“الصين في القطب الشمالي”.. طموحات خلف الكواليس سعيا للسيطرة الناعمة
يُعاين المخرج الفرنسي “أوليفييه تروك” توجه الصين نحو القطب الشمالي، وذلك في محاولة منها لإيجاد موضع قدم في منطقة شديدة الأهمية لن يكتمل توجهها لتكريس نفسها كدولة عظمى بدونها، ولهذا السبب عملت على فتح منافذ لها بين الدول القطبية من خلال مشروعها الطموح المسمى “طريق الحرير القطبي الجديد”.
بالمقابل يشكك الغرب في توجهاتها المعلنة، ويعتبرها إستراتيجية صينية طموحة تريد من خلالها تحقيق مكاسب جيوسياسية تسمح لها بإقامة قواعد عسكرية تشكل تهديدا لدول تلك المنطقة التي تعتبر وجود الصين فيها هجينا، كونها لا تقع ضمن حزام حدودها الجغرافية، وانطلاقا من هذا الموقف، وحتى لا تثير حفيظة تلك الدول؛ تتبع القيادة الصينية أسلوبا ناعما في تحركها تخفي به طموحاتها الحقيقة.
ذوبان الثلوج.. مبررات التغلغل الصيني في الشمال القطبي
يعتبر الوثائقي الفرنسي “الصين في القطب الشمالي.. طموح خلف الكواليس” (La Chine en Arctique: les coulisses d’une ambition) ظهور السفينة “يونغ شينغ” عام 2013 مؤشرا على ذلك التوجه الطموح، وبالنسبة لقادتها فقد اعتبروه حدثا تاريخيا، لكونها أول سفينة لنقل البضائع تصل إلى القطب الشمالي عبر أوروبا، وتمهد عمليا لفتح “طريق الحرير القطبي الجديد”.
تقدم الصين السفينة للعالم باعتبارها “مركز أبحاث متنقل”، متذرعة بحاجتها إلى مزيد من البحوث والدراسات الخاصة بالمتغيرات المناخية في القطب، إذ تؤثر سلبا على مدن صينية كبيرة مثل شنغهاي.
يعرض الوثائقي وجهات نظر علماء صينيين يؤكدون تضرر المدينة الساحلية واقتصادها بسبب الفيضانات المتكررة جراء ذوبان ثلوج القطب بمعدلات غير طبيعية، مما يثير قلقا عند سكانها، وتبرز معه حاجة لدراسة أسباب الظاهرة، وإيجاد حلول علمية لها تسهم السفينة الصينية وكادرها العلمي في تحقيقها.
اختراق حدود الغرب.. وجه آخر للاستكشاف القطبي
تطرح الصين نفسها أمام العالم كمساهم قوي في حماية القطب، وأيضا كمستثمر اقتصادي نزيه في الدول القطبية، وتتذرع في نشاطها بحجة قربها الجغرافي من القطب، وبالتالي فهي معنية بتغيراته المناخية، وبإيجاد حلول لها.
لكن دول تلك المنطقة وبشكل خاص الولايات المتحدة يشككون بنواياها المعلنة، معتبرين وجودها غير واقعي لابتعادها جغرافيا عن القطب بمسافة 1500 كيلومتر مربع، وأن تسمية نفسها بـ”دولة شبه قطبية” يُراد به التسلل والاقتراب من حدود دولها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية (ألاسكا) والنرويج والدنمارك (جزيرة غرينلاند) وكندا والسويد وفنلندا وآيسلندا.
يحدد الإستراتيجيون المشاركون في الوثائقي ثلاثة أهداف للصين من وراء وجودها في القطب، وهي الدوافع الأمنية، والاستحواذ على ثرواته الطبيعية، وإقامة مراكز للبحوث الاستراتيجية فوق ثلوجه.
فرنسا والصين.. اتفاق يكسر هيمنة أمريكا وبريطانيا
يراجع الوثائقي مساعي الصين لإيجاد موطئ قدم لها في القطب من خلال النشاط البحري والعلمي، فقبل 30 سنة كانت إمكانيتها في هذا الحقل بسيطة، وحتى عام 1989 كان لديها مركز أبحاث واحد فقط مختص بالقطب، ولديها كاسحة جليد واحدة اشترتها من أوكرانيا مستخدمة. رغم ذلك احتفت القيادة الصينية بوجودها واعتبرتها مؤشرا على اهتمامها بالقطب، ووضعه ضمن أولوياتها المستقبلية.
