“مناصفة”.. مشرد يُسلم ويقتسم اليانصيب مع امرأة مُعنّفة

استيقظ فوجد نفسه مُجردا من ثيابه في قسم المشردين بإحدى الكنائس، رفع رأسه متعجبا وحائرا، التفّ بغطاء ستر به جسمه وخرج ليرى العالم الخارجي، وانطلق بعدها يسير بغير هدى، حتى وجد نفسه بجانب سوق عالمي مخصص للمسلمين في أحد المدن الأمريكية، وهناك تعرّف على الإسلام، وذهب أكثر من هذا حين نشأت بينه وبين امرأة مسلمة علاقة، فما قصة هذا الرجل الأمريكي الأسود مع الإسلام، وما الذي وجده في هذا الدين، وكيف عقد تلك الصفقة المربحة التي صيّرته مليونيرا؟

كثيرة هي الأفلام الأمريكية التي وظّفت في متنها الإسلام والمسلمين، لكن معظمها أو أغلبيتها الساحقة قدّمت صورة سلبية عنهم، فأظهرتهم بصورة الأشرار والإرهابيين والمتخلفين والبربر، وأنهم أعداء للغرب ولا يعرفون شيئا عن الحضارة، وقد ترسخت هذه الصورة في أذهان صُنّاع السينما في هوليود، وأصبحت صورة نمطية ضرورية في أي فيلم يتطرق للعرب أو المسلمين بشكل عام.

وقد ازداد معدل هذا التوظيف بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، إذ تضاعف بشكل كبير، وجرت شيطنة الإسلام والمسلمين، وبين ذلك الكم الهائل من تلك الإنتاجات المتحاملة والكثيرة، نادرا ما تجد عملا يقدم صورة إيجابية ويكسر هذا النمط الموروث، أو حتى يقدم صورة حقيقية بدون تزييف، وقد خرج فيلم “مناصفة” (Half & Half) الذي أخرجه “سري تشاران” عام 2022 عن هذا الخط، فصوّر الإسلام على أساس أنه دين تسامح، وقدّم المسلمين بشكل إيجابي.

آدم.. من مُشرّد في الكنيسة إلى مسلم يرتدي عباءة بيضاء

تتمحور قصة فيلم “مناصفة” حول آدم ذي البشرة السوداء (الممثل جوني جوردان جونيور)، وهو رجل مشرد يبيت في أحد الفضاءات المخصصة للمشردين بكنيسة “النعمة” الموجودة بالمدينة، لكنه عندما استيقظ في أحد الأيام لم يعد يتذكر شيئا، فقد نسي ماضيه وتساءل عن السبب الذي جعله يبيت في هذه الكنيسة، لهذا دخل في مشاجرة مع مُشرّد مثله في ساحة الكنيسة، أخذ منه بعض الحاجيات مثل عربة أطفال فيها بعض الأشياء، ثم انطلق يشق الطريق إلى المدينة.

في المدينة استوقف آدم سوق كبير مغطى مخصص للمسلمين يبيعون فيه اللحوم الحلال والألبسة والكتب الدينية التي تشرح الإسلام، لهذا قرّر أن يستقر في هذا الفضاء، إذ أخذ يُقلّب السلع ويشتري الحلويات التقليدية، ويُقلّب الألبسة ويُعاينها، ومن بينها الخمار والحجاب، وكأنه يكتشف هذه الثقافة لأول مرة.

الممثل جوني جوردان جونيور قام بدور آدم المُشرد الذي أصبح مسلما يرتدي عباءة بيضاء وقبعة

وقد ذهب أبعد من ذلك حين بدأ يُقلّب المصاحف وتفاسير القرآن والكتب التي تتحدث عن الدين، وبدأ يقرأ عن الإسلام حتى اقتنع بما جاء فيه، ومن بين ما قرأه كتاب بعنوان “الإسلام للمبتدئين”، وبعدها أخذ يدوّن ملاحظات في دفتره مما استنتجه من الكتاب، ويضع سطرا تحت كلمات معينة، مثل “كن عطوفا، أعط، اغفر، لا للعنف، صلّ، سامح.. إلخ”، وبعد أن اقتنع بما جاء فيه قرر أن يعتنق الإسلام، لهذا ذهب صوب الحمّام وتوضأ، وارتدى عباءة بيضاء وقبعة، وبالتالي أصبح مسلما.

آدم وأميرة.. صداقة زجاجية تجمعها قسيمات اليانصيب

اتخذ آدم المشرّد من مدخل السوق مكانا للتسول، وهناك تعرّف على المرأة المسلمة أميرة (الممثلة تمارا البيشة) التي يتركها زوجها داخل السيارة المركونة ويدخل السوق ليتبضع، ويبدأ التواصل معها عن طريق الإشارات، فيكتب لها ملاحظات سريعة على ورق، فتقوم هي بقراءتها من خلف زجاج النافذة، إلى أن نشأت بينهما علاقة صداقة من بعيد، وأصبح يقلق عليها إن لم تحضر.

في البدء كان يظن أن الشخص الذي يحضرها هو والدها، لكنه اكتشف بأنه زوجها عمار (الممثل أراش بيراسته)، وأنه يعنّفها بشكل دائم، ويقوم بمراقبة هاتفها باستمرار، ويضربها حتى لو وجد تعليقا أو رسالة عادية في هاتفها، وهو الأمر الذي يُظهر غيرته الشديدة وغير المبررة.

