“ديفيد شابيل”.. جدل حول الكوميديا الساخرة من الشذوذ الجنسي والاحتلال

إبراهيم إمام

هل سبق أن ألقيت طرفة من قبل ولم يفهمها أحد، وهل قمت بعد ذلك بمحاولة شرحها؟

إذا مررت بهذا الموقف سواء كنت المازح أو المتلقي فستعلم بالتأكيد أن شرح الطرفة ليس بالأمر المرح، لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فإلقاء “نكتة” لا يعتمد فقط على محتواها، لكن على أسلوب الإلقاء ونبرات الصوت وملامح الوجه ولغة الجسد، وهو ما يتضح عندما يظل المستمع مبتسما خلال سماعه للنكتة، وكأنه متأهب للضحك في نهايتها، بل كثيرا ما يحدث أن نجد شخصا يقول ضاحكا لم أفهم النكتة، لكن لا يمكنني التوقف عن الضحك، وهو ما يعني أن شرح النكتة أسوأ من عدم فهمها.

لن يكون من المبالغة أن نقول إن محاولة شرح نكتة  يعد من أسوأ المواقف الاجتماعية التي يمكن أن يمر بها شخص ما. يقول “إلوين وايت” الكاتب الأمريكي الشهير إن تحليل النكتة يشبه تشريح ضفدعة، من حيث هو فعل لا يحبه أحد، خاصة الضفدعة. وحيث أنني أحب تشريح الضفادع، سأقوم في هذا المقال بشرح عدد من النكات.

“ديفيد شابيل”.. كوميديا تغضب مجتمع “إل جي بي تي”

في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي استقالت “تيرا فيلد” الموظفة بشركة نتفليكس اعتراضا منها على العرض الكوميدي الذي أنتجته الشركة، وعرض على منصتها في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهو عرض “الأقرب” (The Closer) للفنان الكوميدي “ديفيد شابيل”.

 

في هذا العرض ناقش “شابيل” عددا من القضايا والموضوعات التي أصبحت تتسم بطابع شديد الحساسية في الفترة الأخيرة، موضوعات مثل الصوابية السياسية وثقافة الإلغاء والعبور الجنسي (يعني اختلاف الهوية الجندرية للذكر أو الأنثى أو لأي شخص عن الجنس المحدد لهم عند الولادة. منهم من يريد تغيير جسده الذي ولد به ومنهم من لا يريد ذلك) إلى آخر هذه الموضوعات. لكن النكت التي عرضها أثارت غضب كثيرين من أعضاء مجتمع “إل جي بي تي” (LGBTQ)، وهو المجتمع الذي تنتمي له “تيرا فيلد” بوصفها عابرة جنسيا، فقد اعترضت -كما اعترض كثيرون- على عرض هذا العرض وطالبوا بإزالته من على المنصة، لكن شبكة نتفليكس لم توافق على هذه المطالب وأصرت على نشره.

يتحدث شابيل في عرضه عن فترة الحجر الصحي التي مر بها العالم خلال جائحة كورونا، وهي الفترة التي شهدت ارتفاعا شديدا في معدلات مشاهدة المواد الإعلامية من أفلام ومسلسلات، وبالأخص مقاطع الفيديو المسلية التي لا تحوي مضمونا عميقا مثل الفيديوهات التي تعرض أطباقا طائرة وتتحدث عن الفضائيين الذين يزورون كوكب الأرض. يقول “شابيل” إنه شاهد عددا كبيرا من هذه المقاطع، إلى درجة أنه فكر في قصة جيدة تصلح لأن تتحول إلى فيلم.

تحكي هذه القصة عن فضائيين يقومون بغزو الأرض، ثم نكتشف أن هؤلاء الفضائيين هم أصلا بشر عاشوا على كوكب الأرض منذ قديم الزمان، لكنهم تركوها وذهبوا إلى كوكب آخر، وبسبب كارثة حدثت في كوكبهم الجديد قرروا العودة إلى كوكب الأرض مرة أخرى والسيطرة عليه، ويرى “شابيل” أنها فكرة جيدة تصلح لإنتاج فيلم بعنوان “يهود فضائيون”.

وهكذا نصل إلى الجزء المسلي الذي وعد به المقال في مقدمته، وهو شرح النكتة.

