“ملامح مميزة”.. أم مكسيكية تبحث بين براثن الموت عن ابنها المهاجر

لم تنته رحلتنا مع الأعمال الأولى لمخرجين دخلوا الساحة من أوسع أبوابها، فقد بدأت الرحلة مع فيلم “خنزير” (Pig)، وهو العمل الأول للمخرج “مايكل سارونسكي”، ومرت بفيلم “البشر” (The Humans)، وهو العمل السينمائي الأول للمخرج “ستيفان كارام”، ثم العمل الروائي الطويل الأول للمخرج “ليموهانغ جيريمايا موسيسي” الذي متع أعيننا بفيلم من مملكة ليسوتو “هذا ليس مدفنا.. بل قيامة” (This Is Not a Burial, It’s a Resurrection).

تنتهي الرحلة اليوم مع فيلم من المكسيك بعنوان “ملامح مميزة” (Identifying Features)، وهو الفيلم الطويل الأول للمخرجة المكسيكية “فيرناندا فالديز” التي قدمت قصة تتميز بهيكل متماسك ومشاعر صادقة وحقيقية وعميقة، وهي تصور لنا ما يعنيه عدم الموت.

يبدأ الفيلم بوضوح وبشكل مباشر تماما بعرض المشكلة الرئيسية التي يناقشها، وهي مشكلة الهجرة غير الشرعية من المكسيك إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي يقوم بها شباب في مقتبل العمر ومراهقون من أجل البحث عن فرصة لحياة أفضل، بعيدا عن الفقر الذي تعيش تحت وطأته كثير من الأسر المكسيكية.

“سوف أرسل لك نقودا”.. رحلة الهجرة إلى الحلم الأمريكي

من أهم العلامات المميزة لهذا الفيلم أن المخرجة وأغلب طاقم العمل من النساء، وعلى الرغم من أنني لست من هواة مدح الأعمال الفنية لمجرد أن منتجتها امرأة، لكن في حالة هذا الفيلم فإن كون طاقم العمل أنثويا قدم لمسة شديدة الأهمية، لأننا نعيش أحداث الفيلم من وجهة نظر أم، لا نشاهد الصبي “خيسوس” وهو يقرر الذهاب، لكن نشاهد الأم “ماغدالينا” وهي تتذكره قادما إليها ليقول لها إنه قرر الذهاب مع صديقه وابن قريتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

نعلم من خلال الفيلم أن هناك لغة حوارية مكررة وثابتة يستخدمها جميع من يقدم على هذا القرار مع أهله، وتحديدا أمه عند إعلامها بقراره، وتبدأ بأن “أحد الأقرباء أو الأصدقاء نجح في تثبيت أوضاعه في الولايات المتحدة، وأنه سيساعدني على إيجاد عمل، وبمجرد أن أجد عملا سوف أرسل لك نقودا”.

وما يجعلنا نرتبط ونتعلق بأحداث هذا الفيلم على الرغم من خصوصية موضوعه هو أن هذه الجملة تنطبق على كل مهاجر لأسباب اقتصادية حول العالم، حتى وإن لم يستخدمها المهاجر بشكل مباشر، وحتى وإن نشأ الشخص في طبقة متوسطة ولم تكن لديه حاجة إلى الهجرة، لكنه يرغب فقط في أن يحسن من إمكانياته المادية، فإنه بشكل مبطن يفكر في أن يملك ما يمكنه من إرسال النقود أو الهدايا أو المساعدات لأهله في محل وطنه.

وهذا هو العامل الأول والأهم في العمل الفني الناجح، وهو مناقشة موضوع أو فكرة شديدة الخصوصية، لكن لها صدى عالمي، ويمكن لأكبر عدد ممكن من الأشخاص أن يتفهموها ويتعاطفوا معها.

