“يوم النهاية”.. عبث الإنسان يستنفد القطرات الأخيرة من ماء الأرض
قيس قاسم
يحذر الفيلم الوثائقي “يوم النهاية” (Day Zero) من أن البشرية قد تواجه يوما لا تجد فيه ماء يكفيها، وبالتالي يصبح وجودها كله مهددا بالفناء، فبدون هذا المورد الطبيعي لا توجد حياة، ونهايته تعني نهاية الحياة على كوكب الأرض، الكوكب الذي تميز عن بقية الكواكب بوجود المياه العذبة على سطحه وفي جوف تربته، وبفضل هذا المورد عاش الإنسان ملايين السنين.
التحذير من احتمال اختفاء الماء من سطح الأرض هو محور بحث وثائقي أجراه صانعا الوثائقي “فيرجينيا كوين” و”كيفن سيم” مع مجموعة من العلماء المختصين بالمياه يؤشرون إلى حدوث نقص كبير في كمياتها في الطبيعة، ويحيلون سبب ذلك إلى الدور التخريبي الذي يلعبه الإنسان من خلال إهداره للثروة المائية في مشاريع اقتصادية ربحية تؤدي إلى كوارث، مثل الجفاف الذي تشهده مناطق متعددة من العالم، ويهدد بموت الناس وموارد العيش الأساسية.
مياه فلوريدا.. آلاف البحيرات والأنهار عبر ملايين السنين
يذهب صانعا الوثائقي إلى ولاية فلوريدا الأمريكية بصحبة غوّاص مختص بدراسة مياهها الجوفية وكهوفها المائية، ويطلبان منه توثيق المتغيرات التي جرت على طبيعتها من خلال تجربته التي امتدت لعشرين عاما.
يذكر في البداية معلومات عن المياه الجوفية في فلوريدا، وهي تعتبر واحدة من أكبر مصادر المياه الجوفية العذبة في العالم. خلال ملايين السنين تدفقت عبر منابعها مياه حلوة صالحة للشرب والسقي لسكان تلك المناطق، ومن باطنها ولدت آلاف البحيرات وعشرات الأنهر.
يصف الغواص التغيير الذي طرأ على مياه الكهوف وأسطحها، فقد أضحت “مريضة” ولم تعد نظيفة كما كانت، والأخطر أن كمية المياه فيها قلت بدرجة كبيرة وبشكل ملحوظ، والنباتات الموجودة فيها جفت وتغير لونها.
كاليفورنيا.. مسابح وجفاف بولاية تعيش بين البحر والصحراء
لا يعرف الغوّاص الأسباب التي تؤدي إلى نقصان كميات المياه الجوفية في كهوف فلوريدا، لكنه يؤكد حدوث ذلك بشكل مؤلم.
يذهب صانعا الوثائقي للبحث عن الأسباب إلى ولاية كاليفورنيا باعتبارها واحة المسابح المنزلية، وفي طريقهم يذكر لهم عالِم المياه “جاي فاميجليتي” أن عددها يبلغ حوالي 250 ألف مسبح تستهلك طيلة العام كميات هائلة من المياه العذبة، ولأن الولاية تعيش بين البحر والصحراء فإن احتمال تعرضها لموجات جفاف قائم، إلى جانب تسببها في نقص كبير للماء العذب في المناطق المجاورة. ولتأكيد كلامه يذكر لهم حقيقة أن الولاية عاشت جفافا حادا خلال السنوات ما بين 2002-2014 لم تشهد مثله منذ قرون.
لتحديد نسبة الانخفاض الحاصلة في المياه الجوفية في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم، يراجع الوثائقي المعلومات التي يقدمها مشروع “غريس” الذي يستعين بدوره بحصيلة الأقمار الصناعية التابعة لوكالة “ناسا” لعلوم الفضاء الأمريكية، من أجل تحديد المناطق الأكثر جفافا في العالم.
تُظهر الصور الملتقطة عبرها مناطق واسعة من الكرة الأرضية خسرت مياهها الجوفية، وبشكل خاص في منطقة شبه الجزيرة العربية وأفريقيا، وبالتالي فإن حياة ملايين من البشر المعتمدين عليها تصبح مهددة.
تنامي المدن والسكان.. ضغط هائل على المخزون المائي
تعود أسباب نقص مخزونات المدن من المياه الطبيعية -حسب عالِم المياه “جاي فاميجليتي”- بشكل أساسي إلى استخدامات البشر للمياه العذبة لأغراض غير مستدامة، أي لأغراض تجارية، وبشكل خاص مشاريع تربية المواشي العملاقة، إلى جانب وجود سبب آخر يتمثل في ازدياد عدد نفوس سكان الكرة الأرضية بمستويات مرتفعة وسريعة.