عودة الفضائيين.. نكتة ذكية تطرح أسئلة معقدة حول إسرائيل

كما نلاحظ فإن نكتة الفضائيين تحمل مضمونا معرفيا ضخما، يبدأ “شابيل” النكتة بقصة شخصية مألوفة مررنا جميعا بها، ويمهد بها لطرح فكرة على الجمهور تثير لديهم مشاعر الإعجاب بذكاء الفكرة، فالمعتاد في أفلام الغزو الفضائي أنها تخلق موقفا بسيطا يكون فيه الفضائيون غزاة أشرارا، وعلى الجانب الآخر يكون الأرضيون هم أصحاب الحق، لكن ما يقترحه “شابيل” يثير تساؤلات حول أحقية هؤلاء الفضائيين بالعودة. هل تركهم كوكب الأرض ينزع عنهم الحق في العودة، أم أنهم ما زالوا ينتمون إلى الأرض، ومن ثم يحق لهم العودة؟

 

تعتبر هذه الأسئلة أسئلة مركبة وليس من السهل الإجابة عليها، لكن “شابيل” لا يعطينا الفرصة للتفكير. إذ يلقي ختام النكتة الذي يجعل المستمع يدرك في لحظة واحدة أنه كان يفكر في جائحة كورونا والحجر الصحي والضغط النفسي الذي مر به خلال عام كامل، ثم بدأ في التفكير في احتمال وجود فضائيين يزورون كوكب الأرض، ثم انتهى إلى مجموعة من الأسئلة الفلسفية المعقدة، ليكتشف فجأة أن “شابيل” لم يكن يتحدث عن كل هذه الموضوعات، بل كان يناقش الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وأنه تجاهل كل التعقيدات الدينية والتاريخية للقضية، وقدم تساؤلا بسيطا مفاده أنه حتى وإن كانت فلسطين أرض اليهود، فهل يعطيهم هذا الحق في العودة بعد أن تركوها؟

عالم النكتة.. غوص في مفاهيم الفكاهة البشرية

السؤال الذي نبحث عن إجابته هو لماذا يعد هذا مضحكا؟ من المفهوم أن تثير هذه النكتة على وجه التحديد غضب البعض وسعادة البعض الآخر، لكن ما يجعلها مضحكة هو أمر مختلف.

يقول “بيتر ماجرا” الباحث في معمل أبحاث الفكاهة في جامعة كولورادو إنه لا بد من توفر عاملين أساسيين في أي نكتة لكي تصبح نكتة؛ الأول هو أن يحدث خرق للمألوف أو المنطقي، كشيء غير مفهوم بالنسبة للمتلقي، والثاني أن لا يمثل هذا الخرق خطرا على المتلقي، يعني ذلك أن ما يجعلك تضحك عند رؤية شخص يمشي غير منتبه إلى عائق في طريقه، مما يدفعه إلى التعرقل والسقوط على الأرض؛ هو أن في الحدث خرقا للمتوقع، وهو استمرار المشي، وأنه لم يحدث لك أنت، ومن ثم فأنت آمن من تأثير هذا الخرق. وكلما كان هذا الخرق في المتوقع أكبر، وكان شعور المتلقي بالأمان أكبر؛ كانت النكتة أكثر إضحاكا.

يفسر هذا ضحك الأذكياء على الألعاب اللغوية لأنها تمثل خرقا في منطق اللغة، وهي نفسها الفكرة التي اعتمدت عليها شركة “إنتل” في إعلانها الشهير الذي لا يتمالك فيه عالم رياضيات نفسه من الضحك بسبب خطأ في معادلة. في حالة هذا الإعلان يضحك عالم الرياضيات بسبب خرق في منطق المعادلة، بينما تضحك أنت لعدم قدرتك على فهم سبب ضحكه.

 

يؤكد “ماجرا” على أن عدم الفهم وحده لا يكفي، بل يجب أن يرافقه الشعور بالأمان، فعدم الفهم وحده يفضي إلى الخوف، إذا شاهدت شخصا مستمرا في الضحك بلا سبب مفهوم ستشعر بالقلق وربما الخوف منه، وفي حالة إعلان كهذا نعلم أنه يضحك بسبب شيء لا نفهمه نحن، لكننا نعلم يقينا أنه يفهمه، وأنه لا يمثل أي خطر لنا.

