“هاري بوتر”.. أسرار قوة البطل الخارق المنتصر للخير ضد الشر

في فترة سابقة من الدراما كانت الغلبة للبطل المثالي، البطل المنحاز دوما لجانب القيم، يتصرف من خلالها بقوة وقدرة، ويُوبّخ كل من حوله لأنهم يحيدون عنها. وقد جرت تلك العادة، وتعمم ذلك النمط حتى فقد معناه، فسئم منه الجمهور ولفظه باعتباره خياليا مُستفِزا لا يشبه الواقع الرمادي الذي نحياه، فهو واقع لا يصنف فيه الناس بسهولة وفقا للونين الأبيض والأسود، وتحت خانتي الخير والشر.
من هنا تطورت خرائط المعالجات الدرامية، واتجهت نحو إبراز الصراعات الداخلية التي يحياها البطل، ومالت لتقبل الجانب المظلم من الأفعال الأنانية الخبيثة دون إدانتها أو تأمل عواقبها على حياة الشخص وعلاقاته بما حوله ومن حوله وبالتالي مجتمعه بأكمله، كل هذا بات يُحدث خوفا من شبح المثالية من جهة، ونتيجة لجنوحنا إلى التطرف في تأويل أي محاولة تفنيد دقيقة للأفكار من جهة أخرى.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن التهافت أصبح ملتفا حول أدوار الشر باعتبارها أكثر دسامة وإغواء للممثل، وهنا مربط فرس آخر يوحي بمدى سطحية قراءة دور البطل الذي يسعى لنسخة الخير في داخله، باعتباره مملا فارغا ومتوقعا أكثر من اللازم.
الحقيقة أن الأعمال الدرامية سواء الماضية التي انحازت لبطل القيم، أو التي تبعتها وحاولت أن تنحاز للإنسان المتأزم الذي يهزمه جانبه المظلم قد أخفقت في أغلبها، وقدمت معالجات ساذجة لإنسان الخير وإنسان الشر، معالجات اهتمت بالتصنيفات تارة وبالتملص منها تارة أخرى، لكنها لم تهتم بالبحث وراء مفهوم الخير والشر في حد ذاته، مُحاوِلة أن تلقي بضوء جديد يعيد تعريفهما أو يضيف إليه.
لهذا وبعد مرور 20 عاما على سلسلة أفلام “هاري بوتر” (Harry Potter) للكاتبة الشهيرة “جي. ك. رولينغ” يمكننا أن نتأمل ذلك التشريح الجاد لمفهوم قوة الخير والجمال والحب، مقابل ضعف الشر والظلام والقبح، في قالب أسطوري ملحمي منسوج بإبداع ودقة، لينال من قلب الكبير قبل الصغير، على الرغم من تصنيفها كسلسلة مُوَجَهَة للأطفال والمراهقين، لكن سبق أن اتفقنا على أن القيمة لا تكمن في التصنيف، وأن هذا التصنيف قد يكون سببا في تشتيت الانتباه عن ما هو أهم منه بداخل المادة الفنية.
“أنا شخصيا لم أؤمن أبدا بالأبطال”.. فلسفة نبذ الغرور
في فيلم “سبع سنوات في التبت” (Seven Years in Tibet) يتباهى البطل مُتسَلِق الجبال بصوره وأخباره عن نجاحاته السابقة أمام الفتاة التبتية التي تعجبه، فتتابع الفتاة ما يشير إليه بعدم اهتمام، ثم تقول له: ثمة اختلاف كبير بين مفهوم قومك وقومي عن النجاح، نحن لا نسعى أبدا إلى هذا الشكل من النجاح هنا، وإنما النجاح عندنا يعني مدى قدرة المرء على التخلص من غروره.
في الجزء الرابع من سلسلة أفلام “هاري بوتر” بعنوان “هاري بوتر وكأس النار” (Harry Potter and the Goblet of Fire) يتباهى “كراوتش الصغير” خادم وتابع “فولدمورت” الساحر الآثم المدنّس بأنه كان سببا في عودته بعد فترة ضعف كادت أن تُقضي عليه، فيخاطب “دمبلدور” أعظم السحرة الناذرين أنفسهم لمحاربة “فولدمورت” قائلا: “سيُقلدني اللورد الأعظم لقب البطل لأنني أعدته، ولأنني سأقتل غريمه”، فيجيبه الحكيم “دمبلدور” مشفقا أكثر من كونه غاضبا “أنا شخصيا لم أؤمن أبدا بالأبطال”.
