إلى حياة الحارس المنعزل والصامت.
عقدة الرياضيات.. قد تأتيك الحلول من حيث لا تتوقع
يلاحظ الطالب أن الحارس المقيم في ركن منعزل من المدرسة يواظب على كتابة عبارات وأرقام في دفاتره وكراساته الخاصة، ولا يتحدث عنها أبدا.
بعد عدة أيام من بقائه معه يكتشف أن الحارس قد ساعده في حل بعض الواجبات المنزلية من دون أن يخبره بذلك. ووسط دهشة جميع الطلبة ظهر “جي وو” كطالب لا يُعاني مطلقا من عقدة الرياضيات التي يريد المُدرّس بسببها أن ينقله إلى مدرسة أخرى.
في سياق التطور الجديد في السرد، يبرز دور زميلته المنحدرة من عائلة غنية “بورام” (الممثلة يون سيو)، فهي فتاة وجدت في سلوكه ما يشجع على صداقته، وزاد إعجابها به يوم رفض ذكر أسماء المشاركين معه في تهريب الطعام.
“ضابط شيوعي”.. عنصرية تلاحق الفارين من الشمال
حتى لا يخيب أمل والدته به يطلب “جي وو” من الحارس مساعدته في دروس الرياضيات ما دام قادرا على ذلك، ويقبل الحارس بالمهمة بشروط محددة، أهمها أن لا يكشف لأحد عن سر قدرته على حل المسائل الرياضية.

ينفتح هذا الفصل من الفيلم المشحون بالأحداث على الخارج، لنقل مشهد من حياة المهاجرين الكوريين الشماليين في الجنوب، إذ يعانون فيه من تمييز ناتج عن أحكام مسبقة عليهم تنجزها عبارة “ضابط شيوعي” التي يطلقونها على كل الهاربين من نظام الشمال. إنها صفة جاهزة لا تراعي خصوصية ولا تُقدر حجم التضحية التي يقدمها المعارضون لنظام الشمال الشمولي.
في ذلك السياق تأتي قصة عالم الرياضيات العبقري الذي اختار وظيفة حارس مدرسة تجنبا لاحتمالات تعرضه -إذا ما انكشفت شخصيته الحقيقية في البلد الجديد- إلى نفس الضغوطات التي كان يتعرض لها في بلده، بسبب توصله إلى معادلات رياضية معقدة يمكن بها فك رموز إلكترونية شديدة السرية والحساسية، مثل تلك المستخدمة في البنوك والأجهزة الأمنية وغيرها.
عازفة البيانو.. رؤية معمقة تربط الرياضيات بالموسيقى
من خلال شخصية الحارس العالِم يُقدم صانع الفيلم رؤية مُعمقة لعلم الرياضيات وعلاقته ببقية الفنون والمعارف الإنسانية.
يأتي هذا عبر مشاهد وحوارات يُعلم فيها العالِم تلميذه التفكير رياضيا بدلا من حفظ المعدلات دون فهم جيد لمنطوقها، حيث يربط بين الرياضيات والموسيقى من خلال الطالبة المعجبة بصديقه، التي تجيد العزف على آلة البيانو.
البحث المبهر في العلاقة الرابطة بين الرياضيات والموسيقى يوصل إلى علاقات أوسع لها صلة مباشرة بالحياة والإنسان، فالإصرار على حل المعادلات العصية والصعبة يمكن أيضا من حل معضلات ومشاكل الحياة مهما زادت واشتدت.

