“أبونا”.. مُخادع استغل الدين والطب لإنجاب أكثر من 94 ابنا في أمريكا

من الناحية البيولوجية لديه أكثر من 94 ابنا وابنة كبروا وترعرعوا في المدينة التي عمل فيها كطبيب نساء، لم يكتشفوا الأمر حتى صاروا شبابا، وقتها بدأت معالم الأحداث تتضح، واجتمعوا للبحث عن أدلة يدينون فيها هذا الطبيب الذي تلاعب بعملية تلقيح أمهاتهم، فصار والدهم البيولوجي رغما عنهم. فما قصة الطبيب “كلاين”، وما الذي حدث بالضبط حتى صار أبا للكثيرين؟

أصبحت مواضيع السينما الوثائقية أكثر خيالا من السينما الروائية، وهذا ما حدث في كثير من الأفلام التي صدرت في السنوات الأخيرة، فقد تناولت قصصا يصعب على العقل استيعابها، ولولا الأدلة الدامغة والبراهين التي لا تقبل الشك، والضيوف من أصحاب الصلة والمقابلات النوعية والوثائق المُستعان بها لما صدقها الجمهور، ولو جرى التطرق لها في الأفلام الروائية لقيل وقتها إن خيال السينما واسع وغير محدود ومبالغ فيه.

“دونالد كلاين”.. طبيب تخصيب يزرع أبناءه في أرحام الزبائن

فيلم “أبونا” (Our Father) للمخرجة “لوسي جوردان” (2022) عُرض قبل أسابيع قليلة على منصة “نتفليكس”، ويغوص في قصة طبيب النساء الشهير والمختص في الخصوبة “دونالد كلاين” الذي يعمل في مدينة أنابوليس بالولايات المتحدة الأمريكية.

كان “كلاين” في وقت مضى مرجعا مهما في مهنته، ولا أحد يستطيع أن يتجاوزها، خاصة أنه زرع الفرح في قلوب مئات الأمهات والآباء ممن كانوا يعانون من مشاكل في الإنجاب أو من المصابين بالعقم، حيث يلجؤون له من أجل التخصيب الصناعي لتسهيل وصول مني الزوج إلى رحم الزوجة، أو زرع مني من متبرع آخر في حالة كان الزوج عقيما.

“جاكوبا بيلارد” ابنة كلاين البيولوجية التي اكتشفت القضية وذهبت صوب التدويل والقضاء

إلى هنا كان الأمر عاديا، لكن تبين لاحقا بأن الطبيب “دونالد كلاين” كان يخدعهم، حيث يزرع في بطونهم منيه الخاص، وهذا بعد أن يمارس العادة السرية في الغرفة المحاذية لغرفة العمليات، وعندما يزرعه في رحم المريضة ويخبرها بأن مصدره متبرع، أو مصدره زوجها إن كانت عملية وصل فقط، لتظهر الحقيقة فيما بعد، ويكتشف ما كان مخبأ منذ سنوات.

“كنت أعرف منذ سن العاشرة أنني ابنة من مني مُتبرع”

“شعرت بأنني مختلفة وأنا صغيرة، كنت شقراء زرقاء العينين في أسرة ذات شعر داكن وبشرة سمراء وأعين داكنة، لذا أخذت أسأل أمي إن كنت متبناة، أخذت أطمئن والدي، كنت أقول لهما: لا بأس إن كنت متبناة، يمكنكما أن تخبراني، لا بأس. وبعد فترة أخبرتني أمي بالحقيقة، لذا كنت أعرف منذ سن العاشرة أنني ابنة من مني مُتبرع”.

هذا ما قالته “جاكوبا بيلارد” من خلال تعبيرها عن الهواجس النفسية والجسدية التي كانت تنتابها قبل أن تكتشف الحقيقة، وعندما شاهدت سنة 2014 إعلانا تلفزيونيا يُروّج لموقع “23 آند مي” المُختص في التحاليل الوراثية والجينات أرسلت لهم عن طريق البريد العادي كمية من لعابها للتحليل، حتى تعرف من خلالها مصدر جيناتها ومع مَنْ تتقاسمها، لتكتشف في أول الأمر بأن لديها 7 أخوة في هذا الموقع الشهير، خاصة وأن والدتها أخبرتها بأنه من الناحية القانونية لا يمكن للمتبرع أن يتجاوز ثلاث مرات حسب اتفاقها مع الطبيب.

من هنا بدأت “جاكوبا” التواصل مع إخوتها من خلال هذا الموقع، ثم قدّمت بلاغا للنائب العام من أجل فتح تحقيق بعد أن عرفت من خلال تحقيقها الخاص بأن المتبرع ما هو إلا طبيب أمها المُعالج، فقد خصّب معظم المريضات اللواتي زرنه بمنيه الخاص، وكذب عليهن بخصوص المصدر، لكن النائب العام لم يبدِ أي اهتمام بهذه القصة.

