“حرب الشوكولاتة”.. حلويات بنكهة عرق الأطفال المستعبدين في أفريقيا

قيس قاسم

يصارع المحامي الأمريكي والناشط في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان “تيري كولينغسوورث” منذ سنوات من أجل تقديم شركات إنتاج أغذية عملاقة مثل “نستله” و”كارجيل” إلى المحاكم الأمريكية، وذلك بتهمة استغلال الأطفال وتشغيلهم بالسخرة في حقول زراعة الكاكاو في أفريقيا، وهو ما يمثل خرقا فاضحا لتعهداتها التي ثُبتت في وثيقة وقعت عليها قبل عشرين عاما كبريات شركات صناعة الشوكولاتة، وتتضمن بنودها الامتناع عن تشغيل الأطفال بشكل غير قانوني في مزارع الكاكاو التابعة لها، والامتناع عن كل شكل من أشكال استعباد المزارعين.

هذا لم يجرِ على أرض الواقع كما يظهر في مسار الوثائقي الدنماركي “حرب الشوكولاتة” (The Chocolate War) الذي يلاحق مجريات القضايا القانونية المرفوعة من قبل المحامي ضد بعض من تلك الشركات، وفي الوقت نفسه يفضح عبر توثيقه الميداني من داخل الحقول أكاذيبها وعدم التزامها بتعهداتها السابقة، وذلك من خلال تسترها على تشغيل الأطفال بالسخرة في المزارع التي تتعامل معها في أكثر من بلد أفريقي.

مزارع الكاكاو في بوركينا فاسو.. عبودية الشوكولاتة

يُكمل المخرج الدنماركي “ميكي ميستراتي” بهذا الفيلم ثلاثيته عن الشوكولاتة التي بدأها عام 2010 بفيلم “الجانب المظلم من الشوكولاتة” (The Dark Side of Chocolate)، ثم أتبعه في عام 2012 بفيلم “شوكولاته مُظلَلة” (Shady Chocolate).

 

في وثائقيه الأخير يشتغل “ميكي” على مساريين متوازيين: الأول قانوني يتابع فيه تطورات الدعوة القضائية التي توكل فيها المحامي الأمريكي عن ستة أطفال من مالي هُرّبوا عبر الحدود بطريق غير شرعية إلى بوركينا فاسو، ليعملوا هناك في حقول الكاكاو، لكنهم لم يحصلوا رغم السنوات الطويلة التي أمضوها في العمل الشاق على أجورهم، وخلال وجودهم فيها عاملهم أصحابها كعبيد.

أما المسار الثاني للفيلم فهو استقصائي يهدف إلى فضح أكاذيب الشركات العملاقة من خلال توثيقه لحقيقة وجود ذلك النوع من الاستغلال، وكونه ما زال قائما حتى اللحظة، وأنها تتستر على ذلك من أجل الإبقاء على أسعار الكاكاو رخيصة، وذلك ضمانا لزيادة أرباحها التي تبلغ سنويا مليارات الدولارات.

لتأكيد ذلك يُثبت المخرج في مفتتح فيلمه معلومة جاءت في تقرير رسمي لوزارة العمل الأمريكية تؤكد وجود حوالي مليون ونصف مليون طفل يعملون اليوم في مزارع الكاكاو في بوركينا فاسو لوحدها.

بنود لمحاكمة الجهات الخارجية.. استغلال الدستور الأمريكي

يستند المحامي في دعوته المقدمة منذ عام 2006 ضد شركتي “نستله” و”كارجيل” إلى بنود في الدستور الأمريكي، إذ تُجيز في حالات معينة محاكمة جهات أو أشخاص يرتكبون خروقات قانونية خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية.

المحامي والناشط الحقوقي يوثق حياة الأطفال في مزارع بوركينا فاسو

 

يقدم المحامي في كل مرة يرفع فيها الدعوة إلى المحاكم أدلة تُثبت معرفة مدراء الشركتين لما يجري في حقول الكاكاو من استغلال بشع واضطهاد دون رحمة للأطفال، وأنهم يتسترون على تشغيلهم بالسخرة، لأنهم وبكل بساطة “يريدون حبوب كاكاو جيدة بسعر زهيد”.

رغم ما يقدمه من أدلة عبر مكتب محاماة صغير يديره زميل له، فإن القضاة الأمريكيين يطالبونه بتقديم المزيد، لأن المتوفر منها غير كافٍ حسب تقديرهم لإدانة الشركات التي تستعين بمحامين كبار يقدمون للمحاكم حججا قانونية قوية تطيل من أمد البت بها لسنوات.

جلد السياط.. عقوبة الفرار والسؤال عن الأجور

يدخل الوثائقي إلى بيت المحامي في واشنطن عام 2016، لمعرفة ما وثقه وما حصل عليه من حقائق ووقائع تخص القضايا التي ترافع بها بصفته محاميا وناشطا في مجال حقوق الإنسان.