هذا الدرس يلقنه الحارس لصديقه المتردد، وتشجعه عليه صديقته الجديدة الرافضة لتربية والدتها الغنية المتباهية بمالها، والمؤمنة بأن كل شيء يمكن الحصول عليه بالمال، حتى حصول ابنتها على معدلات عالية في المدرسة.
جريمة خفر السواحل.. تراجيديا الهجرة العكسية إلى الشمال
يهتم الفيلم الجميل بمعالجة الجوانب النفسية والسلوكية عند بطله الغامض السلوك، حيث يعرض جانبا تراجيديا من حياة “لي هاك سونغ” عبر قصة ابنه المراهق الذي لم يجد ما كان ينتظره في سيول، فالعنصرية والتمييز جعلتاه يميل إلى أبناء بلده، وبسببها تأثر بدعاية الشمال وقرّر العودة إليه بعد معاناة وشعور بالوحدة بسبب إهمال والده له، واهتمامه بالمعادلات الرياضية أكثر من اهتمامه به وبمشاكله.
شدة الضغوط الخارجية على الصبي المراهق تدفعه للتفكير بالعودة إلى موطنه الأصلي، حيث يقرر قطع مياه البحر الفاصل بين الجانبين سباحة، لكن شرطة خفر السواحل الجنوبية تكشف أمره وتطلق النار عليه، وبموته قرر والده ترك كل شيء وراءه، فقد اختار العزلة والتنكر وممارسة هوايته سرا.
وجود صديقه الجديد إلى جواره مع عازفة البيانو حرّك الرغبة بداخله للعيش ثانية كإنسان سوي، ودفعته الرغبة للمضي في تعليم الطالب علوما أكثر، شكلت من حيث لا يدري تحديا لمدرس الرياضيات في المدرسة الخاصة الذي لا يخفي كراهيته له، بينما يحاول إخفاء سلوكه السيئ الذي توج بتسريبه أسئلة الامتحان النهائي إلى أبناء العوائل الغنية مقابل المال.
تسريبات الامتحان.. تهمة باطلة تكشف أسرار الحارس
بعد انكشاف أمر التسريبات يوجه المدرس ظلما التهمة للطالب الفقير لتبرئة نفسه، مستندا في ادعائه الكاذب على التحول السريع في قدرات الطالب على حل المسائل الرياضية المعقدة، بينما كان يعاني في السابق من صعوبة كبيرة في حلها.

يجد الطالب نفسه مرة أخرى أمام موقف صعب يزداد شدة مع امتناعه عن كشف السر وراء تطوره، يتعكز المدرس في تهمته على تسجيلات كاميرا يظهر فيها “جي وو” وهو يحمل حزمة أوراق طبعها في المدرسة، رغم أن الحقيقة هي أن الحزمة كانت عبارة عن بحث علمي أنجزه عالِم الرياضيات، وأراد الطالب تقديم خدمة له فقام بطبعه.
هذه التهمة الباطلة ستؤدي إلى كشف الهوية الحقيقة للحارس، ومعها يظهر الصراع السياسي الحاصل بين الكوريتين، فالجنوبية تريد كسبا إعلاميا من خلال دعوة له إلى برنامج تلفزيوني يتحدث فيه عن منجزه، وكيف تحقق بفضل الحرية المتوفرة له في البلاد، أما الشمالية فعرضت عليه عفوا وقدمت له امتيازات مادية كثيرة من أجل عودته إليها أملا في حصوله على جائزة نوبل، وذلك بعد توصله إلى حل نظرية معقدة في علم الرياضيات عجِز العلماء من قبل عن فك معادلاتها وتحليلها.
لم الشمل.. حبال الصداقة المتينة في الغربة
يرفض العالِم طلب الجهتين، ويقرر مساعدة الطالب المتهم ظلما حتى لا يفقده كما فقد ابنه من قبل، فيكشف عن هويته الحقيقية في الحفل الختامي المخصص لتوزيع الشهادات على المتفوقين الذين لم يكن “جي وو” من بينهم رغم علاماته الجيدة، لقد أراد المدرس الفاسد التخلص من تهمة تسريب أسئلة الامتحان عبر إلصاقها به، وقد هدده بالسجن إذا أصرّ على الحضور.

دفاعا عن حق صديقه جاء العالِم إلى الحفل وكشف عن هويته الحقيقية أمام الحضور. وعلى المنصة أشاد بشجاعة الصديق واعترف بأنه قد تعلم منه درسا في الإخلاص والوفاء، وعليه قرر فضح المدرس الفاسد.
في الغالب الأعم تصل الأفلام الهوليودية إلى نهايتها عند هذا الحد المفرح والسعيد، لكن الفيلم الكوري الجنوبي الحيوي الرافض للسير في طريق الدراما التقليدية يعلن عن نهاية مختلفة لبطله “حارس المدرسة”، فرغم كل المغريات المقدمة له من الطرفين المتصارعين على التفرد بالحصول على ما توصل إليه علميا، فقد قرر الهروب منهما إلى وجهة لا يعلم بها أحد.
اعتزاز الطالب النجيب بأستاذه يوصله إلى اكتشاف مكانه ليلتئم بلقائهما شمل صداقة اختُبرت متانتها أكثر من مرة، لكنها صمدت لأن طرفيها تمتعا بالنزاهة، ولأن عالِم الرياضيات الحكيم عامل صديقه الصغير باحترام، وحرص على تعليمه دروسا تساعده على فهم الحياة وعلم الرياضيات.