فاجعة جثة الصديق المرافق.. رعب يضرب فؤاد الأم

المشكلة الكبرى التي يواجهها المهاجرون غير الشرعيون ليست انكشاف أمرهم ومواجهة أمر بترحيلهم إلى بلادهم مرة أخرى، لكنها اضطرارهم للجوء إلى مسارات غير شرعية للهجرة، وهي مسارات تعج بالأماكن الخطرة والعصابات التي تقوم بسرقة العابرين وربما قتلهم، وهو ما حدث بالضبط.

لقد تأخر “خيسوس” عن الاتصال بوالدته، وبدأ الشك يساورها، حتى علمت أنه قد عثر على جثة الصديق الذي سافر مع ابنها، وعلى الرغم من فجاعة الخبر فإن الأسوأ كان هو الصمت المطبق حيال مصير ابنها، لقد كان الطفلان معا، فما الذي حدث لابنها بالضبط؟

يدفع هذا السؤال أحداث الفيلم، حيث تقرر “ماغدالينا” الذهاب بنفسها للبحث عن ابنها، ورحلة البحث هي رحلة بطيئة ومملة بطبيعة الحال، إذ إننا نتحدث عن أم تبحث عن ولدها، ومن ثم فهي لن تنخرط في مشاهد عنف وحركة بالتأكيد، بل ستذهب إلى السلطات لتسأل، وإلى أماكن انتظار الحافلات كي تسأل السائقين وهكذا.

تحل المخرجة “فرناندا فالديز” هذه المشكلة عن طريق تطعيم المساحات الفارغة بقصص قصيرة تدفع القصة الأساسية إلى الأمام، وتستغل هذه القصص القصيرة كي ترسم صورة أكبر لما يمر به الآخرون أيضا.

بحث بين الجثث المتعفنة في العراء.. صراع مع الذات

تذهب الأم إلى حيث تجمع كل الجثث المفقودة التي لا يتعرف عليها، وتقوم هذه المؤسسة بمقارنة عينات الدم من الجثث مع الباحثين، وبسبب أنهم يجدون هذه الجثث في العراء بعد الموت بفترة غير قليلة فإنها تكون مشوهة ومتعفنة بما لا يسمح لأحد بالتعرف على الجثة.

ممرضة تأخذ عينة دم من ماغدالينا لمقارنة بياناتها الحيوية ببيانات الجثث التي وجدتها السلطات

نلاحظ مباشرة أن الموظفين لا يعنيهم ما يقومون به بصورة كبيرة، وإنما يقومون إذا حضر سائل، بينما يوجد عدد من الموتى الذين لا يسأل عنهم أحد يقومون بجمعها معا، وهو ما يتسبب مباشرة في إغلاق ملف البحث عن المفقود الذي يبحث عنه هذا السائل.

في هذا المكان نلتقي بالقصة الأولى، حيث تلتقي “ماغدالينا” بأم أخرى وصلها إخطار أنه قد عثر عليه، فتذهب الأم لكنها تتشكك في أن ما تراه هو جسد ابنها، لكنها بعد صراع مع النفس تستسلم وتقوم بتوقيع الأوراق التي تقول إنه ابنها، مما يجعلها تدرك الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه، وهي أن قلبها لن يرتاح أبدا، فهي لا تصدق أنه ابنها بالفعل، وفي الوقت نفسه توقف السلطات عن البحث عن ولدها المفقود بسبب توقيعها لهذا، فهي تنصح “ماغدالينا” بأن لا توقع على هذه الأوراق أبدا، حتى يتأكد قلبها تماما من أن هذا هو ابنها بالفعل.

“إنك تشبه ولدي كثيرا من الخلف”

“إنك تشبه ولدي كثيرا من الخلف”. و”كلنا نشبه بعضنا من الخلف”.

تنتقل القصة إلى شاب مكسيكي تواجهه السلطات الأمريكية بكونه مهاجرا غير شرعي، وتتوجب عليه العودة إلى بلاده، تتبع الكاميرا هذا الشاب من الخلف طوال رحلته هو والآخرين من أمثاله إلى بلدهم المكسيك، ويقدم لنا هذا الشاب صورة عن عدم الاستقرار حتى بعد الوصول إلى أرض الميعاد، حيث يعيشون تحت وطأة الخوف من كشف أمرهم في أي لحظة.

