“برميل البارود الجديد”.. لهب النار الهادئة القادمة من الإمبراطورية الصينية

يرصد الوثائقي الفرنسي “آسيا والمحيط الهادئ.. برميل البارود الجديد” (Asia- Pacific, the New Powder Keg) التوترات المتصاعدة بين دول شرق آسيا والمحيط الهادئ من جهة والصين من جهة أخرى، واحتمالات نشوب حروب جديدة فيها، وذلك بسبب بروز الصين كقوة سياسية طامحة للسيطرة على الممرات المائية والجزر المحيطة بها، انطلاقا من قناعتها التاريخية بأن تلك المناطق هي في الأساس تابعة لها، ولا بد من إرجاعها إلى أحضان الوطن الأم.

الوطن الذي يتسلل بهدوء إلى مناطق متفرقة من العالم سعيا للسيطرة عليها اقتصاديا أولا، ثم سياسيا وعسكريا، الأمر الذي يحيل شرق آسيا ومنطقة المحيط الهادئ إلى ما يشبه برميل بارود قابل للاشتعال في أي لحظة.

“ولادة الصين الجديدة”.. خطة لتحويل الصين إلى دولة عظمى

يتوقف الوثائقي عند تاريخ انعقاد المؤتمر الـ18 للحزب الشيوعي الصيني عام 2012 باعتباره نقطة تحول في السياسة الصينية، فمنه شرع زعيمه “شي جين بينغ” بتطبيق خططه لتوسيع رقعة نفوذ الصين خارج حدودها الحالية وتحويلها إلى دولة عظمى.

تلك العملية يطلق عليها الحزب “ولادة الصين الجديدة”، ويعمل منذ ذلك التاريخ لتحويلها إلى واقع من خلال بناء قوى عسكرية كبيرة نواتها الأساسية وحدات بحرية وأساطيل قادرة على إزاحة الحواجز البحرية الواقفة في طريق توسعها في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ.

حواجز جغرافية تشكل حزاما من الدول المحيطة بها، مثل تايوان والفلبين من جهة الجنوب، واليابان من الجهة الشمالية، وهي دول تعتبرها الصين كلها دولا موالية للغرب، ولا تتمنى رؤية الصين الجديدة واقعا بالقرب منها.

تلك النظرة التوسعية يتبناها الزعيم “شي جينبينج”، ويعمل على تحقيقها منذ قرابة عقد من الزمن.

قضم الجزر الصغيرة.. حان وقت العودة إلى الوطن الأم

لكسر الحاجز الجيوسياسي المحيط بها، بدأت الصين بوضع إستراتيجية جديدة تهدف إلى قضم الجزر الصغيرة القريبة من سواحلها، مثل “باراسيل” و”سبارتلي”، معتمدة في خطتها على خارطة قدمتها للأمم المتحدة عام 2009، وفيها تشير إلى الخط البحري القديم الذي تريد الصين اعتماده دوليا اليوم بعد مرور أكثر من سبعين عاما على رسمه.

يكشف الوثائقي من خلال خبراء في العلوم العسكرية البحرية وسياسيين أن سيطرة الصين على الخط تعني سيطرتها على حوالي 80% من بحر الصين الجنوبي.

منطلقات القيادة الصينية في هذا مستندة على قناعة بأن بعض تلك الدول والجزر الصغيرة القريبة من سواحلها كانت في الأساس جزءا منها، وحان الوقت لإرجاعها للوطن الأم. ولاستعادتها قامت الزعامة الصينية بخطوات عملية تزيد بها من نفوذها ووجودها الاقتصادي فيها، متجنبة في الوقت نفسه صراعا مسلحا مباشرا مع دولها، من خلال اتباعها سياسة الترهيب، وهي سياسة اتبعتها وسيطرت بها عمليا على جزر صغيرة متناثرة في بحر الصين الجنوبي، مثل جزر سكاربورغ المرجانية.