كان عدد السكان في ستينيات القرن المنصرم قرابة ثلاثة مليارات نسمة، لكنه يبلغ اليوم ضعف ذلك العدد، وبالتالي لم تعد المياه الموجودة على سطح الأرض تكفيهم، وإليها يُضاف سبب آخر يتمثل بظهور المدن العملاقة التي يزيد عدد سكانها على 10 ملايين نسمة.
قبل ستة عقود كانت مدينتا نيويورك وطوكيو هما فقط اللتين توصفان بتلك الصفة، أما اليوم فهناك عشرات المدن التي يزيد عدد سكانها على 10 ملايين نسمة، ويستهلك سكانها الماء بإفراط، ومن دون تفكير باحتمالات نفاده يوم، بينما تبقى المزارع الكبيرة المستهلك الأكثر له.
كنساس.. وسائل الإنتاج الزراعي تفسد جودة التربة
يزور صناع الوثائقي ولاية كنساس، ويقابلون صاحب مزرعة لتربية الأبقار، ويخبر المخرجيْن بأن المنطقة لوحدها توفر 20% من الإنتاج الزراعي الأمريكي. يملك الرجل 1500 بقرة، ويقول إن هذا العدد ليس بكبير مقارنة بآخرين لديهم ثلاثة أو أربعة أضعاف هذا العدد.
منذ بداية القرن العشرين وبسبب الإنتاج الزراعي الكبير تخسر التربة في تلك المناطق مرونتها وجودتها، ويسبب تيبس أسطحها الخارجية انخفاضا في مقادير المحاصيل ونوعيتها، مما أدى في ثلاثينيات القرن المنصرم إلى أزمة غذائية وخسارة كبيرة للمزارعين.
تاريخيا ظل المزارعون الأمريكيون يعتمدون في سقيهم للأرض على الأمطار ومياه الأنهار، لكن بعد الجفاف العظيم الذي أصاب المنطقة راح الناس يبحثون عن المياه في باطن الأرض، ومنذ ذلك الوقت حتى اليوم يستهلك المزارعون كميات هائلة منه إلى أن بات مهددا بالزوال.
عند هذه النقطة يتوقف عالِم المياه ويؤكد للوثائقي أن المشكلة الحقيقية ليست في استهلاك البشر للمياه لأغراض الشرب، بل في استخدامه لأغراض إنتاجية، وبشكل خاص في الزراعة المعتمدة على التكنولوجيا الحديثة في الري وفي التصنيع الزراعي.
“المشكلة فيما نأكل من مياه”.. استهلاك اللحوم يخنق مخزون الكوكب
لفهم أفضل لتوصيف عالِم المياه “جاي فاميجليتي” للمشكلة، يعمل صناع الوثائقي مع المقدم المستضيف الممثل الأمريكي “شويتل أجيوفور” للتعليق على مجرياته بلغته الجميلة والمؤثرة، بأرقام وإحصائيات تؤكد أن حوالي مليار ونصف المليار من مواشي المزارع تستهلك خمسة أضعاف ما يستهلكه البشر من ماء عذب، وأن 90% من مياه منطقة كنساس على سبيل المثال تذهب لري المزروعات وتربية الماشية.
“المشكلة فيما نأكل من مياه”. يُصر العالِم على هذا التعبير الغريب الذي يرد أثناء تناوله للموضوع، ويربطه بالأرقام، مثل أن شريحة “هامبرغر” واحدة تستهلك أكثر من 2000 لتر من الماء، وشريحة لحم بقر تحتاج إلى 3700 لتر ماء، وأن تربية بقرة واحدة من ولادتها حتى تصبح جاهزة للذبح وعرض لحمها في الأسواق يستهلك ما يعادل استحمام الإنسان لمدة عشر دقائق خلال 130 سنة. المشكلة إذن ليست في مياه الشرب، بل في “الماء الذي نأكله”.
لتقليل استهلاك المياه على البشرية تقليل استهلاكها للحوم، هذه واحدة من الخلاصات التي يخرج بها الوثائقي خلال زيارته لمزارع كنساس، وأيضا على البشرية منع تجفيف مصادر المياه الطبيعية المنبثقة من الغابات المطيرة.
“رئة العالم”.. خطر يهدد متنفس الأرض ومنبع الأمطار
يعتبر عالم البيئة الطبيعة البرازيلي “أنتونيو نويره” الخطر المهدد بوثائقي “يوم نهاية الماء” واقعا وليس كلاما نظريا، وغابات الأمازون مثال ساطع على ذلك. ليعرض فكرته بوضوح أمام الوثائقي يقدم ملاحظة أساسية تشير إلى خطورة الجمع الإيجابي بين الاقتصاد النفعي والمصادر الطبيعية في الأرض. هذه فكرة من ابتكار البشر، وبها مهدوا لاستغلال الطبيعة وتدميرها خدمة لجشعهم.
