“عيون تامي فاي”.. نهاية مُحتالين استغلا الدعوة الإنجيلية لأغراض ربحية

يستغل كثيرون الدعوة الدينية المسيحية (البروتستانتية) من خلال وسائل الإعلام لتحقيق الثراء عن طريق إقناع ملايين الأشخاص بالتبرع للكنيسة أو للقناة، أو شبكة القنوات التلفزيونية التي تبث دعوات مستمرة تدعو مشاهديها إلى إقامة علاقة مباشرة بين الفرد كمسيحي مؤمن وبين المسيح.

ويمكن أن يقع الداعية الذي يتصدى لمثل هذا العمل سواء عن إيمان أو عن تظاهر في المحظور، فينحرف ويختلس ويرتكب كثيرا من المخالفات الأخلاقية كما حدث في مرات كثيرة.

هذا هو تحديدا موضوع الفيلم الأمريكي الجديد “عيون تامي فاي” (The Eyes of Tammy Faye) الذي أخرجه “مايكل شوولتر” عن سيناريو “أبي سيلفا”، وقامت ببطولته “جيسيكا شاستين” التي نالت عن دورها فيه جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة هذا العام.

“التبشير التلفازي”.. تشويه كلمة الله باستغلال الدين

في الولايات المتحدة الأمريكية ظاهرة منتشرة بكثرة، وهي ظاهرة الفكر الإنجيلي البروتستانتي الخاص الذي يرى أن خلاص الإنسان المسيحي يرتبط أولا وأخيرا بحبه للمسيح، وكيف أن “الرب” يستجيب له، يسامحه ويغفر له كل خطاياه مهما كانت.

هذه الحركة المسيحية تسمى “الإنجيلية” (Evangelicalism)، وهي منتشرة بدرجة كبيرة في عموم أمريكا، أما الترويج لها عبر قنوات التلفزيون فيسمى “التبشير التلفازي” (Televangelism).

ورغم شيوع الظاهرة التلفزيونية التي امتدت إلى مئات القنوات، فإنها تلقت أيضا الكثير من الانتقادات من جانب أطراف مسيحية أخرى رفضت الاعتراف بأن لها أي علاقة بالروحانيات المسيحية، واتهمت القائمين عليها بتضليل المشاهدين واستغلال الفقراء، والترويج لحلم الثراء الكاذب، وجني الثروات لأنفسهم، وبالتالي تشويه كلمة الله بالسعي المحموم من أجل اكتناز المال. وهذا هو الموضوع الذي يتناوله الفيلم.

“تامي”.. أسرار القديسة الممنوعة من دخول الكنيسة

إننا نتابع قصة حقيقية وقعت فصولها على أرض الواقع في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، وانتهت بفضيحة كبرى وسقوط مدوٍ، لكن من خلال شخصية “تامي فاي”، وهي الطرف الثاني في الثنائي الشهير مع زوجها “جيم باكر” (الممثل الإنجليزي أندرو غارفيلد).

يبدأ الفيلم وهي طفلة في التاسعة من عمرها في عام 1952، فهي تنتمي لأسرة مكونة من زوج أمها الطيب القلب الذي لا يتحدث كثيرا، وخمس أخوات وأم مهيمنة صلبة بروتستانتية متشددة، لديها شعور بالذنب بسبب ماضيها، فهي لا تتمتع بسمعة جيدة لدى الكنيسة، لكونها تزوجت وطلقت أكثر من مرة، لكنها رغم ذلك تعزف البيانو بانتظام داخل الكنيسة، وتقول لابنتها “تامي”: إنهم يسمحون لها بدخول الكنيسة فقط لأنهم لم يجدوا أفضل منها في العزف على آلة البيانو.

تامي فاي كانت تعشق الملابس الغالية والفراء بوجه خاص

أما “تامي” فهي محظورة من دخول الكنيسة لكونها جاءت من زواج سابق، إلا أنها تنجح في نيل الاعتراف من الكنيسة بعد أن تتقمص شخصية “قديسة” صغيرة يمكنها أن تأتي بالمعجزات وتتحايل وتحتال، فتقنع القس بأنها يمكن أن تكون مفيدة في إقناع الآخرين.

