“بين الزجاج والجدران”.. رحلة أمّ تكتشف إصابة ابنها الجنين بمتلازمة داون

د. أمــل الجمل 

“أريد أن ينطفئ الضوء، أريد أن أستيقظ، لكنني غير قادرة بسبب المخدر. لم أكن قادرة على التعامل معه. لا أريده. أستطيع أن أراه لكنني لا أريد أن أنظر إليه. خذه بعيدا، فقط خذه بعيدا. لا أريد لأحد أن يصرخ، لا أريد لأحد أن يعوي معي. حقيقة لا أريد هذا، أنا أصلا لا أعرف ما إذا كنت قادرة على أن أحب هذا الطفل”.

إنها كلمات الممثلة الهولندية “آن جيرينج” أثناء أدائها مقطعا مسرحيا مع الطفلة سارة المصابة بمتلازمة داون، لكن الحقيقة أن المقطع ليس تمثيلا تماما كما سيتضح لاحقا، إنه تعبير عن المشاعر الدفينة لامرأة شابة كانت في بداية حياتها العملية والمهنية، ثم فجأة اكتشفت أن جنينها الأول مصاب بمتلازمة داون، فتمر بمرحلة ارتباك نفسي وعاطفي، خصوصا في ظل محاولة التعامل معه بعد الولادة.

“كلماتك جعلتني أشعر بالخوف”.. فيلم صادق بشكل مرعب

في مشهد التمثيل الذي ذكرنا آنفا تُدرك “آن” مدى قسوة الاعتراف الذي باحت به قبل قليل، نسمعها تقول كأنها تلوم نفسها مستنكرة “ما هذا الذي أقوله؟”، ثم نسمع صوت الفتاة “سارة” تبكي. ترمقها “آن” في المرآة بقلق وتسألها “ماذا بك؟”. فتجيبها “إحساسك وأنت تقولين الكلمات، إنها موجعة، وأنا أريد أن أُنجب طفلا، لكن كلماتك جعلتني أشعر بالخوف، لأنني أعرف أنه من المستحيل أن أنجب”. ثم تغرق في حالة من البكاء الحزين.

 

نرى هذا المشهد ضمن فيلم هولندي قصير عنوانه “بين الزجاج والجدران” (In Between Glass and Walls)، وهو من إنتاج عام 2022، ويبلغ 14 دقيقة، بتوقيع المخرجة السورية المقيمة في أمستردام رزان حسن.

إنه فيلم شديد الرقة والإنسانية، صادق بشكل مرعب عن تلك المرأة التي تحاول التغلب على الصراع في أعماقها والتصالح مع نفسها، لتمتلك القدرة على التعامل مع طفلها “فيليكس”، وتتجاوز الصدمة التي هزت أركان عالمها، وهي الممثلة المبدعة التي منحت الفيلم قدرا كبيرا من قيمته، وقد قدمت من قبل نحو أربعة أفلام، منها الروائي الطويل “12 شهرا في يوم واحد” (12 Months In 1 Day) عام 2015.

“الفن ليس مرآة تعكس الواقع به، بل هو مطرقة يمكن تشكيله بها”

عندما تلتقي المخرجة رزان حسن بالممثلة “آن جيرينج” تُفكر في أن تأخذ هذه الأم لعمل مسرحية تحكي فيها عن مشاعرها والخواطر المضطربة التي مرت بها أثناء تلك المحنة، في محاولة للتطهر والتصالح مع الذات، وذلك بالشراكة مع الفتاة “سارة” من ذوي متلازمة داون، ونرى على ملامح وجهها أحاسيسها وردة فعلها إزاء اعتراف الأم “آن” بحقيقة مشاعرها.

أثناء ذلك تقوم المخرجة بالتنقل بين لقطات من بروفات المسرحية بين الاثنتين، وبين عالم الطفل “فيليكس” ابنها، وكيف تحاول هي وزوجها ترويض الخوف والقلق بداخلهما، قبل أن ينجحا في احتواء الطفل، وكأنها تستعيد مقولة “بيرتولد بريخت” إن “الفن ليس مرآة تعكس الواقع به، بل هو مطرقة يمكن تشكيله بها”.

الممثلة الهولندية “آن جيرينج” التي قامت بأداء دور المرأة الشابة التي تكتشف خلال حملها بأن ابنها من متلازمة داون

 

في تلك المشاهد مع “فيليكس” نرى “آن” تحاول أن تُعطي وقتا أكبر لطفلها، حيث تُجاهد في أن تخلق قناة اتصال بينها وبينه باللعب معه والغناء له، لمحاولة فهم ماذا يريد ولماذا يبكي. نراها مع زوجها وهما يضحكان أحيانا ويُغنيان له، بينما هو لا يستجيب، فقط يرقد صامتا في حضن أبيه، يبذلان جهدا ليُتيحا له فرصة الاندماج مع الأطفال الآخرين، فتستقبل صديقتها مع ابنتها أو تخرجان سويا، أو تتركه إلى جوار ابنة صديقتها يشاهدان الخيول على شاشة التلفاز.

