“العيش في درجة 50 مئوية”.. وحوش الحرائق والصناعة تلتهم أرزاق المزارعين

يراقب الوثائقي البريطاني “العيش في درجة 50 مئوية” (Life at 50 Degrees) تأثير الاحتباس الحراري والمُتغيّرات المناخية على المناطق الحارة من الكرة الأرضية، وكيف أدت زيادة معدلات الأيام التي تبلغ فيها درجة الحرارة 50 درجة مئوية عن مستوياتها الطبيعية؛ إلى بروز مصاعب حياتية واقتصادية لسكانها، إضافة إلى تسببها في كوارث بيئية.

كما يظهر من خلال تجوال الوثائقي في مناطق جغرافية واسعة تمتد من أستراليا، حيث تتعرض غاباتها إلى حرائق كبيرة تجبر الناس المقيمين بقربها للهروب إلى مناطق أبعد، مرورا بالكويت والعراق، حيث الجفاف الناتج عن زيادة معدلات الأيام الحارة فيها، والتي تزيد عن 50 درجة مئوية في الظل، مما يدفع المزارعين إلى ترك زراعتهم والتفكير بالهجرة إلى المدن، وصولا إلى مناطق في أفريقيا مثل موريتانيا ونيجيريا، حيث يجبر شُحّ الماء وقلة المطر سكان القرى على التفكير بالرحيل من مناطقهم والبحث عن مصدر رزق لهم في السواحل البحرية، بدلا من الاعتماد على المراعي التي تزداد جفافا بسبب الحر الشديد، ويصبح العيش فيها مستحيلا.

عند تلك النماذج وغيرها يتوقف الوثائقي ليراقب التحولات الدراماتيكية الجارية في حياة الناس بسبب التَغيرات المناخية التي يتسبب الإنسان فيها عبر إخلاله المستمر بالتوازن الطبيعي القائم منذ ملايين السنين.

فكتوريا الأسترالية.. حرائق لم يرَ الناس مثلها من قبل

ينقل الوثائقي تجارب بعض سكان منطقة غيسلاند في ولاية فكتوريا الأسترالية، فبسبب بلوغ درجات الحرارة فيها إلى أكثر من 40 درجة مئوية لأيام أكثر من المعتاد سابقا، فإنهم أصبحوا يعيشون في خوف مستمر من احتمال نشوب حرائق كبيرة في غاباتهم. حرائق تأتي على الأخضر واليابس كالتي يشاهدونها في السنوات الأخيرة، ولم يروا مثيلا لها من قبل.

تزامن وصول فريق العمل إلى المنطقة مع نشوب حريق هائل فيها أحال لون السماء الأزرق إلى الأحمر القاني، وغطت سُحب الدخان الأسود المتصاعدة منها أشعة الشمس.

يقابل صُنّاع الوثائقي فتاة من المنطقة أصرّت على البقاء فيها رغم تعرضها المستمر للحرائق، وذلك بسبب كثرة الأيام الحارة التي تشير الإحصائيات الرسمية إلى ارتفاع معدلاتها بشكل غير مسبوق، فعدد الأيام التي تصل فيها الحرارة أكثر من 36 درجة مئوية في الظل؛ تضاعفت في أستراليا خلال السنوات الأخيرة ستة أضعاف عن ما كانت عليه من قبل.

حرائق في ولاية فكتوريا الأسترالية لم ير الناس مثلها من قبل

يرافق الوثائقي عائلة اضطرت إلى ترك بيتها بعد أن أتت عليه النيران بالكامل، إحساس أفرادها بالضياع ناتج عن فقدانهم كل ما كانوا يملكون، لكن الرغبة في العودة إليه ثانية ما زالت قوية عندهم، رغم معرفتهم بأن الحرائق لن تخف حدتها ما دامت درجات الحرارة في ارتفاع مستمر عن مستوياتها العادية، وقد صاروا يدركون جيدا أن التَغيّرات المناخية هي التي تقف وراء ذلك، وبالتالي فمشكلتهم وحلها مرتبط بعوامل خارجة عن إرادتهم.

نيجيريا.. تهلكة بين شح الماء وجفاف المحاصيل

يترك وثائقي هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” أستراليا ويتوجه مخرجه “ناماك خوشناو” إلى نيجيريا، حيث يواجه سكان قرية كيلانكوا صعوبات في الحصول على المياه الارتوازية.

