“المتعهد”.. عصابات تستغل أشرس أيتام الجيش الأمريكي لتنفيذ الألعاب القذرة
أمير العمري
يعود الجندي الأمريكي “جيمس” إلى بيته بعد أن يجد نفسه خارج الخدمة وهو في عز الشباب، محروما من حقه في الراتب التقاعدي وباقي المكافآت المستحقة، رغم ما قدمه لبلاده أثناء خدمته في القوات الخاصة في مناطق خطرة كالعراق وأفغانستان، ليجد أنه لن يتمكن من تدبير حياة لائقة لأسرته الصغيرة زوجته وابنه. وعندما تلوح أمامه فرصة ما يتشبث بها، لكنه لا يعلم ما يكمن من أخطار وراء تلك المهنة الجديدة.
هذا هو الخيط العام للفيلم الجديد “المتعهد” (The Contractor) الذي أخرجه المخرج السويدي ذو الأصل المصري طارق صالح (2022)، ليصبح أول أفلامه الأمريكية بعد فيلمين، لعل أشهرهما فيلم “حادثة النيل هيلتون” (The Nile Hilton Incident) الذي أخرجه عام 2017، وقد تناول فيه بجرأة موضوع فساد أجهزة الشرطة المصرية وممارساتها القمعية في عهد الرئيس حسني مبارك. كان الفيلم ناطقا باللغة العربية مع ممثلين من العرب، وقد صوره في تونس بديلا عن القاهرة بعد رفض الرقابة التصريح له بالتصوير بسبب جرأة الموضوع.
وجاء “المتعهد” قبل الفيلم الجديد الثاني للمخرج نفسه طارق صالح في 2022، وهو فيلم “ولد من الجنة” الذي حاز جائزة أفضل سيناريو في مسابقة الدورة الـ75 من مهرجان كان السينمائي الذي اختتم مؤخرا.
“جيمس”.. جندي أخلص للجيش لكنه تخلّى عنه
في فيلمه الجديد “المتعهد” يطمح طارق صالح إلى رواية موضوع يمزج بين الإثارة البوليسية والنقد السياسي من خلال حبكة تقوم على ما يمكن أن يتعرض له البطل المهزوم أو “نقيض البطل” (Anti-Hero) دراميا ونفسيا، بعد أن يجد نفسه في مأزق وجودي، الأمر الذي يدفعه إلى المخاطرة بحياته من أجل ما يتصور في البداية أنه هدف نبيل، إلا أنه يكتشف تدريجيا عمق المأزق الذي وقع فيه، ويصبح عليه بالتالي أن يستخدم كل ما في مخزونه من حيل قذرة حتى يتمكن من النجاة.
كان جندي القوات الأمريكية الخاصة “جيمس” (الممثل الأمريكي كريس باين) قد أصيب خلال إحدى العمليات العسكرية بجرح في ساقه ظل يسبب له آلاما شديدة، مما دفعه إلى الاستعانة بالمخدرات يحقنها لعلها تخفف آلامه.
لكن تحليل الدم الذي تجريه السلطات العسكرية له يكشف وجود المخدر في الدم، هنا يقوم القائد الجديد الذي تولى قيادة القوات الخاصة حديثا بإعفائه من الجيش، ويُحرم بالتالي من حقوقه المالية نظرا لمخالفته التعليمات.
يعود “جيمس” كسيرا ذليلا إلى منزله الذي اشتراه مؤخرا في الريف، لكنه يدرك الآن أنه لن يتمكن من دفع أقساطه بعد أن أصبح عاطلا عن العمل. تتضح هنا الفكرة الأولى في الفيلم، وهي أن المؤسسة العسكرية الأمريكية تتخلى عن أبنائها في لحظات ضعفهم، رغم ما قدموه من تضحيات كبيرة كادت أن تكلفهم حياتهم.
شركة المقاولات العسكرية.. تجار الحرب يستغلون حاجة الجنود
الفكرة الثانية في الفيلم هي أن هناك من يعيشون على الحروب ومناطق الصراعات المشتعلة، ويستغلون حاجة أفراد عسكريين سابقين مثل “جيمس” لخدمة أغراضهم الخاصة والأغراض السرية للدولة العميقة في الولايات المتحدة، وهؤلاء هم “المقاولون” أو “المتعهدون” الذين يبيعون خبراتهم القتالية العنيفة لشركات متخصصة في “العمليات القذرة”، وتعرف باسم “شركات المقاولات العسكرية” التي عرفنا دورها في العراق وغيره.