حيلة “شابيل”.. نكتة لا علاقة لها بالموضوعات المطروحة

يلجأ “شابيل” في أكثر أعماله على حيلة تبدو بسيطة لكنها تحتاج إلى درجة عالية من الإتقان والحرفية، إذ يبدأ بالحديث عن موضوع ما، وبسبب جدية الموضوعات التي يتحدث عنها، يظل المستمع في حالة ترقب وتفكير منتظرا لما سينتهى إليه “شابيل”، لكنه لا ينهي حديثه، بل ينتقل بسلاسة إلى موضوع ثان ثم إلى ثالث، حتى ينهي حديثه بتعليق مازح عن أمر لم يذكره على الإطلاق، غير أنه يعلم أن جميع الحضور يعلمه ويستخدم في مزحته أفكارا من جميع الموضوعات التي تحدث عنها.

الكوميدي الأمريكي “ديف شابيل” أثناء عرضه “العرض الأخير”

 

يضحك الحضور في هذه الحالة لإدراكه المفاجئ للعلاقة غير المباشرة بين كل هذه الموضوعات المتنوعة، يحدث هذا بينما يجلس الجمهور في أمان في دولة تفصلها قارتان ومحيط عن قضية فلسطين وإسرائيل. ويعتبر عنصر الأمان هو العنصر الأساسي الذي يجعل الضحك فعلا اجتماعيا معديا، لأن عقل الإنسان عند سماعه لضحك الآخرين يستقبل إشارة قوية لكونه في مكان آمن.

حادث المرأة الشاذة جنسيا.. نكتة تلامس وجدان الجمهور

يتبع “شابيل” نفس الأسلوب الفكاهي لاحقا، بينما يمزح بخصوص حقوق السود أو الشذوذ أو العابرين جنسيا، لكنه لن يحصل على نفس القدر من الضحك، فرغم اتباعه نفس الأسلوب الذكي، فإنه سيناقش موضوعات تمس الحضور بشكل مباشر.

يتحدث “شابيل” عن حادث تعرض له مع امرأة شاذة، فقد ادعت أنه اعتدى عليها بالضرب لكونها شاذة، بينما يقول “شابيل” إن هذا لم يحدث لأنه لم يكن يعلم أنها امرأة، ثم يستمر في الحديث عن هذا الحادث ويقول إنها بدأت بالضرب، وهو ما دفعه لرد الاعتداء، تعتمد النكتة على التلاعب بالجمهور، حيث يوحي للجمهور أنه لم يعتد عليها، ثم نعلم أنهما تشاجرا بالفعل، لكن السبب ليس هو ما ذكرته إلى آخر تفصيلات النكتة.

يحكي “شابيل” هذه القصة بأسلوبه الساخر المرح، لكنه في هذه المرة سيجابه بمزيج من الضحك والاستنكار، والسبب في ذلك أنه من الممكن له أن يتحدث عن ضرب ذكر لامرأة باستخدام أسلوب ساخر يحقق الشرط الأول، لكن من الصعب أن يحقق الشرط الثاني، فمن المتوقع أن يشعر كثيرون بالخطر تجاه موقف واقعي يمكن أن تتعرض له الكثير من النساء.

نفهم من هذا أن الجمهور في هذه الحالة انقسم إلى قسمين، الأول لم يشعر بالأمان، والثاني لم يشعر بالخطر، ويعد النوع الثاني في هذه الحالة مثالا على نوع الضحك الأول الذي لفت نظر الفلاسفة، وهو الضحك بوصفه تعبيرا عن التفوق.

إثبات التفوق.. سخرية آمنة تفرض نفسها في التلفزيون

بطبيعة الحالة فإن الضحك بوصفه تعبيرا عن التفوق هو أحد أكثر الأنواع شيوعا بين الذكور، وعلى الرغم من أنه النوع المذموم في أكثر الثقافات، فإن كثيرا من مقدمي العروض الكوميدية ومسلسلات كوميديا الموقف وحتى الأفلام تلجأ إليه، ولعل المثال الأبرز على ذلك هو مقدمو البرامج الإخبارية الكوميدية مثل “جون أوليفر” الذي تحدث عن “بوريس جونسون” رئيس الوزراء البريطاني وشبه وجهه بثمرة البطاطس، وهو ما يُعد تنمرا غاية في الوضوح، إلا أنه على الرغم من ذلك يستخدمه كأداة لإضحاك الجمهور.

