“الحركيون”.. مأزق العيش في أحضان الاستعمار الفرنسي بالجزائر

أمير العمري

يهتم المخرج الفرنسي “فيليب فوكون” كثيرا في أفلامه بالموضوع الجزائري، ففي أعماله يحاول سبر أغوار الموضوع الذي شغل فرنسا لسنوات طويلة منذ ما قبل إعلان النضال المسلح ضد الاستعمار الفرنسي من جانب جبهة التحرير الوطني في منتصف الخمسينيات وحتى يومنا هذا، أي بعد ستين عاما من استقلال الجزائر.

ويمكن ملاحظة اهتمام “فوكون” بالموضوع الجزائري كنوع من يقظة الضمير الفردي من خلال أسماء عدد من أفلامه الشهيرة، مثل “الخيانة” و”سامية” و”أمين” و”فاطمة”، وأخيرا فيلم “الحركيون” (Harkis) الذي عرض ضمن برنامج “نصف شهر المخرجين” (Quinzaine des Réalisateurs) الذي ينظمه اتحاد السينمائيين الفرنسيين على هامش مهرجان كان السينمائي.

أزمة الحركيين.. وعد رئاسي وغضب جزائري

الحركيون هم المتعاونون الجزائريون مع جيش الاحتلال الفرنسي الذين خدموا في صفوف هذا الجيش وحاربوا ضد أبناء جلدتهم في الجزائر، وقيل إن عددهم بلغ نحو 200 ألف شخص، وكانوا على قناعة بأن الجزائر يجب أن تبقى جزءا من فرنسا، أو على الأقل كانت تلك قناعاتهم في البداية، أي قبل أن يتصدع الجيش الفرنسي في الجزائر ويصبح على مقربة من الهزيمة والخروج من الجزائر تحت ضغط المقاومة المسلحة.

 

ما زالت مسألة “الحركيين” قائمة حتى يومنا هذا، وذلك مع نشوء أجيال من أبنائهم وأحفادهم على الأراضي الفرنسية منبوذين من المهاجرين الجزائريين والعرب عموما الذين يعتبرونهم خونة ونسل خونة، كما أنهم ظلوا مهمشين من جانب الدولة الفرنسية لأنهم يُذكّرون الفرنسيين بتاريخهم الاستعماري الشائن في الجزائر، وهي صفحة يُريد الفرنسيون نسيانها وحذفها من كتب التاريخ.

ومع تفاقم أزمة الحركيين وشكواهم من الدولة الفرنسية، حاول الرئيس “ماكرون” في العام الماضي رأب الصدع، وتعهد بإصدار تشريع يعترف بدور الحركيين في مساندة فرنسا، ويقر بدفع تعويضات مالية لهم، وهو الأمر الذي أغضب الدولة الجزائرية.

لذا قرر المخرج “فيليب فوكون” أن يفتح ملف الحركيين في فيلمه الروائي الطويل الذي صوّره في الجزائر بأسلوب قوي ورؤية واضحة لم نلمسها من قبل في أي فيلم فرنسي تناول الموضوع بشكل مباشر أو غير مباشر، بما في ذلك فيلم “الخيانة” لـ”فوكون” نفسه.

لقمة العيش.. رأس في السلة ورأس في الجيش

يختار “فوكون” الفترة ما بين 1959-1962، أي بعد 4 سنوات من بداية حرب التحرير الشعبية في الجزائر، وحتى الحصول على الاستقلال عن فرنسا.

 

يقوم الفيلم على وقائع حقيقية وشخصيات حقيقية، ويتخذ طابعا شبه تسجيلي أقرب ما يكون إلى الدراما التسجيلية (الدوكودراما)، فنحن نقرأ على الشاشة تواريخ الأيام وأماكن وقوع الأحداث منتقلا من يوم إلى آخر، وكأنه يسجل ملاحظات أو يوميات.