يزور “جيمس” صديقه وزميله السابق في الخدمة العسكرية “مايك” الذي يكبره قليلا في العمر، وكان بمثابة قائده في فصيلة العمليات الخاصة، لحضور جنازة زميل لهما أنهى حياته بيده، نعرف أنه واحد فقط من ضمن عدد كبير من الجنود العائدين الذين انتهت حياتهم بالانتحار.
هنا تبرز فكرة أخرى في الفيلم هي أن كثيرا من الجنود العائدين يصابون بالاكتئاب بعد عودتهم من جانب، وذلك بسبب ما شهدوه وشاركوا فيه من فظائع، ومن جانب آخر بسبب عجزهم عن التكيف مع الحياة المدنية بعد عودتهم إلى الديار وتهميشهم اجتماعيا، فينتهون إما إلى ممارسة العنف ضد الآخرين أو الانتحار.
وهي فكرة متكررة منذ موجة الأفلام الأمريكية عن حرب فيتنام في السبعينيات، وأقصد تحديدا موجة الأفلام النقدية مثل “العودة إلى الوطن” (Coming Home) لـ”هال أشبي”، لا الأفلام الموجهة التي كانت تحتفي بدور الفرق الخاصة على غرار فيلم “القبعات الخضراء” (The Green Berets) الذي أخرجه وقام ببطولته “جون واين”.
تصفية الإرهابي السوري الذي يخدم القاعدة.. مهمة قذرة في برلين
لن يعرض “مايك” على “جيمس” عملا، بل إن “جيمس” هو الذي سيطلب ويلحّ في الطلب أن يساعده “مايك”، ويلحقه بالعمل معه فيما يقوم به، فهو يقوم بمهام “قذرة” لحساب إحدى شركات المقاولات العسكرية مقابل مبالغ مالية ضخمة.
ورغم تحذير “مايك” له من خطورة هذا العمل، فإن “جيمس” يؤكد له أنه قادر على القيام بالمهام المطلوبة دون أن يخشى شيئا، بحكم سجله السابق في الخدمة، ويعود ليكرر طمأنة زوجته، فليس أمامه بديل آخر، فهو يريد تأمين حياة أسرته مهما كلفه الأمر.
يجتمع “جيمس” بالقائد الذي سيمنحه فرصة العمل في الشركة، وهو ضابط سابق في الجيش الأمريكي يدعى “راستي” (الممثل كيفر سوذرلاند)، وهو رئيس تلك المنظمة الغامضة التي تقوم بعمليات خاصة لحساب الجيش الأمريكي، وفي المقابلة يشرح له الرجل المطلوب، وهو تصفية إرهابي سوري هو البروفيسور “سليم محسن” (الممثل اللبناني السويدي فارس فارس الذي يظهر في جميع أفلام طارق صالح).
أما مسرح العمليات فسيكون في العاصمة الألمانية برلين، حيث يقوم “البروفيسور” -كما يقول راستي- بتطوير برنامج للحرب الجرثومية داخل أحد المعامل الجامعية هناك، لحساب تنظيم القاعدة الإرهابي.
“ألسنا جميعا مرتزقة في نهاية المطاف؟”
يستقبل “راستي” قائد المنظمة الجنديين “مايك” و”جيمس” في مزرعته الخاصة، ويبدو بجسده الضخم الذي تغطيه الوشوم أمير حربٍ شرس، ورجلا عمليا قاسيا فظا، لا يعرف المزاح في مثل هذه الأمور. إنه يردد على مسامع “جيمس” خطبة طويلة حماسية عن ضرورة “أن تكون لدينا قبيلتنا الخاصة”، و”نحن نعمل من أجل حماية أمننا القومي”، ويقرر أن يمنحه شيكا بمبلغ 50 ألف دولار كمقدم أتعاب، أما “مايك” فهو الذي سيقود العملية. وخلال مناقشة بين الرجلين يقول “مايك” لإقناع “جيمس” بقبول المهمة “ألسنا جميعا مرتزقة في نهاية المطاف؟”.