يعرض المحامي أمام صانع الفيلم مقابلات وتسجيلات فيديو لبعض موكليه صوّرها بنفسه في مالي، وفي أحدها يحكي طفل أخذوه من مالي إلى إحدى مزارع الكاكاو ما تعرض له، فقد سُجن في مستودع مهجور لعدة أيام، بعدها جاء صاحب مزرعة وأخذ يفحصه كما تُفحص الحيوانات قبل بيعها.

يصف حاله مع بقية من الأطفال مثله بقوله: نقلونا للعمل في حقل للكاكاو، وبعد العمل طيلة اليوم بدون انقطاع يقومون بنقلنا إلى مستودع ويمنعون علينا الخروج منه، وإذا حاول أحد منا الهروب منه وألقي القبض عليه فإنه يتعرض للضرب بالسوط، وهذا يحدث أيضا إذا سأل أحد منا عن أجوره.

تهريب الأطفال إلى حقول الكاكاو بطرق غير شرعية

 

يعرض المحامي على صانع الوثائقي شهادة طفل آخر بدأ العمل في مزرعة كاكاو منذ ربيعه الـ12، وطيلة سنوات لم يتقاض أي أجر مقابل عمله.

تهريب الأطفال.. أكاذيب السماسرة وأحلام الثراء

بعد اللقاء في بيته يخبر المحامي صانع الوثائقي أنه يتوجه لمقابلة موكليه الستة في مالي. يرافقه الوثائقي في رحلته ليقابل الأطفال وقد كبروا وصاروا أكثر قدرة على سرد الوقائع بتفاصيلها، فيخبر أحدهم الوثائقي كيف كانت تجري عملية إقناع الأطفال بالعمل في الحقول.

يقول: عادة ما يقوم بهذه المهمة وسطاء يأتون إلى المناطق الفقيرة في مالي وبوركينا فاسو ليقنعوا الأطفال بوجود فرص عمل جيدة لهم، ثم يرتبون مع مهربين عملية نقلهم عبر الأحراش والغابات إلى حقول الكاكاو.

في الحقول البعيدة يجد الأطفال أنفسهم في مكان غريب لا يعرفون عنه شيئا، ثم يعملون لسنوات، وفي النهاية يخرجون منها أكثر فقرا مما كانوا عليه من قبل.

تورط الشركة في مستنقع الحقول الأفريقية.. وثائق سرية

يرافق المحامي ناشطا حقوقيا محليا يؤكد له أن عمليات استعباد الأطفال وتشغيلهم بالسخرة مستمر بدون انقطاع، وأن شركات الأغذية العملاقة على معرفة بذلك، لكنها تدعي بأنها لا تتدخل في عمل أصحاب المزارع، وأنها معنية فقط بشراء حبوب الكاكاو منهم، كما تؤكد “نستله” أنها في الأساس تشتري الحبوب عبر شركة “كارجيل” ولا صلة لها مباشرة بأصحاب الحقول.

تعليمات كتبت على الجدران تحذر من استغلال الأطفال في الحقول

 

يفضح الناشط ادعاء “نستله”، ويقدم للوثائقي أدلة على وجودها كطرف مباشر في عمليات البيع والشراء، ويقدم للمحامي وثائق وقوائم شراء حبوب من مزرعة كاكاو باسم الشركة مباشرة، وقد حصل عليها بطرقه الخاصة رغم السرية المشددة التي تحيط بأعمال الشركة في الحقول الأفريقية.

أدلة في محاكم لوس أنجلوس.. غنائم الرحلة إلى مالي

يعود المحامي بالأدلة ويقدمها عام 2018 لمحكمة لوس أنجلوس، أملا في إقناعها بتقديم شركات الأغذية للقضاء ومحاسبتهم على الفظاعات التي يرتكبونها بحق الأطفال.

يتحدث المحامي للوثائقي عن دوافعه وحماسته للعمل على القضية التي يعتبرها نموذجا مصغرا لما يتعرض له آلاف الأطفال في أفريقيا، ويعتبر الدفاع عنهم جزءا من واجبه كمدافع عن حقوق الإنسان.

بعد عرض الأدلة الجديدة على المحكمة وقبول دراستها ثانية يحدث تحسن في مجرى القضية القانونية يزيد من حماسة المحامي لمتابعتها، رغم علمه بما سيقوم به محامو الشركات العملاقة من عمل قد يؤجل القضية إلى موعد لاحق.

منظمة “أي سي أي” المستقلة.. معلومات مشوهة ودعم مشبوه

للحصول على معلومات إضافية تخص نشاط الشركتين في دول أفريقية ويمكن بها تعزيز موقفه القانوني؛ يقرر المحامي السفر ثانية إلى بوركينا فاسو ومقابلة منظمات تدعي أنها مستقلة، وتهتم برعاية الأطفال المتضررين من العمل في حقول الكاكاو. وتنضم إليه طالبتا حقوق متحمستان لمعرفة المزيد عن دور الشركات الأجنبية في استغلال الأطفال الفقراء في القارة الأفريقية.