يبدأ الفيلم بداية صادمة عندما يعثر رجل أمام بيته في قرية جزائرية صغيرة على سلة يجد فيها رأس ابنه مقطوعا، سنعرف أن الابن كان ضمن الجنود الذين التحقوا بجيش الاحتلال الفرنسي تماما مثل أبيه، إيمانا منهم بقوة وعظمة فرنسا من ناحية، لكن بالأساس ضمانا لعمل مثمر، خاصة عندما ضاعت قطعة الأرض التي كان يزرعها الرجل بعد أن استولى عليها أحد المستوطنين الفرنسيين.

وبعد مقتل الابن الأول يلتحق الابن الثاني بالجيش الفرنسي مع أبيه، فهو يريد أن يضمن لقمة العيش لأسرته الصغيرة، هذا الابن هو صلاح شخصيتنا الأولى في القصة.

كريمو.. رحلة من الإرهاب إلى صفوف الاحتلال

نكتشف بعد ذلك شخصية أخرى لشاب جزائري هو كريمو، وهو مقاتل في جبهة التحرير الجزائرية يقع في قبضة الفرنسيين، ويقومون بتعذيبه تعذيبا قاسيا باستخدام أقطاب الكهرباء والإغراق في الماء، وذلك في مشهد من أكثر مشاهد الفيلم قسوة.

 

ولعل ما يلفت النظر في هذا المشهد أن أحد “الحركيين” الجزائريين هو الذي يقوم بتعذيبه تحت إشراف الضابط الفرنسي، والمقصود من التعذيب انتزاع معلومات من كريمو عن المكان الذي تختبئ فيه جماعة من المناضلين الذين يسميهم الفرنسيون بالإرهابيين، وهم الذين يقاتلون الجيش الفرنسي.

تحت وطأة التعذيب واقترابه من الانهيار يعترف كريمو بمكان زملائه، كما يقود الفرنسيين إلى مكان اختبائهم، ليقوموا بإبادتهم باستخدام القنابل الحارقة، ثم يجد كريمو نفسه مرغما على الانضمام للطرف الفرنسي ضمن فرقة الحركيين التي يقودها الضابط “باسكال”، وهو على النقيض من زميله الضابط “كرافيتز” الشرس، فـ”باسكال” أكثر تعاطفا مع هؤلاء الجزائريين، لدرجة أنه يصل في أحد المشاهد إلى محاورة أحدهم وتوجيه أسئلة إليه على غرار: أنت عربي مسلم، فما الذي يجعلك تنضم وتقاتل إلى جانب جيش أجنبي غريب يحتل بلدك؟

قدور وأخوه.. يد حركية وأخرى في صفوف المقاومة

في الفيلم الكثير من المشاهد العنيفة والمواجهات الحربية بين الطرفين، مثل حرق البيوت وقصف المزارع وتفجير المخابئ، لكن ليس بقصد الإثارة كما نرى في الأفلام الأمريكية مثلا، بل لتصوير عنف المواجهة وضراوة القمع العسكري للمقاومة، كما أن المخرج يريد أن يلتزم بالنهج الواقعي بطريقة يحاول بها إخبارنا بأنه هكذا كانت تسير الأمور، ويضعنا بذلك في قلب المواجهة التي ستفجر المأزق، عندما تصبح كل دعوات الفرنسيين ووعودهم للحركيين، مجرد أكاذيب عارية.

الشاب قدور هو حالة أخرى من حالات الحركيين، فهو قد التحق بالحركيين لكي يضمن مصدر دخل ينفق منه على زوجته وابنه، لكنه يجد نفسه في مواجهة حادة مع أخيه الذي يتهمه بالخيانة، فالأخ هو أحد مقاتلي جبهة التحرير.

فرنسا خدعت الحركيين وأوهمتهم بأنها ستقف معهم بعد رحيلها عن الجزائر

 

ينطلق السيناريو من هذه النقطة لكي يصور ملامح التأزم التي تشيع في نفوس الحركيين وشعورهم بالذنب، صحيح أن منهم من هو على قناعة بما يفعله، كما يجد له مبررا أيضا، لكن الغالبية منهم أصبحوا يتشككون في جدوى ما يقومون به، ومع تطور الأحداث السياسية يبرز الشك أكثر فأكثر، ويبدأ نوع من التمرد في صفوفهم.