تحاصر الصين الجزر الصغيرة الصغيرة القريبة من سواحلها مثل “باراسيل” و”سبارتلي” باعتبارها كانت بالأساس جزءا منها

وهذا هو بالضبط ما تريده وتعتبره مفتاحا جغرافيا يفتح لها بوابة التوسع السياسي والاقتصادي في المنطقة ويوصلها إلى مياه المحيط الهادئ كما يؤكد المشاركون في الوثائقي من خبراء عسكريين وإستراتيجيين، إلى جانب حرص مخرجة الفيلم “آن لوسوارن” على إتاحة الفرصة لمسؤولين صينيين يقدمون من خلالها تصوراتهم عن القضايا التي يتناولها الوثائقي برصانة ملحوظة.

ميليشيات الصيد.. غزو عسكري في ثياب مدنية

يقدم الوثائقي جزيرة سكاربورغ المرجانية التابعة للفلبين وغيرها مثالا على الإستراتيجية الجديدة والخطط الصينية المتبعة للسيطرة عليها وعلى غيرها من الجزر، ويستخدم الصينيون الصيد وسيلة للهيمنة عليها، وذلك من خلال الزج بأعداد كبيرة من سفن الصيد الكبيرة الحجم بالقرب منها، ودورها هو مزاحمة سفن صيادي أبناء تلك المناطق وإبعادهم عنها.

يكشف الوثائقي عبر تجربة السيطرة على جزيرة هاينان أسلوبا جديدا يعتمد على تكليف القيادة الصينية ميليشات مسلحة تابعة لها ترتدي الزي المدني وتقود سفن الصيد.

يعرض الوثائقية لتوثيق الحقائق مقاطع من فيلم دعائي صيني يظهر فيه زعيم الحزب الشيوعي في جزيرة سكاربورغ وهو يقدم أوسمة الشجاعة للصيادين من القوات المسلحة الشعبية الذين شاركوا في السيطرة عليها، ويرصد من خلال تحليلات الخبراء الصعود المتنامي لتلك القوات عسكريا، والتي يتخذها الصين وسيلة ناجعة لعبور الحواجز الجغرافية والسياسية المحيطة بها دون خوف من محاسبة قانونية.

ثغرات القوانين الدولية.. منفذ الصين إلى احتلال الجزر الفلبينية

يتعكز الصينيون في خططهم على قوانين دولية تمنع مهاجمة السفن الحربية للسفن المدنية في أي نزاع يتعلق بمناطق الصيد البحري. جرى هذا -كما يأتي في مسار الوثائقي- من خلال مهاجمة سفن صيد صينية كبيرة لقوارب صيادين فيتناميين، الخوف منها جعلهم يترددون في الذهاب إلى الصيد، مما يعني حرمانهم من رزقهم الوحيد.

الصيادون الفقراء في دول شرق آسيا ضحايا التدخلات الصينية في مناطق صيدهم

في الجزر التابعة للفلبين يطبق الصينيون نفس الأساليب، ويوثق الفيلم مشهدا تظهر فيه أكثر من 200 سفينة صينية وهي تحاصر سواحل الجزر الصغيرة، متذرعة بحجة تابعية تلك الجزر للصين قانونيا وتاريخيا. الإستراتيجية الصينية تجعل الغرب والولايات المتحدة وحتى منظمة “آسيان” عاجزة عن فعل شيء إزاء ما يحدث فعليا، بينما يظل صيادو تلك المنطقة يعانون من مشاكل حياتية نابعة من البطالة والخوف من مواجهات غير متكافئة مع السفن الصينية الآخذة بالتكاثر.

استعادة تايوان.. الحلقة الأهم في المشروع الصيني

يثير التمدد الآخذ بالتوسع حفيظة الدول القريبة من السواحل الصينية، وبشكل خاص تايوان بعد أن لاحظت أن الصين لا تعبأ بالشكاوى التي تقدمها الفلبين إلى المحاكم الدولية لحسم قانونية وجودها في الجزر التابعة لها.