“أنجيلا غانوت”.. صحفية تكسر تهديد السلاح وصمت النائب

استطاعت “جاكوبا بيلارد” أن تجمع رابطا عمليا بينها وبين إخوتها الذين يتشاركون معها جينيا، نظرا إلى أن مصدر المُتبرع واحد، وبعدها أخذت تتواصل مع الإعلام الذي تجاهل رسائلها، لكن عندما وصلت الرسالة إلى الصحفية “أنجيلا غانوت” التي تعمل في قناة “فوكس 59” أثارت انتباهها، لهذا أرادت المُضي قدما بهذه القصة، خاصة وأن بين يديها أدلة دامغة.

تواصلت الصحفية “أنجيلا غانوت” مع النائب العام فلم يرد عليها، كما تواصلت مع الطبيب “دونالد كلاين”، وقد هددها في حالة نشر القصة، لكنه اجتمع بها فيما بعد في أحد المطاعم، وأخبرها بأن لا تُصور أو تُسجل، وأحضر معه مسدسا وُضع على جنب، ومن خلال الحوار استنتجت الصحفية بأنه يقوم بتهديدها إذا نشرت القصة، إذ أخبرها بأنه يعرف بيتها وأولادها وتفاصيل أخرى.

صور لضحايا الطبيب دونالد كلاين

لكن الصحفية لم تستمع له، ونشرت تقريرا إعلاميا حول هذا الأمر، بدون أن تذكر اسمه مبدئيا، ليتحرك مكتب النائب العام فيما بعد، بعد أن أرسل رسالة إلى الدكتور “كلاين”، ومن خلال الرد تبين بأنه قدّم تصريحا كاذبا، لهذا دخل عليه النائب من هذا الجانب، خاصة أن قضية “جاكوبا” وإخوتها الذين وصل عددهم في تلك المرحلة لأكثر من 10 أفراد في نظر القانون ليست جريمة، لأنه ليس اغتصابا بالمفهوم القانوني المُتعارف عليه، كما لا توجد قوانين تدين هذا الفعل، لتبدأ بعدها رحلة القضاء.

مداولات القضاء.. حكم غير نافذ ضد أحد رجال الكنيسة النافذين

اجتمع بعض الإخوة المتبنين بالدكتور “كلاين” الذي جاءهم مسلحا لترهيبهم في أحد المطاعم، وبدأ يطرح عليهم أسئلة غريبة، وكأنه يقوم بدراستهم من أجل التغطية وردم القضية، كما برر فعلته من منطلق ديني، واستشهد ببعض الكلام المقدس، لكنهم باشروا بعدها رحلتهم مع القضاء، حيث رفعوا عليه قضية جماعية، وبعد المداولات حُكم عليه بعقوبة غير نافذة بحجة أن السجون مكتظة، مما جعل الضحايا يشككون في نزاهة القضاء، وأن العدالة طرف فيها.

لم يقبل القضاء بداية بالقضية، وبعدها أطلق سراحه رغم توفر نية المجرم وممارسته ما يشبه الاغتصاب، من خلال زرعه نطفا بدون رضى النساء، وكل ذلك لأن الطبيب “دونالد كلاين” رجل مهم في الكنيسة، وأحد المتحدثين الرئيسيين في صلاة الأحد، كما يقوم بتعميد الناس في مسبح بيته، أي أنه فرد مهم في نظر الكثير من رواد الكنيسة.

تكفير عن حادثة قتل الطفلة.. نظريات تصطبغ بالعنصرية والتدين

تساءل كثير من الضحايا وأصدقاء الطبيب “كلاين” عن السبب الحقيقي وراء قيامه بهذا الفعل غير الطبيعي، ولقد خلص البعض إلى بعض النظريات المهمة، من بينها تكفير الطبيب عن الحادثة المرورية التي ارتكبها سنة 1963، عندما صدم بسيارته طفلة صغيرة ذات ثلاث سنوات وقد توفيت بسببه، لهذا أراد التكفير عن هذه الحادثة من خلال توزيع نطفه.

صورة حقيقية للطبيب كلاين الذين أنجب من خلال سائله المنوي أكثر من 94 ابنا وابنة

وهناك من يرى بأن السبب هو عنصري من إجل إكثار العرق الآري وتغليبه على بقية الأعراق الأخرى في أمريكا، كما أن هناك من رأى بأنه ينتمي إلى طائفة دينية تطلق على نفسها “كويفرفول”، وتهدف هذه الطائفة من خلال جوهرها إلى إنجاب أكثر قدر ممكن من الأطفال، وعندما يكبرون ويحصلون على وظائف مهمة ومناصب سياسية يعملون على تغيير القوانين المدنية حتى تتطابق مع القوانين الدينية التي جاء بها الكتاب المُقدّس، إضافة إلى إن هناك نظريات أخرى كثيرة.

وقد جاءت هذه التأويلات بعد أن امتنع “كلاين” عن إعطاء الجواب الحقيقي للضحايا الذين تأثروا كثيرا بهذا الموضوع المتعلق بهويتهم وتاريخهم وماضيهم.