بنظرة غير متأنية قد يبدو المشهدان منعزلين عن بعضهما، لكنهما في الحقيقة يقدمان فكرة واحدة تدور حول التخلي عن كل المشتتات التي تعيق الهدف الأصلي، الهدف الذي لا بد أن يبدأ وينتهي إليه كل طريق، وهو قدرتنا الحقيقية على حب أنفسنا لذاتها، بغير استناد على وجاهة أو شهرة نستمد منها قيمتنا في عيون الآخرين، فنظل طوال حياتنا نسعى إليها بدلا من السعي الحق نحو أنفسنا، فنصبح مغرمين بغرورنا وألقابنا التي لا نرى أنفسنا من دونها شيئا يذكر، وهكذا نحيا ونموت ونحن لا نعرف أنفسنا ولم نحبها يوما، وبالتالي لم نستطع أبدا أن نحب غيرنا، بل نضمر له رغم أنوفنا رغبات مكبوتة من الحقد والغيرة والخوف، تتطور لدى كثيرين إلى نزعات شر واضحة وخطيرة.
“هاري بوتر” هو الطفل الذي وصفته نبوءة قديمة، فأكدت أنه الوحيد الذي سيعتبره اللورد “فولدمورت” نِدّا له، لأنه يمتلك قوى لا يعلمها هذا السيد الظلامي الذي يخشى الجميع ذكر اسمه.
“يمتلك قوى لا يعلم عنها سيد الظلام شيئا”.. بطل النبوءة
“يمتلك قوى لا يعلم عنها سيد الظلام شيئا”. توحي هذه الجملة بأن تلك القوى التي تفوق قوى سيد الظلام شخصيا قوى مهولة متعلقة بصنوف غير مسبوقة من السحر، تعاويذ قادرة على سحق خبرة “فولدمورت” في السحر الأسود، لكنها في الحقيقة ليست بذلك أبدا، إنها بسيطة للغاية، لدرجة قد تُحبِط محبي المغامرات الذين ينتظرون التجسيد المادي للمعارك بين البطل وغريمه، فقوى “هاري” الحقيقية هي قدرته على التخلي عن غروره، والتجرد من كل الأسلحة التي يفتخر بها الأبطال، وفي المقابل تشبثه بكل ما يتعلق بالحب.
إنها قوى بسيطة، لكنها أيضا ليست هيّنة، لأنها تتعلق بمدى قدرة المرء على تهذيب روحه وضبط نفسه، وهذا هو الجهد بعينه.

لم يكن يسيرا على “هاري” أن يتحلى بالشجاعة للدفاع عن أصدقائه وحتى ألد أعدائه، وليس من السهل أبدا أن يقف أمام رفاقه مبادرا لكي يُثنيهم عن اعتباره بطلا خارقا، فيؤكد أنه وإن كان استطاع في بعض المواقف أن يواجه الخطر ويتجاوزه، فهذا لم يحدث إلا لسببين، أولهما مساعدة من حوله له، وثانيهما حظه الجيد الذي يكون حليفه، على الرغم من أنه يرتجل معظم الوقت، فلا يتحرك بناء على خبرة أو خطة ما.
“حجر الفيلسوف”.. كنز ثمين في جيب من لا يطمع به
لم يكن “هاري” قادرا عن التخلي عن غروره فحسب، وإنما تخلى عن شتى الوسائل التي كانت من الممكن أن تمنحه سُلطَة لن يجاريه فيها أحد، فنرى “حجر الفيلسوف” وهو يختار جيبه هو بالذات ليظهر فيه، لأن هذا الحجر لا يحصل عليه إلا من لا يطمع به.
وإن كان قد اجتاز اختبار “حجر الفيلسوف” ذاك بسبب طفولته البريئة بفطرتها والنقية بطبيعتها، فسنجده يجتاز اختبارات أصعب في الأجزاء الأخيرة وهو شاب، حينما استطاع أن يملك “عصا الإلدر” و”حجر البعث”، ومعهما يكون خالدا متمكِنا إلى الأبد، لكنه بغير تردد حَطّم العصا، ورمى بالحجر في الغابة، وكأنه أي حجر لا قيمة له، بعدما استخدمه لمرة واحدة سمح له بها مُعلمه “دمبلدور” بشكل مشروع. فهل أفعال كتلك تبدو مملة فارغة أو خالية من الصراع؟
بالتأكيد لا، فتلك الشخصية التي تحاول دوما أن تتصرف وفقا لهذا المنوال ثرية ومُحاطة دوما بتحديات واختبارات بالغة التعقيد.
قوة الحب.. تعويذة تواجه قوى الظلام منذ المهد
الحب أيضا قوة عظمى من قوى “هاري”، وهو نتيجة حتمية بديهية للتخلي عن الغرور أو الأنا، فكلما انفصل المرء عن تشوهات نفسه كان قادرا على الحب بصدق، فالحب في حياة “هاري” أساس وغاية، فهو الذي حصّنه وهو رضيع عندما حاول “فولدمورت” قتله لأول مرة بعد معرفته بالنبوءة، إذ قامت والدته بحمايته وإحاطته بتعويذة من حبها الصادق له.