إنها حالة إنسانية لا يسهل تبسيطها، ومأزق وجودي يصعب الخروج منه.

خطاب “ديغول”.. وقف إطلاق النار تمهيدا للانسحاب

يأتي أحد المشاهد التي تكثف تلك المشاعر المتأرجحة، وذلك عندما تكلف فصيلة من الحركيين بتعقب مجموعة من المقاتلين الجزائريين متنكرين في زي مقاتلي جيش التحرير، حيث يتسللون إلى إحدى القرى، ويزعمون لكبير القرية أنهم يريدون الوصول إلى قائد وحدة المقاومين لتوصيل رسالة إليه من القيادة.

هذا التقمص يؤدي إلى تعميق الشرخ النفسي بين الجنود الحركيين، لكن هذا الشرخ سيصبح أكثر عمقا عندما نقفز إلى أوائل الستينيات، وإلى خطاب الرئيس “ديغول” الذي يعلن فيه الاتفاق بين فرنسا وجبهة التحرير على وقف إطلاق النار، تمهيدا لانسحاب الجيش الفرنسي من الجزائر وتسليم البلاد لأصحابها.

هنا يبدأ الحركيون في طرح التساؤلات عن مصيرهم، فما الذي سيحدث لهم خصوصا أن أقرانهم الجزائريين يعتبرونهم خونة، ويطلبون رؤوسهم ثمنا لخيانتهم وتعاونهم مع المستعمر؟

منفى الصحراء.. محاولات يائسة للوفاء بالعهود الفرنسية

تصدر الأوامر العليا بنقل فرقة الحركيين التي نتابعها عبر الفيلم إلى مكان ناء في الصحراء، حيث يقيمون معسكرا يقيمون فيه، والهدف من ذلك أن لا يطلعوا على ما يجري من ترتيبات استعدادا لرحيل الجيش الفرنسي عن الجزائر.

جلب تعاون الحركيين مع المستعمر الفرنسي العار عليهم أمام ذويهم

 

يعترض الضابط “باسكال” على تلك التعليمات، فهو يريد أن يحمي رجاله، وأن يضمن لهم السلامة عن طريق نقلهم إلى فرنسا مع الجيش المنسحب طبقا للوعود الفرنسية الرسمية، لكن القيادة لا يمكنها أن تضمن ذلك رغم كل الوعود التي كانوا يبثونها للحركيين من أنهم سيمنحونهم المواطنة الفرنسية، وأن “ديغول” سيفي بوعوده لهم، وأنهم سيغادرون مع الفرنسيين إلى فرنسا، وهو كما نعلم لم يحدث إلا لأعداد محدودة، بينما كان يتعين على عشرات الآلاف منهم أن يلقوا مصيرهم موتا على أيدي مقاتلي جبهة التحرير، أو يعيشوا حياة الذل والعار في مجتمع الجزائر ما بعد الاستقلال.

يفشل “باسكال” في محاولاته اليائسة لإنقاذ أكبر عدد من الحركيين وضمان انتقالهم إلى فرنسا، لكنه يقع أيضا في مأزق أخلاقي: هل يذكر لهم الحقيقة أم يواصل خداعهم، أم يتركهم لمصيرهم في صمت رغم كل الوعود؟

تجنيد الآلاف في الوقت بدل الضائع.. نفاق السياسة

يسير السرد في الفيلم بدقة شديدة وبمنتهى الحذر، فالمخرج “فيليب فوكون” لا يريد أن يجعل الحركيين بكل بساطة ضحايا يجب أن نتعاطف معهم، فهو يصور من البداية شراستهم في التصدي لأبناء جلدتهم دون رحمة أو شفقة، كما يصور اندفاعهم إلى الجانب الفرنسي لأسباب أنانية، وفي أحيان قليلة استجابة لسياسة التهديد والترغيب.