يتوقف المخرج عند مجموعة من رجالها يقومون بحفر بئر جديد بدلا من بئر القرية القديم الذي جف بالكامل، ففي السنوات الماضية وعند مواجهتهم موسما جافا يقل فيه هطول المطر كانوا يلجأون إلى حفر الآبار للحصول على المياه، يتذكرون أنهم كانوا يصلون إليها بعد حفرهم بضع أمتار قليلة، أما اليوم فهم يواصلون الحفر إلى عمق 10 أمتار من دون نتيجة، كما أن العمل في هذا العمق يكون صعبا لشدة ارتفاع الحرارة داخل البئر الضيق.

يتحدث شبان من المتطوعين لحفر البئر مع فريق عمل الوثائقي، ويشكون لهم من التَغيّرات المناخية الحاصلة التي تُسبب لهم مشاكل كثيرة، من بينها تغيير مواعيد المواسم السنوية، ففي السنوات الأخيرة لاحظوا ارتفاعا غير طبيعي لدرجات الحرارة في شهر مارس/آذار، الأمر الذي يسبب جفاف المحاصيل الزراعية وتوقف نموها.

في نيجيريا شبان من المتطوعين لحفر البئر يبحثون عن الماء في أعماق الأرض الساخنة

شُح الماء وقلة المحصول الزراعي تدفع الناس إلى التوجه نحو قطع الأشجار وبيعها في الأسواق. إنه عمل من شأنه أن يفاقم المشاكل البيئية ويزيد من نسبة التصحر الحاصل أصلا بسبب ارتفاع معدلات الأيام الحارة.

كل ذلك يدفع جيل جديد من النيجيريين المشتغلين في الزراعة إلى ترك أراضيهم والبحث عن مناطق أخرى ربما تجود عليهم بماء أكثر.

موريتانيا.. استخراج الملح في حرارة الصحراء المشتعلة

مثل النيجيريين يواجه الموريتانيون تقريبا نفس المشاكل البيئية، ففي منطقة الزويرات مثلا يعتمد السكان على استخراج الملح من الصخور وبيعه في الأسواق، لكنهم يواجهون صعوبة في العمل وسط الأراضي المكشوفة، وذلك في ظل ارتفاع درجات الحرارة بشكل لا يطاق.

يقول أحد المشتغلين في المهنة إن الحرارة مرتفعة لدرجة أنك لو سكبت ماء على الأرض لجف في الحال. وللهروب من شدة الحرارة، فإنهم يضطرون للعمل فقط في ساعات الصباح الأولى، لكن قلة ساعات العمل تؤدي إلى قلة ما يحصلون عليه من الملح، وبالتالي فإن مكاسبهم تقل وتكاد تزول.

العاملون في الزراعة والرعي يواجهون نفس الصعوبات، حيث يلجأ راعي ماشية إلى تقديم الورق (المقوى) لأغنامه، بدلا من الأعلاف الطبيعية التي اختفت بسبب الحر. اللافت في حديثه مع فريق الوثائقي إدراكه الكامل للعوامل المسببة للتَغيّرات المناخية، مما يشي بوعي جيد للأخطار المحدقة بهم وبباقي المعمورة.

إتماما للمشهد الأفريقي يتابع الوثائقي مسار الموريتاني الباحث عن الملح عبر مرافقته خلال موسم كامل يضطر في نهايته إلى ترك عائلته والسفر إلى مدينة ساحلية بعيدة، أملا في الحصول على عمل هناك يؤمّن به عيش عائلته بعد أن أضحى العمل في مدينته لا جدوى منه.

رحلة الموريتاني من الصحراء إلى الساحل بحثا عن الرزق

تصعد كاميرات الوثائقي معه في رحلته في القطار الأطول في العالم، وينزل معه في ميناء نواذيبو المكتظ بأمثاله من الرجال الذي أجبرهم الجفاف وشدة ارتفاع الحرارة في مناطقهم الزراعية؛ إلى البحث عن عمل بديل في السواحل الأقل حرارة في العموم، والتي ما زالت مصدرا طيبا لصيادي الأسماك.

بلاد الرافدين.. مزارع الشعير والحنطة في مهبّ الريح

في ناحية الشنافية بمحافظة الديوانية العراقية يقابل الوثائقي أحد أصحاب المزارع ويسأله عن أحواله، وتوضح إجابات الرجل -الذي يرافقه الوثائقي في حقله- حال الزراعة العراقية في ظل الارتفاع الكبير في درجات الحرارة التي يشهدها البلد في السنوات الأخيرة، مما يحيل الزراعة فيه إلى عمل غير مجدٍ اقتصاديا.