يعزز العالِم فكرته بإعطاء مثال بدولة البرازيل، ففي العقود الأخيرة احتلت المرتبة التاسعة بين الدول الأكثر نموا، لكن هذا التفوق جاء على حساب الطبيعة، بشكل خاص على حساب حوض الأمازون.
فبالرغم من أن عدد سكان البرازيل قد تضاعف عن ما كان عليه عام 1970، فإن حوض الأمازون خسر مساحات واسعة من غاباته المطيرة، وبسبب ذلك ربما يصبح الأمازون في المستقبل القريب من دون غابات، وبالتالي ستخسر البشرية مصدرا رئيسا من مصادر المياه الحلوة، فعدا كونها “رئة العالم” التي تغذيه بغاز الأوكسجين، فإن أشجارها أيضا تصدر أمطارا للعالم.
تدمير الغابات.. جشع يقتل غيوم الأمازون المدرارة
يؤكد عالم البيئة الطبيعة البرازيلي “أنتونيو نويره” أن كثيرا من الناس لا يعرفون أن تدمير الغابات يؤدي إلى نقص المياه، والدليل العملي على ذلك يظهر بما تعانيه المدن البرازيلية الكبيرة من نقص في كمية الأمطار المتساقطة عليها، ومن شُحّ في مياهها الجوفية، بالرغم من أن البرازيل هي من أكثر دول العالم وفرة للمياه، وحسب قول زعيم قبيلة من السكان الأصليين، فإن “تصحر” الأمازون يبدأ من قطع أشجار غاباته. هذا الفعل سيقلل هطول الأمطار، وعندها لن يبقى للناس ما يشربونه أو يأكلونه.
يخصص العالِم جزءا من حديثه عن الطريقة التي تصنع بها أشجار الأمازون الغيوم المحملة بقطرات الماء المتصاعد من أوراقها، ولهذا تبدو الأمازون بسببها من الخارج وكأنها منطقة تحيط قمم أشجارها طبقات كثيفة من الغيوم البيضاء.
هذه الغيوم هي رافد إضافي للمياه يزيد حجمه عما هو موجود في نهر الأمازون، وإذا انتهى هذا المصدر فإن خطر نهاية مياه الكرة الأرضية يصبح وشيكا، لأن “مياه نهر السماء” تصدر للبشرية ملايين الأطنان من المياه الحلوة.
وبالرغم من كل ما تقدمه الأمازون من خير للبشرية، فالغريب أن أصحاب المشاريع الزراعية الكبيرة يريدون حرمان البشرية منها، وذلك من خلال إقامتهم مشاريع زراعية كبيرة على أرض الأمازون، تبدأ بقطع أشجارها المعمرة لقرون وزراعة محاصيل زراعية مثل الذُرة وفول الصويا مكانها.
معطيات مسح الأقمار الصناعية للحوض تؤكد أن عمليات قطع أشجار مساحات كبيرة من الأمازون جارية بمعدلات كبيرة تهدد بزوالها.
إنقاذ الكوكب.. اصطدام الحل الأخير بتعنت السياسيين
للحد من جشع واستغلال الأثرياء لغابات الأمازون ينشط حماة البيئة ومؤسسات برازيلية معنية بالبيئة لوضع حد لتدميرها، لكن المشكلة التي تواجههم تتمثل في النظام السياسي الحاكم للبرازيل اليوم، فهو يتواطأ مع أصحاب المشاريع التجارية ويشجع على تنفيذها خدمة لمصلحته الخاصة.
هذا يدفع آلافا من المتضررين في الأمازون وفي المدن الكبيرة التي تعاني من شح المطر للخروج في مظاهرات حاشدة تطالب السلطات بحماية الأمازون من “الموت”، لأن موته يعني تهديدا حقيقيا للوجود البشري.
وحسب عالِم الغابات البرازيلي فإن ما ينتظرنا من خسارات جراء ذلك يفوق مئة مرة ما خسرناه في الحرب العالمية الثانية، لهذا يقترح أن يقلل العالم من استهلاكه للحوم، للحفاظ على ما بقي من مياه، كما عليه حماية الأمازون من الضياع والتصحر، والتعامل مع فكرة ترشيد زيادة أعداد السكان باعتبارها مهمة تخص الجميع وليست حصرا بهذه الدولة أو تلك، لأن شح المياه مشكلة كونية تخص الجميع.
فجنوب أفريقيا مثل أستراليا تعاني من مواسم جفاف حادة وشح خطير في مياه الشرب، مثلما تعاني المياه الجوفية في الولايات المتحدة الأمريكية من نقص وتلوث شديدين، كما يؤدي الاحتباس الحراري إلى زيادة درجات الحرارة في مناطق مختلفة من العالم، وكلها تحذر من اقتراب وشيك لنهاية الماء على سطح كوكب تميز عن بقية الكواكب بوفره ما فيه من ذلك السائل العجيب.