ألاعيب الدعوة الإعلامية.. قصة ثنائي استغلا الدين لتحقيق الأرباح

الفيلم مبني على فيلم تسجيلي بالعنوان نفسه عُرض عام 2000، وكان يروي باستخدام الصور والوثائق المصورة قصة الثنائي “تامي فاي” و”جيم باكر”، وقامت الممثلة “جيسيكا شاستين” بشراء حقوق استغلاله وتحويله إلى فيلم روائي.

ويصور الفيلم قصة صعود وسقوط الثنائي الذي حقق شهرة كبيرة في عموم الولايات المتحدة في مجال الدعوة المسيحية من خلال وسائل الإعلام الحديثة، ويروي نشأة العلاقة بين “تامي” التي لم تكمل تعليمها، و”جيم” دارس اللاهوت المسيحي الذي ستتزوجه بعد أن تكون قد بلغت السابعة عشرة من عمرها.

ويصور الفيلم وقائع القصة التي امتدت طوال عقدين أو أكثر من خلال ما تراه “تامي” نفسها، وبتركيز خاص عليها، ويقول الفيلم إنها بشكل ما أغمضت “عينيها” عن رؤية الحقيقة، أي كيف كان “جيم باكر” من البداية مخادعا محتالا ولم يكن يحبها كما ادعى، بل كان يسعى لاستغلال مواهبها في الأداء أمام الكاميرا وطفوليتها وحسها الفكاهي، وكيف أنها رغم إيمانها بما تفعله خضعت أيضا لإغراء المال، ووقعت في شراك شهوة الإثراء واقتناء الملابس الغالية، وحب الظهور على غرار نجوم السينما.

“فلتمجد الرب”.. رحلة إلى القصور من تبرعات “المؤمنين”

في البداية وهي لا تزال شابة في عمر الزهور نرى “تامي” تبتكر وسيلة للدعوة الإنجيلية باستخدام الدمى التي تحركها بيديها وتقلد أصواتها (أسلوب التحريك)، وهذه الطريقة يجدها “جيم” طريقة جذابة يمكن أن تلقى صدى جيدا لدى الأطفال.

الظهور الأول على شاشة التلفزيون للثنائي “تامي فاي” و”جيم باكر”

وسرعان ما يظهر الاثنان في فقرة تلفزيونية في إحدى القنوات الدينية الصغيرة، يلتقيان ذات يوم بالقس “بات روبرتسون” مؤسس شبكة “سي بن إن” (CBN) التي تروج للفكر البروتستانتي المحافظ، وكان أيضا عضوا في الحزب الجمهوري، ويبدي اهتماما بالعرض الذي يقدمه الثنائي، ويعرض عليهما الانتقال لتقديم برنامج في قناته التلفزيونية المدعومة من قبل القس والداعية البروتستانتي المحافظ “جيري فالويل”، وهو أحد أشهر وأكبر الدعاة عبر شاشة التلفزيون.

يحقق الاثنان نجاحا كبيرا بفضل موهبة “تامي فاي” الطبيعية -من صغرها- في مجال الاستعراض والأداء التمثيلي الحركي، مع قدرة خاصة على الإقناع وجذب المشاهدين. ومع زيادة عدد المشاهدين المسيحيين الذين يتبرعون للقناة، يقرر الاثنان الاستقلال وتأسيس ما يطلقان عليه نادي “بي تي إل” (PTL)، وهي الحروف الأولى من عبارة “فلتمجد الرب” (Praise The Lord).

وبفضل أموال التبرعات التي تنهال عليهما من “المؤمنين”، تتوسع الشبكة التلفزيونية التي يمتلكانها وتبث إلى 56 بلدا، ويصل عدد مشاهديها إلى 13 مليون شخص، ويزداد بالتالي تدفق التبرعات، وينتقل الاثنان من الحياة المتواضعة إلى شراء البيوت الفاخرة والملابس والمقتنيات الثمينة.