قبل الاستماع إلى آرائه يقدم الوثائقي حقيقة أن العراق شهد خلال هذا العام 26 يوما بلغت الحرارة فيها أكثر من 50 درجة مئوية في الظل، مما أثر سلبا على إنتاجه الزراعي، وبشكل خاص في محصولي الحنطة والشعير.

يعرض المُزارع العراقي أمام الكاميرا نماذج من محصوله من الحنطة، ويؤكد تراجع نوعيتها بشكل ملحوظ، وبالتالي فكل الجهد الذي بذله خلال الموسم ذهب أدراج الرياح، يتألم المُزارع للحال التي وصلت إليها الزراعة في ناحيته، والتي تدفع أولاده للتفكير ببيع أراضيهم والهجرة إلى المدن، ويشعر بفداحة الخسارة ويتألم، فالأرض عزيزة على قلبه، وربما حسب تعبيره أعز حتى من أولاده.

يدرك الرجل تأثير المتغيرات المناخية على جو العراق، لهذا يدعو الحكومة إلى اعتبار الأراضي الزراعية العراقية أراضي منكوبة جديرة بالدعم والمساعدة، وذلك حتى لا يتحول العراق إلى صحراء قاحلة.

المزارع العراقي يصف الأراضي العراقية بالمنكوبة بسبب شُحّ المياه والجفاف التي سببها ارتفاع الحرارة

في الوقت نفسه يلمح إلى بروز واقع جديد يشجع على ترحيل الفلاحين من أراضيهم، فشُحّ المياه والجفاف بسبب ارتفاع درجات الحرارة يدفع حوالي ثلثي المزارعين العراقيين لبيع أراضيهم وهجرها، بينما تتسابق شركات إنتاج النفط لشرائها أملا في العثور على النفط في باطنها.

نهر كولورادو.. حواجز الصناعة الأمريكية تقتل حضارة عريقة

إذا كانت العوامل المناخية المتأثرة بفعل الإنسان وتدخله سلبا فيها سببا أساسيا في الكوارث البيئية التي تشهدها البشرية، فإن هناك عوامل أخرى جيوسياسية تلعب دورا في تفاقم الجفاف في مناطق مختلفة من العالم، كما يحدث لنهر كولورادو في المكسيك.

فقد كان لآلاف السنين مصدرا من مصادر عيش شعب كوكابا، أما اليوم فيجدون أنفسهم من دونه كالسمكة من دون ماء على حد تعبير ناشطة مكسيكية تُطالب السلطات الأمريكية برفع الحواجز الصناعية التي بنتها في طريقه، ومنعت المياه من الوصول إلى مناطقهم.

فرحة المكسيكيين بعودة مياه نهر كولورادو بعد أن أفرجت الولايات المتحدة عن المياه لتتدفق إلى اليابسة مجددا

تقدم الناشطة البيئية عرضا للوثائقي عن حال المنطقة بعد توقف مجرى النهر، إلى جانب الجفاف الذي لحق بالمزارع جراء الارتفاع الحاد في معدلات الأيام الحارة التي بلغت الحرارة فيها أكثر من 50 درجة مئوية.

خسارة النهر بالنسبة للسكان الأصليين من شعب كوكابا يعني خسارة حضارة وثقافة ومصدر عيش، فالنهر الذي يربط المكسيك بالولايات المتحدة الأمريكية كان مصدرا حيويا وأساسيا لعيش الصيادين، وكان مرتعا للعب الأطفال ولهوهم، أما اليوم وبعد أن جف فلا أسماك فيه، ولا يمكن للأطفال السباحة فيه.

عودة الحياة.. نضال الشعوب الأصلية ضد السدود العملاقة

تُشير المعطيات المقدمة في الوثائقي إلى النتائج الكارثية جراء بناء الولايات المتحدة سدودا عملاقة بالقرب من الحدود، إذ أدت إلى تقليص حجم المياه الواصلة إلى تلك المنطقة، بحيث لا تتعدى اليوم أكثر من 10% من الكمية الأصلية التي كانت تصل إلى المنطقة قبل بناء السدود في الجانب الأمريكي.

خلال وجود فريق عمل الوثائقي في المكان، وبعد نضال جدّي قاده سكانها؛ قررت الولايات المتحدة الإفراج عن كميات من المياه لتتدفق مجددا في الأراضي اليابسة، وتُعيد الحياة ليس للنهر فحسب، بل لشعب أصلي عاش آلاف السنين على ضفافه، وصار النهر جزءا من ثقافته وموروثه الحضاري.