الوجود العسكري الصيني الذي لم يعد سرا أسس لظهور بؤرة توتر جديدة دفعت تايوان إلى تعزيز قدراتها العسكرية، وأيضا حفزت الولايات المتحدة للتحرك في بحر الصين الجنوبي خوفا من تمادي الصين في مخططاتها الجديدة التي قد تنسف توازنا ظل قائما لصالحها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

الوجود العسكري الصيني الذي لم يعد سرا أسس لظهور بؤرة توتر جديدة دفعت تايوان إلى تعزيز قدراتها العسكرية

حساسية الوضع في تايوان تدفع الوثائقي التحليلي للتوقف عنده مطولا، فالصين تعتبر تايوان الحلقة الأهم في مشروع “ولادة الصين الجديدة”، وأن استعادتها سيعزز من مكانة الزعيم الصيني الجديد ليظهر أمام العالم بأنه القائد الذي حقق ما عجز عن تحقيقه الزعيم “ماو تسي تونغ” عام 1949.

حنين داخلي واستفزاز خارجي.. قلق تايوان المبرر

المخاوف التايوانية من مخططات “شي جين بينج” لها ما يبررها، وذلك لوجود جالية كبيرة من أصول صينية فيها هاجروا إليها بعد إقامة “الصين الشعبية”، وظل كثير منهم يحن للعودة لموطنه الأم، ويجد في دعوة الصين لضم تايوان مطلبا مشروعا.

على المستوى الوطني عملت تايوان على تعزيز قدراتها العسكرية خوفا من الصين، إلى جانب إقامتها نظاما ديمقراطيا لا يريد التايوانيون فقدانه لصالح نظام شمولي كالذي في بكين. إلى جانب وقوف الولايات المتحدة معها ضد الصين الشعبية التي لم تعترف رسميا بها حتى عام 1979.

يرصد الوثائقي عدم استسلام الصين لتلك الحقائق، وأنها استغلت انتشار وباء كورونا للقيام بأعمال استفزازية، منها طلعات جوية داخل الأجواء التايوانية، وتجاوز سفنها بشكل غير قانوني لمياه تايوان الإقليمية.

تطوير السلاح البحري.. حلم الصين لاستعادة المكانة التاريخية

لتحقيق أحلامهم في استعادة مكانتهم التاريخية في بحر الجنوب يزيد الصينيون من وتيرة إنتاجهم الحربي، وبشكل خاص تحديث وتطوير أساطيلهم البحرية، لدرجة أن بعض الخبراء العسكريين المشاركين في الوثائقي يعتبرون أن التفوق البحري يحسم المعركة لصالح الصين، وبشكل خاص بعد اكتساب بحريتها خبرة في قضم الجزر والتوسع التجاري لأغراض سياسية بعيدة المدى.

تكتكتيات جديدة لمحاصرة الجزر الصغيرة في بحر الصين الجنوبي

بينما ترى الولايات المتحدة أن التوسع العسكري البحري يزيد من بؤر التوتر في شرق آسيا، وأن التفكير الصيني بأخذ تايوان سيهدد موضوعيا الوجود الياباني وبقية مناطق شرق آسيا، مما يحيل المنطقة كلها إلى برميل بارود قابل للاشتعال في أي لحظة.

يلاحظ الوثائقي التعبير عن التوتر جليا من خلال مراجعته للقاء الذي جرى عام 2021 في ألاسكا، وجمع وفدين يمثلان البلدين، ولم يُسفر عنه سوى تهديدات صينية معلنة وتأليب ضد الغرب داخل حدودها.

يقدم الوثائقي مقاطع مصورة (فيديو) تظهر نشاط الحزب الشيوعي الصيني المحموم لتعبئة الناس وشحنهم بجرعات كراهية قوية للدول الغربية، وأيضا ليرفع بها من مستوى جاهزيتهم لمواجهاتها مستقبلا.