لقد فهم آدم هذا الأمر، لكنه اكتفى بمراقبة الوضع من بعيد، والتواصل معها عن طريق الإشارة، وقد أظهرت المشاهد المتعلقة بأميرة وزوجها عمار بأنه زواج غير سعيد، وذلك انطلاقا من تسلط الزوج الذي يكبرها، فهو لا يحترمها ولا يترك لها أي خصوصية أو مساحة شخصية، وأكثر من هذا فقد ظهر بأنها مرعوبة منه، ولا تستطيع القيام بأي رد فعل أو مقاومة أو احتجاج، فقط تحلم بأنها هربت منه اتجاه المجهول، لكن الواقع شيء آخر تماما.

الممثلة تمارا البيشة التي قامت بدور أميرة التي يُعنفها زوجها في الفيلم

رغم هذه الحياة الصعبة التي تعيشها أميرة، فقد شغلت نفسها بجمع قسيمات اليانصيب التي يحضرها زوجها مع المشتريات، وفي إحدى المرات ضربها ورمى تلك القسيمات من نافذة السيارة وانطلق، جاء آدم فوجدها، لهذا قرر استكمال ما بدأته، وبدأ يبحث عنها في الأرضيات والقمامة وغيرها، يجمعها ويضمها للقائمة التي بدأت في الاكتمال، خاصة أنها في حالة الربح ستكون قيمة المبلغ هي مليون دولار، وهو مبلغ سيحدث الفارق في حياته وفي حياة أميرة التي اتفق معها على اقتسام المبلغ مناصفة في حالة الفوز.

لغة الإشارة.. كوميديا الحوارات الخالية من الكلمات

استطاع “سري تشاران” أن يخلق لغة سينمائية قوية في فيلمه الذي غَيّب فيه الحوار بشكل كلي، وهذا انطلاقا من الإشارات والمواقف العبثية التي وظفها، وهو المُعطى الذي ولّد درامية العمل وكوميديته في الوقت نفسه.

لقد اعتمد المخرج وكاتب السيناريو على الإشارات والحركات التي يتشارك فيها معظم الناس ويتفقون على معناها، لهذا جاءت حركات الممثلين مفهومة، إذ يمكن تفسيرها بكل سهولة، فمثلا عندما يقوم آدم بتقليب لباس المتحجبات، تخرج له المرأة المسلمة العاملة في قسم الألبسة وتشير بيدها إلى لافتة كُتب عليها “لا تلمس شيئا إلا بمساعدة المسؤول”، وهو نفس الشيء الذي حدث أيضا في الكافيتريا، فقد رفض النادل خدمته بعد أن رأى حالته المزرية، وعندما حاول الاحتجاج أشار له إلى لافتة كتب عليها “من حقنا رفض خدمة أي زبون”.

الممثل أراش بيراست الذي قام بدور عمار  زوج المرأة المعنفة أميرة

احتفى الفيلم بهذه المعطيات ليخلق من خلالها لغة تواصل بين شخصيات الفيلم، وفي الوقت نفسه يتواصل من خلالها بين الفيلم والمتلقي، إذ يمكن فهم معانيها ومرادها بيسر وبلا تكلف.

“سري تشاران”.. ثورة المخرج المغامر على الأساليب المألوفة

تنعكس جمالية فيلم “مناصفة” في قدرة المخرج على ابتكار لغة إبداعية مميزة، إضافة إلى خروجه عن القالب السينمائي السائد، وهي مغامرة إبداعية محفوفة بالأخطار، وهو الأمر الذي أظهر شجاعة المخرج “سري تشاران”، إذ لم يكتف بخروجه عن السائد وتقديم صورة إيجابية عن الإسلام، بل ذهب أبعد من ذلك من خلال اختيار شكل سينمائي مبتكر، أحدث من خلاله قطيعة مع التراكم السينمائي القديم.

وتظهر هذه الآليات الجديدة في طريقة استبدال الحوار بلغة إشارية بديلة، حتى أن المخرج جسّد مشاهد طويلة لم يستعمل فيها كلمة واحدة، لكنه استطاع إيصال المعنى، وهذا من خلال التواصل بين آدم وأميرة، هو خارج السيارة وهي داخلها، فقد رسم لها أحلامه على ورقة كبيرة في حالة ربح اليانصيب، وهي عبارة عن منزل، والسفر وشراء ما ينقصه، أما هي فلا تملك أي أحلام، فقد قالت له لا شيء.

لقد اكتمل هذا الحوار بأكمله عن طريق الرسومات بدون أي كلام، لكن المخرج استطاع أن يوصل الفكرة بكل سهولة، وفي الوقت نفسه لا يظهر هناك أي ملل أو عسر في التلقي، حتى أن المشهد إضافة إلى بقية المشاهد غير متكلف، وينساب بطريقة عادية مع اللغة السردية، ولديه إيقاع خفيف حافظ المخرج من خلاله على تماسك الفيلم، إضافة إلى أنه أدان العنف ضد المرأة، وكأنه يقول إن العنف يقتل الأحلام والآمال.

فيلم “مناصفة” من الأعمال السينمائية الحديثة التي قُدمت بشجاعة، وفي الوقت نفسه حمل في طياته بُعدا فنيا مختلفا، فقد ذهب صوب موضوع حساس جدا لا تزال تُعاني منه معظم الجاليات المسلمة، وقد حاول العمل تكسيرها، ويتعلق الأمر بالنظرة السلبية للإسلام والمسلمين، وقد جاء هذا بعد أن اقترب جدا من الموضوع وفهم أبعاده بعيدا عن اللغة الجاهزة والصور النمطية التي رسختها هوليود.


إعلان