أدلة كثيرة على استغلال الأطفال لكن المحاكم الأمريكية تريد المزيد منها

 

يلاحظ الوثائقي من خلال مقابلته لممثلي منظمة “أي سي أي” المستقلة التي تقوم بتقديم معلومات عن عمالة الأطفال في البلد؛ أن المنظمة تتلقى دعما ماليا من الشركتين تحديدا، وأنها تقدم أرقاما وفق ما يوفره لها أصحاب المزارع دون تدقيق جدي فيها. تدعي المنظمة أن هدفها النهائي هو تحسين ظروف الأطفال العاملين في الحقول، بينما يريد المحامي إيقاف ومنع عملهم نهائيا فيها.

خلال المقابلة يؤكد ممثلو المنظمة أن أعداد الأطفال في انحسار، وأن الباقي منهم هم فقط أبناء الفلاحين الذين يعملون في الحقول. بعد زيارة ميدانية للحقول وتسجيلات بكاميرا خفية يظهر عكس ذلك، فأغلب الأطفال الموجودين في الحقول ليس لهم صلة قرابة بالفلاحين.

تعاونيات المزارعين.. وسيلة التغطية على جرائم الاستغلال

يزور الوثائقي مركزا ثانيا لتأهيل الأطفال المتعرضين للإساءة بسبب أعمال السخرة، ويجد فريق العمل المكان نظيفا وكأنه لم يُستخدم من قبل ولم يدخله أحد. ويتضح بالتحري الدقيق للمحامي أنه مجرد وجهة دعائية للشركات الكبيرة، فالعاملون فيها يتقاضون رواتب منهم، لكن لا أحد من الأطفال يتلقى رعاية فيه.

وعلى مستوى تحايل أكبر تنفي شركة “كاروجيل” تشغيلها لأي طفل، وإذا ما حصل ذلك فهذا يعود لتجاوزات المسؤولين المحليين والشركة لا علم لها بها كما تدعي. وللإيحاء بصدق ادعائها قامت بتأسيس مزارع تعاونية في دول أفريقية تُدار من قبل أصحاب مزارع محليين يخضعون شكليا لمراقبة الجهات الرسمية.

يكتشف الوثائقي أن التعاونيات ما هي إلا وسيلة للتغطية على نشاطها المباشر، ومحاولتها عدم الظهور في الواجهة، بينما يلعب أصحابها دور الجامع للحبوب من كل مكان ليقوموا بعد ذلك بتسليمه لها، مع كامل علمها أن بقية أصحاب المزارع يشغلون الأطفال ويستغلون جهدهم دون رأفة، لمعرفتهم التامة بأنهم لن يخضعوا لأي رقابة أو عمليات تفتيش كما يدعي أصحاب التعاونيات المشتركة زورا.

حبوب كاكاو رخيصة وأرباح هائلة تدرها شركات استغلال الأطفال العاملين في مزارع الكاكاو

 

في طريق العودة من التعاونية، يتوقف الوثائقي ليصور رسومات توضيحية رسمت على جدران بيوت القرى، وهي تحذر الأطفال والعوائل من العمل في حقول الكاكاو، تجنبا لاستغلالهم وتعريض حياتهم للخطر.

“لقد خسرنا المعركة، لكننا لم نخسر الحرب بعد”

بالأدلة الإضافية الموثقة بالصور والتسجيلات والشهادات الحية يأمل المحامي تقديم الشركتين أمام القضاء. وبسبب تفشي وباء كورونا وتقليل حركة السفر بين المدن الأمريكية، يتقدم صاحب مكتب المحاماة لوحده أمام القضاة الذين كلفوا للبت في قضية الأطفال الستة، إثر تحريكها بأدلة تكفي لعقدها بعد طول تأجيل.

يركز محامو الدفاع عن الشركات على عدم تورط ممثليهم في أي نشاط مباشر في حقول الكاكاو خارج الأراضي الأمريكية، وأنهم ملتزمون بالوثيقة التي وقعوها قبل عشرين عاما.

بين أخذ ورد قانونيين تصدر المحكمة قرارا يصب في صالح الشركات، ليجد الناشط الحقوقي وزميله نفسيهما مرة أخرى في مواجهة غير متكافئة، ورغم ذلك فقد حافظا على حماستهما وقررا استئناف القرار، لأن القضية بالنسبة إليهما ليست مجرد مسألة قانونية، بل هي قضية إنسانية تتعلق باستغلال أطفال أبرياء، ولا بد من الدفاع عنهم وعن أمثالهم مهما كلف الأمر. يقول المحامي: لقد خسرنا المعركة، لكننا لم نخسر الحرب بعد.

ورغم الإحباط الذي لحق بالقضية يشعر صُنّاع الوثائقي بأنهم خرجوا منتصرين، لأنهم بغض النظر عن قرار المحكمة قدموا للمُشاهد حقائق عن بشاعة أصحاب شركات إنتاج الأغذية العملاقة، وبشكل خاص شركات صناعة الشوكولاتة، وكيف يستغلون سطوتهم المالية لجني المزيد من الربح على حساب الفقراء من أبناء القارة الأفريقية، وأنهم قدموا أيضا في وثائقيهم الرائع نموذجا شجاعا، مثل المحامي والناشط الحقوقي الذي لا يتوانى في الدفاع عن حقوق الأطفال الفقراء.