يلتقي الشاب بـ”ماغدالينا” أثناء رحلتها للبحث عن ابنها، ويخبرها أنه عائد من الولايات المتحدة، وأنه لم يتحدث إلى والدته منذ خمسة أعوام، مشيرا إلى أنه ليس من الضروري أن يعني عدم اتصال ابنها أنه مات، بل إن ظروف الحياة كثيرا ما تحول دون الاتصال.

يعرف الشاب من “ماغدالينا” وجهتها ويخبرها أنها بعيدة، ويعرض عليها قضاء المساء في بيت والدته، لكن التجربة التي مر بها هذا الشاب، والتي انتهت بترحيله إلى المكسيك مرة أخرى ليست هي أسوأ ما سيمر به.

مهاجر مكسيكي غير شرعي يعود إلى بلده بعد اكتشاف أمره

يستمر الشاب في السير مع “ماغدالينا”، ولأنه على العكس منها شاب صغير السن ويعلم الطريق فهو دائما ما يسبقها بخطوة، فتخبره “ماغدالينا” أنه يذكرها بابنها من الخلف، وذلك في إشارة إلى تجدد الأمل لديها في إيجاد ولدها، بينما يرد هو أننا جميعا نتشابه من الخلف، وذلك في إشارة منه إلى أن هذه التجربة تلغي فرديتهم، إذ يتعامل معهم ككتلة بشرية متجانسة تُسمى المهاجرين غير الشرعيين، وبعد رحلة طويلة على الأقدام يصل الشاب مع “ماغدالينا” إلى بيت والدته التي لا يجدها فيه، ويجد البيت مهجورا ومحتوياته مكسورة والحيوانات الخاصة بهم قتلى.

بعد وقت قصير يدرك الشاب ما حدث، ويعلم أن عصابة هاجمت البيت وسرقته وقتلت أمه.

مهاجمة الحافلة.. شهادة الناجي من عصابة الشيطان المسلحة

شاهدت “ماغدالينا” بعينيها ما يحدث في هذه القرى القريبة من الحدود الشمالية، بعد أن بعث لقاء الشاب الأمل في نفسها، لكن هذا لم يردعها عن الذهاب واستكمال البحث، وكانت قد علمت من قبل أن ولدها سافر على متن حافلة هاجمتها عصابة مسلحة، وأن واحدا من ركاب هذه الحافلة يسكن في قرية قريبة، هكذا تركت “ماغدالينا” الشاب العائد وذهبت وحدها لا يردعها خوف، ولا يحركها سوى هدف واحد، وهو التيقن من مصير ابنها.

تلتقي الأم في النهاية بهذا الشخص الذي نعلم أنه ليس مكسيكيا، وعلى الرغم من أن ملامحه توحي بأنه من السكان الأصليين، فإن الفيلم يقدمه بوصفه أجنبيا لا يتحدث الإسبانية، ويتواصل هذا الشخص مع “ماغدالينا” من خلال زوجته التي تترجم عنه.

يدور بين الرجل و”ماغدالينا” حوار قصير تسأله فيه عن مصير الحافلة وما حدث فيها، وعندما يبدأ الرجل في الحكاية تختار “فيرناندا فالديز” اختيارا يتميز بكثير من الجرأة، فنحن نعلم أن الرجل لا يتحدث الإسبانية، ومن ثم فإننا سنسمع القصة من زوجته التي تترجم عنه، لكن هذا ليس المشكلة الوحيدة، بل المشكلة أننا سنسمعها متقطعة ومكررة، وهي المشكلة التي قررت “فالديز” حلها من خلال الصورة، إذ عرض الفيلم مشاهد ضبابية للأحداث، بينما يحكي الرجل دون أن تعرض “فالديز” ترجمة زوجته على الإطلاق.