مقدم البرامج الإخبارية الكوميدية “جون أوليفر” يسخر من هيئة رئيس الوزراء الإنجليزي “بوريس جونسون”

 

يستخدم مسلسل “نظرية الانفجار الكبير” (The Big Bang Theory) ذات الأسلوب، حيث نلاحظ أن المسلسل بكامله يعتمد على نوعين فقط من المزاح، الأول هو استخدام تعبيرات علمية في مواضع غير مناسبة، وهو خرق للأسلوب المنطقي في التواصل بين الناس، والنوع الثاني هو إهانة الآخرين، كأن يقول أحدهم “بالطبع لن تفهم هذا، فأنت إنسان غبي”، وهو الأمر الذي به خرق لأخلاقيات التواصل المحترم السائدة في المجتمع، فلا يتوقع أحد من المشاهدين أن يوجه شخص هذا الكلام إلى شخص آخر، بالإضافة إلى أن المشاهد يستقبل هذا الخرق من موقعه الآمن أمام الشاشة، لذا فإنه يقوم بالضحك.

شراء العبيد.. قصة العبد المحرر الذي أصبح ثريا

يكمل “ديف شابيل” عرضه متأرجحا بين مهاجمة بعض أفعال تيار “إل جي بي تي” (LGBTQ) وبعض آراء النسويات، وبين التعاطف معهم في آراء ومواقف أخرى، ويؤكد أنه ليست لديه أي ضغينة تجاه أي منهم، وأن تفهمه لمعاناة بعضهم ليس تفهما لمعاناة الشاذين جنسيا، لكنه تفهم لمعاناة البشر.

يقول “شابيل” إنه يعلم ما الذي يعنيه اضطهاد شخص لأسباب عضوية، لأنه هو نفسه واحد مر بهذا، لكونه ينتمي إلى فئة الأمريكيين ذوي الأصل الأفريقي، بل إنه مدرك لأن مصدر هذا الاضطهاد ليس الرجل الأبيض فقط، مشيرا إلى قصة أحد العبيد الذين أعطاهم سيدهم حريتهم وقطعة أرض صغيرة للعيش فيها، فقام هذا الشخص باستغلال هذه الأرض بصورة جيدة، حيث اعتنى بها وزرعها واستطاع أن يكون ثروة صغيرة من خلال عمله في هذه الأرض.

 

المشكلة أن هذا الشخص بعدما كوّن هذه الثروة قام بشراء عبيد، بل إن أسلوب إدارته لعبيده كان أحيانا ما يكون أسوأ من بعض البيض في وقته. يقول شابيل إن هذه القصة مؤلمة لكنها تشرح الكثير عن الإنسان، كيف أن إنسانا تعرض للكثير من القهر، يقوم بنفس الممارسات عندما تتاح له الفرصة، بل إن هناك فيلما يجري إنتاجه يحكي هذه القصة، وسيكون عنوانه “يهود فضائيون”.

حرية المزاح الآمن.. أداة صحية في المجتمعات الساخرة

حسنا، إذا قمت بشرح هذه النكتة فلن يشير هذا بالضرورة إلى أنني أحب تشريح الضفادع، لكنه سيعني بالتأكيد أنني شخص ممل.

على الرغم من قدرة “شابيل” الهائلة على المناقشة الساخرة لموضوعات أقل ما توصف به أنها خطرة، فإن كثيرين اعترضوا على عرضه، لا نعلم ما ستؤول إليه الأمور في المستقبل، وهل ستنجح محاولات إلغائه أم لا، لكن بغض النظر عن الموضوعات الشائكة في المجتمع الأمريكي، يبدو لنا أن الضحك فعل مهم للغاية.

يرى الفيلسوف “سلافوي جيجك” أن فكرة الصوابية السياسية فكرة خاطئة بشكل جوهري، بل إننا إن عشنا في مجتمع ملتزم بها بشكل كامل، فإن هذا المجتمع لن يكون مجتمعا صحيا، ولن يكون هذا مؤشرا على الترابط بين أفراده، فالمجتمع الأكثر صحية من وجهة نظره هو مجتمع لديه القدرة على السخرية والمزاح من اختلافاته، دون أن يكون هذا مصدرا للألم أو الخطر، فالقدرة على المزاح تعني أننا آمنين.

ربما يكون “جيجك” محقا في نظريته. لا نعلم هذا، لكننا نعلم أن الدراسات العلمية تشير إلى أن الأشخاص الذين تربطهم علاقات حميمة تستمر علاقتهم لفترات أطول إذا كانوا يستخدمون الضحك لمواجهة المواقف العصيبة التي يمرون بها.


إعلان