في برلين تنضم لهما امرأة ألمانية مدربة تدعى “كاتيا” (الممثلة الألمانية الشهيرة نينا هوس)، وهي عميلة سابقة للموساد، والآن يتعين على “جيمس” مراقبة البروفيسور السوري وهو داخل بيته مع زوجته وأطفاله وفي انتقالاته، ويتنصت على مكالماته الهاتفية، لكنه لا يرى إلا أن الرجل رب أسرة محب لأسرته وأبنائه، ولا تبدو عليه أي معالم للشر أو العنف، بيد أن هذا لا يهم، فالمهم الآن هو التزام “جيمس” بأداء المهمة المطلوبة وتنحية المشاعر جانبا.
هذا مدخل جيد للفيلم كان كفيلا بأن يجعله يطرح الكثير من التساؤلات الذهنية والفلسفية والإنسانية أيضا، ناهيك بالطبع عن الجوانب السياسية للموضوع، إلا أن سيناريو الفيلم يتفرع كثيرا بعد قتل البروفيسور والحصول منه على القرص الذي وضع عليه تفاصيل البرنامج الجرثومي المزعوم، لكنه أخفى القرص الآخر الاحتياطي في مكان آخر، ويتعين على “جيمس” و”مايك” الوصول إليه حسب الخطة التي حددها لهما “راستي”.
لم يطلع “جيمس” بعد على تفاصيل البرنامج، والبروفيسور السوري يؤكد له قبيل موته أنه لا صلة له بالإرهاب، وأنه أنتج لقاحا سينقذ البشرية من خطر داهم وشك، وأنه يريد أن يترك لابنه هدية، وبالتالي فقد ترك عنده القرص الثاني، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة يسأل “جيمس” السؤال الذي يمهد لما سنراه فيما بعد: هل تعرف لحساب من تعمل؟
رصاصة الغدر.. لعبة المخابرات الأمريكية في الأراضي الألمانية
تتعقد حبكة الفيلم كثيرا وتتفرع، وتدور مطاردة طويلة بين الشرطة الألمانية التي تهرع إلى مكان المعمل بعد تفجيره في عملية قتل البروفيسور، وسيضطر “جيمس” إلى ممارسة العنف والقتل، ويصل إلى منزل خاص مؤمن، يقنعه العميل الأمريكي الموجود فيه أنه لن يتمكن أبدا من العودة إلى الوطن، وأنه هو نفسه حبيس في هذا المكان منذ سنوات، وغير قادر على المغادرة لأنهم يستهدفونه، والمقصود المخابرات الأمريكية.
أصبح “جيمس” الآن مستهدفا، ليس من جانب الشرطة الألمانية التي تريد القبض عليه وعلى زميله “مايك” وكل من شاركوا في العملية، بل من جانب الذين كلفوه بالمهمة، فقد أصبح مطلوبا الآن التخلص منه، ورغم أنه ينقذ حياة صديقه “مايك”، فإن “مايك” يخدعه ويشي بمكانه ويختفي ويُقال إنه قد قُتل، ويكاد عملاء المخابرات الأمريكية أن ينجحوا في القضاء على “جيمس”، لولا أنه تمكن من الفرار بعد مطاردة مثيرة على جانبي نهر سبري في برلين.
المهمة الخاصة إذن كانت ذات اتجاه واحد، ذهاب من دون عودة، لأنه ليس مطلوبا أن يظل هناك أي دليل على حقيقة الأمر، وعلى صلة المخابرات الأمريكية بالعملية القذرة التي وقعت على الأراضي الألمانية. فما هي الحقيقة؟
تجارة الأوبئة.. أسرار العصابة التي قتلت العالم السوري
يكتشف “مايك” أن من أوهموه بأنهم يعملون من أجل حماية الوطن كانوا يخدعونه، فقد ثبت أن البروفيسور السوري كان قد نجح في تطوير برنامج لقاح طبي ضد وباء أنفلونزا الطيور الذي أصبح يهدد حياة الملايين في العالم.