مغادالينا تعبر البحيرة إلى قرية مجاورة بحثًا عن ولدها بكل السبل الممكنة

أي أننا وبصورة مباشرة لا نفهم ما يقوله الرجل، ولا نعلم ما حدث، بل إن الصورة المعروضة تعرض صورة ضبابية لأحداث تحدث في المساء، ومن ثم لا يمكننا تمييز شيء بوضوح سوى مشاعر الرجل، ومشاعره تقول إنه عاش لحظات من الرعب الخالص، وقد كان هذا المشهد بالغ القوة في تأثيره، وهو قرار به قدر هائل من الشجاعة من جانب “فالديز”.

استخدم الرجل لغة مجازية في قصته، فأشار إلى قائد هذه العصابة بالشيطان، وبدت الصورة الضبابية وكأنها تشير إلى شيطان حقيقي كما يتصوره الغرب، إذ يمتلك قرنين حادين وذيلا إلى آخر هذه المواصفات، وسنعلم منه أنه الوحيد الذي بقي على قيد الحياة، بينما قتل الشيطان الجميع.

“على الأقل نحن نعلم أنه مات”.. موت في القلب

فهمت “ماغدالينا” أن ابنها مات واستسلمت للحزن، بل إننا نشك أنها شعرت بالارتياح في واقع الأمر. لقد بدأ الفيلم بـ”ماغدالينا” تعزي صديقتها قائلة “على الأقل نحن نعلم أنه مات”.

عادت “ماغدالينا” إلى الشاب الذي فقد والدته، وعرضت عليه أن يعود معها إلى قريتها ويساعدها في الاعتناء بأرضها ويعيشان حياة بسيطة لكنها آمنة، أبدى الشاب موافقة أولية، وقررا المبيت حتى النهار ثم البدء في رحلة العودة، لكن ظلمة الليل انشقت عن شعاع ضوئي من سيارة قادمة، وهو ما أيقظ الثنائي في منتصف الليل لمحاولة الهرب.

اختبأ الاثنان بين النباتات الطويلة، لكن الشاب قرر الخروج ومواجهة المهاجمين بأنه لا يرغب في أي شيء سوى الرحيل، لكن كلامه لم يلق أذنا تسمعه، بل رد المهاجم برصاصة قتلته على الفور، وبينما تشاهد “ماغدالينا” ما يحدث؛ شهقت من الصدمة وبدأت في البكاء، في هذه اللحظة أدرك المهاجم هويتها، وعرفت “ماغدالينا” أن القاتل هو طفلها “خيسوس”.

لقد انضم “خيسوس” إلى هذه العصابة، إذ كان هذا هو المفر الوحيد للنجاة بحياته، وقد دلل على ولائه بقتل صديقه الذي سافر معه. لم تكن الصدمة بالأمر الهيّن، لكن “ماغدالينا” التي قطعت الأمتار والكيلومترات على أقدامها مدفوعة بطاقة هائلة مصدرها حب الأم لولدها والرغبة التي لا تنطفئ في معرفة مصيره؛ تركت ابنها ورحلت وعادت إلى حيث أتت، وقامت بتوقيع وثيقة تثبت أن الجثة التي رغب المسؤولون في أن يلحقوها بها هي جثة ابنها بالفعل.

لقد تمنت “ماغدالينا” أن يكون ابنها قد مات في الواقع، لكن الأسوأ هو أنه احتفظ بحياته ومات في قلبها.

إن فيلم “ملامح مميزة” هو فيلم تراجيدي لكنه لا يخلو من الرعب، وهو الرعب الداخلي الذي نشعر به تجاه تغير من نحب وفقدانهم لا لصالح الموت، لكن لصالح الآخر، الآخر الذي نعتقد أنه ليس منا ولسنا منه، وقد استطاعت “فيرناندا” أن تشعرنا بكل دقائق وتفاصيل مشاعر بطلتها والمظلوم الأكبر في قضية الهجرة غير الشرعية، إنها الأم.