لكن هدفه الأساسي كشف نفاق السياسة الفرنسية التي مارست الغش والكذب، وتخلت عمن ساندوا سياستها الاستعمارية في الجزائر، وظلت تقوم بشكل أكبر وأكبر بتجنيد عشرات الآلاف من الجزائريين للقتال ضد أقرانهم خلال الفترة الأخيرة من الحرب، وهي تعلم أنها ستتخلى عنهم بعد فترة وجيزة، فقد أدركت فرنسا حتمية الخروج من الجزائر منذ عام 1959، أي مع بداية الأحداث في الفيلم.

لم تفلح حيلة تنكر الحركيين في ثياب المقاومة الجزائرية المسلحة للاحتلال الفرنسي

 

وقد انتهى الحركيون الذين صدقوا المزاعم الفرنسية نهاية سيئة، بل إن من تمكنوا منهم من المغادرة إلى فرنسا ظلوا يعيشون منفصلين عن المجتمع، وسنعرف من خلال ما يظهر من معلومات على الشاشة في نهاية الفيلم أنهم وُضعوا في البداية في معسكرات نائية لعزلهم ومنعهم من الاختلاط مع المجتمع، وظلوا محرومين من العمل والاندماج لسنوات، قبل أن تنفرج الأحوال بعض الشيء، لكن من دون أن تتغير النظرة إليهم داخل المجتمع الفرنسي حتى يومنا هذا.

“الحركيون”.. عمل شجاع يكشف خداع الجمهورية الخامسة

إن فيلم “الحركيون” عمل واقعي صارم وشجاع يكشف آليات المستعمر، وكيف يستغل أبناء البلدان المستعمرة ويخدعهم، ويفضح هزال المزاعم الفرنسية حول حقوق الإنسان.

وقد فضّل المخرج أن يروي قصة فصيلة كاملة من الحركيين، فضلا عن التركيز على شخصية واحدة منهم، لكي يمنحنا صورة أكثر شمولية عن الأسباب المختلفة التي دفعت كلا منهم إلى التطوع في الجيش الفرنسي، كما أراد أن يصور النفسية الجماعية لفصيل كان يقف على الجانب الآخر من التاريخ.

يتميز الفيلم بلقطاته الواقعية الدقيقة لكل تفاصيل الفترة التي يصورها

 

إن شخصية أمين في الفيلم مثلا تجسد شخصية شخص اختار وضلّ الطريق في اختياره هذا، فقد اتخذ الجانب الفرنسي متسقا مع تاريخ عائلته في الانحياز لفرنسا والعمل كمرتزقة، لكنه صدّق أيضا وعود الجمهورية الفرنسية الخامسة مع مجيء “ديغول”، وأنها ستحقق المساواة بين الفرنسيين والجزائريين، وتمنح الجزائريين المخلصين لها المواطنة، وهو ما لم يتحقق بالتأكيد.

“فيليب فوكون”.. ابن لضابط في الجيش وأم مولودة في الجزائر

ولد المخرج “فيليب فوكون” عام 1958 في وجدة الملاصقة للحدود المغربية مع الجزائر، وكان والده ضابطا في الجيش الفرنسي في شمال أفريقيا، بينما كانت أمه من الذين ولدوا على أرض الجزائر وعرفوا باسم “الأقدام السوداء”.

يقول “فوكون” إنه بسبب تاريخ والديه فقد أصبح منذ وقت مبكر واعيا بما حدث هناك، فأمه التي كانت مرتبطة كثيرا بالجزائر قصت عليه أنها كانت تذهب إلى المدرسة مع بعض الجزائريين، وسرعان ما أصبح منهم من التحق بالحركيين، ومن التحق بصفوف جبهة التحرير، وقد سمع منها الكثير عن المذابح التي وقعت، وأعمال العنف التي مارسها الطرفان.

وقد لمس موضوع الحركيين من قبل في فيلمه “الخيانة” (2005)، لكنه أراد أن يتوسع فيه وأن يخصص مساحة أكبر لفهم ما حدث، لذلك جاء فيلمه الجديد “الحركيون” أكثر شمولا ودقة وواقعية.