فضائح العلاقات الجنسية الشاذة.. مفترق طرق عنيف

لا تسير العلاقة بين “تامي” و”جيم” في طريق مستقيم، فهو -كما نرى في الفيلم- لديه ميول شاذة، ويميل للرجال كما يميل للنساء، و”تامي” ترى ذلك وتلمسه، وهو ما يترك تأثيرا كبيرا على علاقتها به، وكما يخدعها ويقيم علاقات نسائية أخرى، فهو أيضا يستغل أموال التبرعات التي يجب أن توجه لخدمة الكنيسة لحسابه الشخصي، فيشتري بيتا فخما في جنوب كارولينا، ويتطلع إلى إقامة حديقة تسلية ضخمة، بل ومدينة كاملة للأطفال على غرار “ديزني لاند”، وبالتالي تثار التساؤلات في الصحافة حول مصدر كل تلك الأموال التي ينفقها، وما الذي يحصل عليه “جيم” منها، وهل تعرف “تامي” بما يجري من حولها أم أنها لا تعرف، وإن كانت تعرف فلماذا أغمضت عينيها؟

تحمل “تامي” بطفل من “جيم”، لكن علاقتهما تفتر بعد أن يتبعد عنها ويفضل استئجار شقة يقيم فيها مع مساعده الشاب، وحينها تتأثر “تامي” فتبدأ علاقة عابرة لا تستمر مع عازف بيانو يعمل معها في العرض التلفزيوني الذي تقدمه وتغني فيه الأغاني الدينية.

هذه العلاقة تؤثر أيضا على علاقتها بـ”جيم” الذي من الواضح أنه شاذ مزدوج الهوى، وهو ما ستكشف عنه الصحافة فيما بعد، لكن الأهم أنها ستكشف فضيحته الجنسية النسائية، أو كيف أقام علاقة جنسية مع امرأة، ثم أصبح يتعين عليه أن يدفع لها مبلغا كبيرا من أموال التبرعات لكي تصمت ولا تتحدث إلى أجهزة الإعلام، لكنها لم تسكت كما يقول هو.

أما ما لا يقوله الفيلم فهو ما تردد في الصحافة وقتها أنه ارتكب فعل الاغتصاب الجنسي، وليس مجرد إقامة علاقة جنسية مع تلك المرأة التي ابتزته ثم فضحته، وقد نفى “جيم” التهمة ولم يحاكم عنها، لذلك فقد تجنب الفيلم ذكرها بشكل واضح.

مقابلة القس الشاذ.. قشة قصمت ظهر البعير وأغضبت الكنيسة

تبدأ الصحف بعد ذلك في نشر كثير من الأخبار والتقارير حول انحرافات جماعة “فلتمجد الرب”، وتتأثر سمعة الثنائي لدى الكنيسة، وخصوصا القس المتزمت “جيري فالويل”، إلا أنه يعلن لـ”جيم” أنه سيقف معه حتى النهاية.

لكن “تامي” التي تريد اكتساب الشعبية ترتكب “غلطة الشاطر”، وهي كما نعرف بألف غلطة، وذلك عندما تستضيف قسا يدعى “ستيف بيترز” لتجري معه مقابلة تليفزيونية عن بعد، ويتحدث خلالها عن شذوذه الجنسي، وكيف أنه كان يقاوم تلك النزعة الشاذة عنده بكل قوة، لكنه لم يستطع أن يكبح جماح نفسه، وعندما ذهب واعترف لرئيسه في الكنيسة التابع لها طلب منه القس أن لا يخبر أحدا بالحقيقة أبدا، لكنه الآن يشعر بأنه يجب أن يتحدث، خصوصا بعد أن ثبت أنه مصاب بمرض فقدان المناعة الطبيعية (الإيدز)، وقد تنتهي حياته في أي لحظة.

خلال المقابلة تبدي “تامي” تأثرها الشديد بما يقوله الرجل، وتتعاطف معه، بل وتبدي رغبتها في أن تقابله وأن تحتضنه، الأمر الذي يُحدث رد فعل سلبي من جانب القس المتزمت “فالويل”، فيقرر أن يتخلى عن دعم الزوجين، بل ويشن حملة شعواء ضدهما في وسائل الإعلام، ويصفهما بالانحراف عن المسيحية الحقة، فيكون السقوط.

تامي تجري المقابلة التلفزيونية التي أسقطت غطاء الدعم من الكنيسة

يُقبض على “جيم” ويُحاكم بتهمة الاستيلاء على أموال الكنيسة، أما “تامي” فتبقى بعيدة عن الاتهام، ويقع الطلاق بينهما بعد سنتين من سجن “جيم”.