استفزاز أستراليا.. تمارين للحرب المتوقعة على السواحل النائية

أثناء الاحتفالات بالذكرى المئوية لتأسيس الحزب؛ يرفع قادته نبرتهم التهديدية العالية والتصريح علانية بأحقيتهم التاريخية، ليس في دول وجزر بحر الصين الجنوبي فحسب، بل وفي مناطق أخرى في المحيط الهادئ، مثل بابو غينيا الجديدة وجزر سليمان، وصولا إلى أستراليا التي تعمدت الصين استفزازها مرات عبر إعطاء الأوامر لبعض سفنها بدخول موانئها من دون إذن مسبق منها.

أستراليا تحدث ترسانتها البحرية لمواجهة المد الصيني

يعتبر المحللون أن تسلل ثلاث سفن حربية للموانئ الأسترالية عام 2019 كان بمثابة تمرين لحرب مستقبلية قد تصل نيرانها إلى الشواطئ الأسترالية، وذلك في حال قررت الصين التدخل عسكريا في تايوان، لأن أستراليا وحسب الاعتبارات الجغرافية المقدمة برسومات توضيحية في متن الوثائقي الفرنسي المبهر؛ ستكون دون شك ضمن خط المواجهة المنتظر بين الصين من جهة، وبين العالم الغربي ودول شرق آسيا من جهة أخرى.

“طريق الحرير الجديد”.. أهداف غير معلنة لتعاون لم يدم طويلا

يتوصل الوثائقي إلى بعض أهداف مشروع “طريق الحرير الجديد” غير المعلنة، ومن بينها عزل أستراليا عن الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من خلال المشاركة في مشاريع اقتصادية كبيرة معها، وتقديم دعم مالي لأحزابها السياسية بغرض التأثير في قراراتها والانحياز لصالحها في الصراع الحاصل بينها وبين الولايات المتحدة على مناطق النفوذ في المحيط.

لم يدم التعاون طويلا بعد أن أصدر البرلمان الأسترالي قرارا يمنع على الأحزاب السياسية تلقي مساعدات مالية من دول أجنبية، كما أثارت تدخلاتها في مناطق المحيط الهادئ حفيظة الهند التي ترى في الصين منافسا اقتصاديا وسياسيا كبيرا، فكلما نجحت في التوسع في شرق آسيا والمحيط الهادئ قلت فرص الهند في أخذ موقعها السياسي والتجاري المتنامي.

“شي جين بينغ”.. طموحات مجد شخصي تعيد الصين إلى الوراء

على المستوى العالمي يدرك الغرب الهدف من التحركات الصينية، لهذا بدأت دول غربية عام 2021 بتشكيل حلف جديد ضدها أطلقوا عليه اسم حلف “أوكوس”، وضم أمريكا وأستراليا والمملكة المتحدة. إنه تحالف أقيم بالأساس لتحجيم الدور الصيني ومواجهته بترسانة بحرية مسلحة ومتطورة تمثلت ببيع الولايات المتحدة الأمريكية غواصات لأستراليا تعمل بالطاقة النووية.

الزعيم الصيني “شي جين بينج” وطموحاته بالمد الصيني رغم الأصوات المتصاعدة من داخل الحزب الشيوعي الصيني ضده

اللافت في مسار الوثائقي توقفه عند الانتقادات الحادة لسياسة الزعيم “شي جين بينج”، والأصوات المتصاعدة من داخل صفوف الحزب الشيوعي الصيني نفسه، ويُعبر بعضها صراحة عن معارضته لمواقفه المتشددة من الغرب، فهي حسب رأيهم لا تخلو من طموح شخصي وغرور لا يراعي فيه مصالح البلد، بل وحسب تقديراتهم أنها ستزيد من بؤر التوتر التي يريد إشعالها في أنحاء متفرقة من العالم، وستؤدي في نهاية المطاف إلى عزل الصين دوليا، لتعود إلى ما كانت عليه أيام “ماو تسي تونغ” قبل عدة عقود؛ دولة مكروهة ومعزولة عن بقية العالم.