هاجس زواج الأقارب.. فوضى جينية في مدينة صغيرة

ذكر الفيلم عددا من المعطيات والأرقام المهمة حول الموضوع، خاصة أن واحدا من كل خمسة من الأمريكيين لديه مشكلة في العقم، مما جعل كثيرا منهم يلجؤون إلى العيادات المختصة في الإنجاب والتخصيب.

وقد توصلوا بعد ظهور موقع “23 آند مي” وعن طريق التحاليل المنزلية بأن هناك 44 طبيبا في أمريكا استعملوا نُطَفهم في عمليات التخصيب، وهو رقم مخيف يوحي بأن ما هو غير مُصرح به رهيب، وهو الأمر الذي يهدد هوية الأفراد، حتى أن هناك من تخوف من عملية زواج الأقارب والأخوة، لأنهم لا يعرفون بعضهم.

وقد حدث مع الدكتور “كلاين” أنه كان يعالج إحدى المريضات التي كان يقلبها في أماكن حساسة من جسمها وهي ابنته البيولوجية، وعندما عرفت بهذا أصابتها حالة من الكآبة والحزن.

إضافة إلى أن هناك عددا من القصص المشابهة، لأن مدينة أنابوليس محدودة، ويمكن أن يحدث هذا الأمر، خاصة بعد أن وصل عدد الإخوة من نُطف الدكتور “دونالد كلاين” إلى 94 فردا، وما زالت القائمة مفتوحة في ظل تكتم وتحفظ البعض من الذين لا يريدون ذكر أسمائهم في القضية.

بوح الضحايا.. أساليب فنية ضاعفت جمالية الفيلم

استطاعت المخرجة “لوسي جوردان” في فيلمها “أبونا” أن تجعل بوح الضحايا مصدر قوة وجمالية في الفيلم، وهو الأمر الذي يمكن أن يربط القيمة الفنية بالموضوع، ويظهر مدى الجهد الذي لعبته المخرجة للخروج بهذه القيمة.

مشهد تمثيلي للدكتور كلاين وهو يقوم بتعميد بعض من أفراد الكنيسة الجدد في مسبح بيته

إضافة إلى تنوع المصادر الوثائقية التي اعتمد عليها، مثل أعداد الضحايا الذين شاركوا في هذا الفيلم، ومنهم “ديانا كيسلر” التي كانت تظن أن “كلاين” استعمل سائل زوجها المنوي، لكن اتضح بأنه استعمل سائله المنوي الشخصي، وهي والدة “جولي”، إضافة إلى “ليز وايت” والدة “مات”، و”هيزر روك” و”كاري فوستر” و”إيلسون كامار”، وغيرهم كثير والقائمة طويلة.

كما ذهبت المخرجة “لوسي جوردان” إلى الجهة الأخرى من أجل تقديم فهم أوسع وأوضح للدكتور “كلاين”، مثل الممرضة التي عملت معه أكثر من 13 سنة، والزوجان “شرين” و”مارك فابر”، إضافة إلى شريكه السابق الدكتور “روبر كولفر” الذي عمل معه في العيادة، لكنه لم يكن يعرف شيئا عن تلك الأعمال التي كان يقوم بها، كما وصفه بـ”الشرير”، وفي المقابل قال عنه إنه طبيب ماهر جدا، لكونه أول طبيب يجري عمليات حمل بالليز عبر قنوات الرحم.

وقد انعكس هذا البوح المتعدد في الفيلم وضاعف من جمالياته، كما خلقت المخرجة عددا من الجماليات الأخرى، مثل جمالية البناء المحكم الذي اعتمدته، وتوليد لغة سينمائية من بعض الأحداث، ومن بين الأمثلة على ذلك عندما تحدثت إحدى المريضات عن الأمل في الإنجاب، إذ قطعت المخرجة هذا المشهد وذهبت لآخر، حيث ظهرت بعض الطيور وهي تحلق في السماء، وهذا تعبير بصري قوي.

إضافة إلى ربط المخرجة أفعال الدكتور “كلاين” بالدين، وهذا ما أكدته من خلال كتابة العنوان في مفتتح الفيلم، حيث فصلت بين ضمير “نا” (Our) و”والد” (Father) بعلامة الصليب، وهو الأمر الذي خلق دلالة تأويلية قوية، كما صنعت مشاهد تمثيلية لخدمة موضوعها، وقد استطاعت من خلالها أن توسع دائرة التفسير وشرح الأحداث بطريقة عملية.

بعد توسع القصة وانتشارها إعلاميا اعتمد تشريع في محافظة أنديانابولس يُجرم تلقيح المتبرعين غير الشرعيين، وفي المقابل لا يزال كثير من النشطاء في انتظار وضع قانون فيدرالي يُجرّم هذا الفعل في كل الولايات الأمريكية بدل ولاية واحدة.