“تامي”.. من ممثلة في هوليود إلى داعية دينية

كانت “تامي فاي” منذ البداية فتاة استعراض، وكانت تمثل ببراعة دور المؤمنة بما تقوله وتفعله، وبالدعوة إلى الإيمان، وهي تستغل موهبتها في التمثيل لإقناع الملايين بأن المسيح يحبهم طالما أنهم كرماء، وأنه يريد لهم الخير، ولا يقف ضد أي شخص ثري، بل يريد الثراء للجميع، وليس من العيب أن تكون ثريا وأن تكتنز المال، وغير ذلك من التعاليم التي تتنافى مع صورة الزهد الروحاني المسيحي.

ولأنها وجدت نفسها في حاجة للعمل والمال، فقد ذهبت إلى هوليود لعمل اختبار في التمثيل، فهي تريد أن تصبح ممثلة تستغل شهرتها لكنها فشلت، ثم قبلت بعد تردد كبير بالظهور كداعية دينية أمام طالبات إحدى المدارس الدينية، وحينها تلقى قبولا وتعود إلى مزاولة هوايتها القديمة.

أما “جيم” فنعرف من خلال المعلومات التي تظهر على الشاشة في نهاية الفيلم أنه غادر السجن عام 1992، وعاد لإحياء شبكة “بي تي إل” (PTL) قبل أن يتقاعد بعدة سنوات، وقد توفيت “تامي” عام 2007، وأما “جيم” فما زال على قيد الحياة.

دعم السيناريو.. موقف مشوش وانحياز للشواذ

من المشاكل التي تتعلق بسيناريو الفيلم فشله في أن يتخذ موقف واضحا من “تامي فاي”. هل هي صادقة فيما تفعله وقد ظلت كذلك، أم أنها استمرأت “اللعبة” واستغلت شهرتها وتأثيرها لأغراض شخصية متغاضية عن تجاوزات كثيرة من جانب زوجها؟

المشكلة أن الفيلم يظل إلى جانبها حتى النهاية، أي يعتبر إعادة تأهيل لها أمام الجمهور الأمريكي الذي تابع القضية.

الواضح أن هناك تركيزا كبيرا على انحيازها للشواذ ودفاعها عنهم، حتى لو كان ذلك ضد الأفكار الراسخة التي تتبناها الكنيسة، وهنا يصبح غرض الفيلم تبرئة “تامي فاي” من جهة، وتقريبها من الذهنية السائدة من جهة أخرى.

زينة البطلة.. مبالغات في التقمص تنتزع الأوسكار

يركز مخرج الفيلم كثيرا على ولع بطلته بالزينة، بتغريب وجهها، وباستخدام الصبغات اللونية والرموش الصناعية والعدسات اللاصقة، بحيث تبدو “تامي فاي” كلما تقدمت في العمر أصبحت كالدمية.لكن المكياج في الفيلم لا يقتصر على تجسيد تلك المبالغات في الشكل التي كانت تولع بها “تامي”، فهي تريد أن تبقي من خلالها على طفولتها، بل هناك أيضا دور كبير للمكياج في تحويل ملامح الممثلة المعروفة “جيسيكا شاستين” وجعلها تشبه في ملامحها شخصية “تامي فاي” الحقيقية.

الممثلة جيسيكا شاستين حصتل على جائزة الأوسكار عن أدائها بدور “تامي فاي”

وكانت الممثلة تقضي يوميا في غرفة المكياج أكثر من 4 ساعات قبل بدء تصوير مشاهدها، كما كانت ترتدي قناعا خاصا على وجهها، وفي بعض المشاهد كانت تستعين بأسنان صناعية لكي تحاكي شكل “تامي فاي” في مرحلة معينة من حياتها.

والحقيقة أن “جيسيكا شاستين” تبرع كثيرا في أداء دورها، وتتقمص جيدا طريقة “تامي فاي” في الضحك والحديث السريع بصوت مكتوم، وكلما رددت عبارة تضحك بعدها مباشرة من دون سبب، كما أنها بدت مدهشة وهي تتقمص الشخصية منذ مرحلة مبكرة من حياتها، وهي بعد في سن المراهقة، لدرجة أننا كمشاهدين لم نستطع التعرف عليها بسهولة، خصوصا وأن الممثلة كانت وقت تصوير الفيلم قد جاوزت الأربعين من عمرها.

وقد استحقت بأدائها المعبر القوي جائزة الأوسكار التي انتزعتها انتزاعا في منافسة شديدة، كما استحق الفيلم الحصول على جائزة المكياج.


إعلان