“كنت أرى كل شيء أسود”.. معاناة مع التنمر

في أحد مشاهد المسرحية تواصل “آن” البوح قائلة: أظن أنني لم أُدرك هذا كأم وشريكة، أن المرأة في فترة الحمل تتخيل كمّا كبيرا من التصورات عن طفلها، لكن فجأة كل ما حدث أن حوصرت هذه الصور المتخيلة، ومنعت من الخروج للنور، لأنه فجأة أصبح لدي طفل يعتمد عليَّ بالكامل، كان هذا شعوري الأوّلي بأنه لا يوجد خطأ ما بخصوص هذا الطفل، لكن العالم الذي دخله بالكامل لا يرغب فيه، لا يُرحّب بقدومه.

سيكون من المنطقي بعد هذا الاعتراف أن نسمعها من خارج الإطار في مشهد مع “سارة” الواقفة أمام المرآة، وكأن “سارة” في مواجهة نفسها، وفي ذات الوقت كأنها مرآة للأم التي تسألها: ما هو الشيء المميز في سارة؟ كيف تصفين نفسك؟ كيف ترينها؟

فتجيبها: أرى جسمي، أرى يدي، أراني أسير للأمام.

فتعود “آن” للسؤال: عندما يراك شخص ما للمرة الأولى، ما الذي تظنين أنه يراه فيك أو يفكر فيه؟

آن وسارة المُصابة بمتلازمة داون في لحظة تعاطف ومصارحة بسبب تعرض الأخيرة للتنمر

 

هنا تجيبها “سارة” قائلة: أول شيء يرونه متلازمة داون، أنني أمتلك يدا أصغر جدا من اليد الأخرى، لكنني هذا لم يعد يضايقني، فقد تعرضت للتنمر كثيرا بسبب ذلك، مما جعلني أشعر بعدم الأمان وأصابني الاكتئاب، كنت أرى كل شيء أسود.

“هل ترى أننا عائلة جيدة؟”.. كسر حاجز الطفل الأول

حديث “سارة” السابق يُعيدنا لرأي إحدى صديقات “آن” حين كانت تسألها عن التفكير في إنجاب طفل آخر فردت عليها: ليس الآن، فأنا وزوجي بحاجة لبعض المساحة والهدوء بعد إنجاب “فيليكس” والتأقلم معه.

هنا تُعلّق المرأة: أجل، أستطيع أن أتخيل هذا الشعور حينما يكون الطفل الأول غير كفؤ.

تحاول الممثلة “آن جيرينج” أن تُضفي جوا من البهجة، رغم قسوة الاعترافات المتبادلة الكاشفة للذات وللمجتمع في نظرتها لذوي الاحتياجات الخاصة، فتسأل شريكتها في المسرحية بصوت ضحوك: هل من الممكن أن تجاملي “سارة”، أن تري شيئا جميلا في “سارة”؟ فتجيبها “سارة” بشكل قاطع: لا.

رغم الأفكار المؤلمة والصدق الجارح، فإننا نندمج في العمل تماما، نتماهى مع شخصياته، ونتفاعل مع “فيليكس” بابتسامته الجميلة ووجهه البريء، وذلك عبر معالجة سينمائية بسيطة جدا، لكنها معبرة بصريا، بأسلوب بالغ الشاعرية، فتمنحنا الشعور بمدى التقارب العاطفي والجسدي بين الوالدين وابنهما، وبين “سارة” و”آن”، فهي تُدرك كم تشعر هذه الفتاة بالوحدة والاغتراب، بحاجتها للتقارب والتفاهم الإنساني.

الممثلة آن بطلة فيلم “بين الجدران والزجاج”

 

هذا ما يُفسر لنا أهمية اللقطة الأخيرة، حين تترك “آن” ابنها “فيليكس” يحاول سكب المياه فوق شعرها والتفاعل معه أثناء استحمامها، وكأنها أخيرا أزاحت جانبا جميع الحواجز بينها وبين هذا الطفل الجميل، لذلك لن يكون غريبا أن تُفكر مع زوجها في إنجاب طفل ثان بعد أن تسأله “هل ترى أننا عائلة جيدة؟”، فيُجيبها الزوج وشعور بالرضا يغمر وجهه “نعم أرى ذلك، وأظن أننا نتصرف بشكل جيد مع فيليكس”.

“قبل أن أنسى”.. أشجان ممثلة مهمومة بوطنها

بقي أن نشير إلى أن رزان حسن مخرجة سورية قدمت عدة أفلام قصيرة، منها فيلم مشترك بعنوان “قصة أسترال” (Astrall Story)، ويجمع أكثر من 25 مخرجا يتساءل كل منهم بطريقته “ماذا سترى في حلمك إذا وُلِدتَ أعمى؟”. وكانت رزان قدمت فيه مشهدا بعنوان “بعيدا.. هي تحلم” (Away She Dreams).

كما قدمت فيلما بارزا بعنوان “قبل أن أنسى” (Before I Forget) عام 2018، وقد عُرض في عدد من المهرجانات السينمائية حول العالم ونال بعض جوائزها، وتتحدث فيه عن ذكرياتها في سوريا، إذ تأخذنا معها في رحلة سيرة ذاتية تحاول استعادة تسجيلها الوحيد من الماضي، بينما تحاول تشكيل هوية جديدة بعد نزوحها من سوريا، طارحة سؤالا ملغزا: إذا لم يعد بإمكانك العودة إلى المكان الذي صنعت فيه ذكرياتك، فهل ستظل تتذكرها بنفس الطريقة؟