هنا لم يشأ الفيلم أن يشير إلى “جائحة فيروس كوفيد- 19” حتى يفلت من المحاسبة بشأن دقة التفاصيل والشخصيات خصوصا، بل اكتفى بالتعبير عن الخطر على صعيد مجازي، باستخدام وباء أنفلونزا الطيور كبديل.
لكن المشكلة أن الفيلم تفرع بذلك، وانتقل من فكرة المقاولات المسلحة التي تعمل لحساب المؤسسة العسكرية والأمنية الأمريكية وتجاوزاتها، إلى فكرة أخرى تتلخص في ممارسة التضليل والخداع وادعاء حماية الوطن والعالم من الإرهاب، في حين أن الهدف الحقيقي هو خدمة احتكارات الأدوية وشركات العقاقير الطبية، أي المنظومة الاستغلالية العالمية الضخمة، عن طريق منع وصول اللقاح المضاد الحقيقي الذي يقي من الوباء، وبالتالي يستمر انتشار المرض، ويباع مزيد من العقاقير التي لا تفيد سوى شركات الأدوية.
عاطفة الأبوة.. تأثير القتيل الحنون على القاتل المتذبذب
أثّرت هذه الخيوط الكثيرة المعقدة على مسار السرد في الفيلم، رغم اعترافنا بسيطرة المخرج على مشاهد الإثارة والمطاردات، والجهد الكبير الذي بذله الممثلون، فالرغبة في اللجوء إلى الحبكة الملتوية لتحقيق الإثارة جعلت الكثير من المشاهد تتسم بالغموض، كما جعلت الفيلم يتسم بالتكرار وبنزعة خطابية مباشرة في الكثير من المشاهد، وكأننا أمام سياق تعليمي يريد منه المخرج إيصال رسالة ظل يكررها ويعيدها، خصوصا في المشاهد الأخيرة، لكنه ينتهي على أي حال نهاية مفتوحة على البطل الوحيد الذي يعود إلى بلده وأسرته، وينتقم من الذين خدعوه على طريقته الخاصة بالطبع، دون أن يعني تمرده الفردي نهاية المؤسسة.
إنه يتطلع إلى ولده الصغير الذي يريد أن يعوضه عن غيابه عنه لفترات طويلة بسبب طبيعة عمله، وأن يضمن له نشأة تختلف عما مر به هو في طفولته على يدي أبيه الذي كان وطنيا متطرفا، وكان يريد أن يجعل ابنه “جيمس” مقاتلا عسكريا شرسا منذ البداية، بدعوى أنه بذلك يصبح ذا فائدة للدولة الأمريكية.
هذه العلاقة الملتبسة بين الأب والابن يعود إليها الفيلم كثيرا في السياق من خلال مشاهد “الفلاش باك”، أو العودة إلى الوراء في صورة تداعيات من ذهن “جيمس”، خصوصا عندما يلمح علاقة البروفيسور سليم محسن بأبنائه، أو بعد ما يمر به من تجارب مريرة، فقد تخلى أبوه عن أسرته وتركه وهو طفل صغير، وبالتالي نشأ محروما من حنان الأب، وكان أكثر ما يعذبه عندما اضطر لقبول تلك المهمة القذرة أنه سيغيب عن حضور حفل عيد ميلاد ابنه.
سيكتشف “جيمس” أيضا بعد عودته أن “مايك” خدعه وباعه ووشى بمكانه، وكاد بالتالي أن يواجه مصيرا مأساويا، إلا أن “مايك” أيضا كان ضحية “النظام” الذي جعله على تلك الشاكلة، فكل ما كان يشغله هو فكرة النجاة.
طارق صالح.. جوائز المخرج القادم من السويد إلى هوليود
مخرج الفيلم طارق صالح هو من مواليد السويد عام 1972، وهو ينحدر من أم سويدية وأب مصري، وقد تخصص في فن “الغرافيتي” ورسم الجداريات، وعمل مقدما للبرامج في التلفزيون السويدي، ثم أسس شركة للإنتاج التلفزيوني والسينمائي.
وقد أخرج أول أفلامه عام 2009، وهو فيلم “متروبيا” (Metropia)، ونال فيلمه الثاني “حادثة النيل هيلتون” (2017) عدة جوائز من مهرجان سويدي، كما نال جائزة الجمهور في مهرجان صندانس الأمريكي.