مرة أخرى ينقذه الحب، حب البروفيسور “سنيب” لوالدته، الذي كان دافعه الوحيد إحاطة “هاري” طوال الوقت وعقده تحالفا سريا مع “دمبلدور” لحماية “هاري” في معركته مع “فولدمورت” مهما حدث.
وقد فعل “سنيب” كل ذلك كنوع من الوفاء الدائم لحبه الحقيقي لـ”ليلي” والدة “هاري”، رغم أنها فضلت عليه رجلا آخر وتزوجته، ورغم أن “سنيب” كان أيضا أقرب للظلام من النور، وبالفعل احتُسِب لفترة طويلة من عمره كواحد من أتباع “فولدمورت”.
اختيارات الحب.. درع الحماية وبوصلة الاتصال بالذات
اختار “هاري” رفقاءه بالحب دون اعتبارات أخرى، فكان “رون” صديقه الحميم على الرغم من تواضع قدراته مقارنة بـ”هاري”، كما أننا في الأجزاء الأخيرة نراه الوحيد القادر على احتواء “لونا” واستيعابها على الرغم من تباعد الكل عنها، لأنهم يرونها مخيفة غريبة الأطوار.
قلب “هاري” ممتلئ بحب صادق لكل من حوله، لوالديه الغائبين ولـ”سيريوس بلاك” الذي لاح في الأفق ليحل محل والديه، ثم غاب سريعا هو الآخر، ولـ”دمبلدور” الساحر العظيم الذي أرشده إلى الضوء.

هذا القلب الآمن بحب مُستقِر وأكيد؛ استطاع أن يمثل قوى جبارة تُعيق شر ظلام “فولدمورت” وتفوقها مرات ومرات، لدرجة كان يقف فيها أحيانا أمام “هاري” مهزوزا في داخله، ثم يتذرع أمام الجميع بأن السبب في عصاه التي لم تطاوعه.
كل هذا الحب لم يكن يعمل في داخل “هاري” من تلقاء نفسه وبكبسة زر ليقيه في غمضة عين من خطر “فولدمورت” فقط، وإنما كان البوصلة التي يستدعيها “هاري” لتعيد اتصاله بذاته الحقيقية، وتشدّ من أزره في لحظات صراعه مع نقاطه المظلمة التي ينفخها “فولدمورت” في روحه بما أنهما في فترة كانا متصلين ذهنيا، ولأن حب “هاري” صادق لا تشوبه شائبة، فقد كان يهديه ويدلُّه ويعيد تذكيره بأن “فولدمورت” مجرد مسخ بائس وحيد وضعيف.
أفلام “بوتر”.. ملحمة تبدأ بالطفولة وتنتهي بالنضج
فكرة قوة النقاء التي يملكها الطفل في الصمود أمام الشر ومدى تفوقها على النضج مهما بلغت خبرته وخيره هي فكرة تناولها عدد من الأعمال الفنية، لكن سلسلة أفلام “هاري بوتر” كانت الوحيدة والفريدة التي تبدأ من عندها ملحمة ممتدة تستفيد بدلالة فترة الطفولة، ثم تستكمل بعدها المسيرة مرورا بمرحلة المراهقة إلى بداية النضج.
في أول جزأين من أفلام “بوتر” نرى العالم من خلال تجربة طفل، فكل ما يحدث من أحداث تمهيدية لملحمة مؤجلة ستمتد لسنوات نراها ونسمعها ونتعرض لها بمفردات طفل، بدءا من الموسيقى للألوان للمشاعر، حتى كل الأفكار المهمة القيّمة قُدِمَت ببساطة وبيسر، وهذا لم يأخذ من وقعها وكونها مفاتيح خفية لما سيأتي من بقية في القصة.
تتلاحق بعدها الأجزاء ويتوسع الحَكي، وتكشف الحكاية عن مدى ترابطها، ومعها يتغير المنظور الطفولي إلى مراهق، ثم المنظور المراهق إلى طور النضج. تنغلق إشراقة الصورة شيئا فشيئا، تتغيم الألوان، وتلوح علامة شركة “وارنر بروس” قبل بداية كل جزء وهي أكثر قتامة وانطفاء. كل هذا يحدث دون أن تتأثر روح القصة، بينما تبدو في صورتها الأعمق والأشمل.
بداية السلسلة من طفولة “هاري” وأصدقائه وعيش خبراتهم معهم بوعي يتطور مع أعمارهم يُعد تجربة فيلمية فريدة من نوعها، ستضع هذه السلسلة في خانة خاصة جدا، باعتبارها تجربة قادرة على خلق نوع متميز من الارتباط والتأثير، وابتداع منهجية مختلفة للإيمان بفكرة قوة النقاء والحب في مواجهة الشر.