وفيما يتعلق بوجودها بين الدول القطبية، يراجع الوثائقي الفترة التي أرادت فيها فرنسا كسر الاحتكار الأمريكي والبريطاني على الخطوط البحرية القطبية، من خلال فتحها في بداية عشرينيات القرن المنصرم الباب مشرعا أمام دول من خارج الدول القطبية للانضمام إلى معاهدة التجارة الخاصة بالممرات البحرية القطبية، وهي تجيز للصين وغيرها من الدول الاستثمار فيها.
معظم بنود الاتفاقية التي وقعتها الصين الشعبية حينها أَلغتها الصين الماوية (عهد ماو تسي)، لكنها حرصت على توقيع معاهدة عام 1991 مع الفرنسيين، ووفقها قامت بنصب محطة ثابتة لها أطلقت عليها اسم “محطة النهر الأصفر القطبي”.
هذه المعاهدة والمحطة فتحا لها منافذ على الدول القطبية التي راحت تغريها بإقامة مشاريع اقتصادية كبيرة تساهم في تطوير وإنعاش مناطقها القطبية، وما إن حل عام 2004 حتى تقدمت الصين من منطقة سفالبارد القطبية التابعة للنرويج، عارضة عليها إقامة مشاريع مشتركة معها.
الدبلوماسية القطبية.. إغراء ناعم في الغرب وتهديد خشن في الشرق
في كل تحركاتها لإغراء دول المنطقة القطبية، استخدمت الصين تكتيكات أطلق عليها الخبراء “الدبلوماسية القطبية”، لكنها لم تفلح تماما، لأن الشكوك المحيطة بنياتها كانت تتعزز بسبب سياستها وتدخلاتها في شؤون دول بحر الصين الجنوبي.
هناك تحاول فرض سيطرتها على جيرانها بالتهديد واستخدام القوة، أما في القطب فتحاول التسلل دبلوماسيا من خلال تقديم نفسها كطرف لا يريد من وراء وجوده منفعة، أو أنه يخفي أهدافا سياسية وعسكرية.
لمعرفة الأهمية التي تكتسبها الخطوط البحرية القطبية يقدم الوثائقي شروحات غنية مدعومة برسومات توضيحية ومعطيات رقمية تسهل على المتلقي فهم أهميتها، ولماذا لا تريد الولايات المتحدة الأمريكية مشاركة الصين لها في تلك الطرق الحيوية.
نمو الاقتصاد.. فرار من الهيمنة الأمريكية على الطرق البحرية
من بين الحقائق المتعلقة بتوجهات الصين إلى الدول القطبية أن الجزء الأكبر من التجارة العالمية يجري عبر النقل البحري، وتؤمن سلامتها وضمان حركتها الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي لم تعد تقبل به الصين بعد أن أضحت قوة اقتصادية وعسكرية عظيمة.
تزامنا مع نمو اقتصادها وزيادة صادراتها التجارية تبحث الصين عن طرق بحرية أقصر وأكثر أمانا من تلك المهددة بالإغلاق بسبب التوترات السياسية والعسكرية، حيث تجد في ميناء كيركنيس النرويجي مثالا نموذجيا على ما تريد، فالميناء هو الأقرب لها إلى غرب أوروبا عبر الممر الشمالي الشرقي القطبي.
يلاحظ الوثائقي أن حماسة مسؤولي البلديات في الدول القطبية لإقامة مشاريع مشتركة مع الصين تواجه غالبا بمعارضة سياسية توقفها أو تؤجل العمل بها، فكل دفاع رئيس البلدية النرويجية لم يفلح في تخفيف المخاوف التي طرحها المعارضون لها، فقد نجحوا في إثبات وجود أهداف إستراتيجية وطموحات للسيطرة العسكرية والسياسية وراء المشاريع الصينية التي تزعم أنها تهدف فقط إلى تطوير البنية التحتية لميناء قطبي شبه مهمل.
أجهزة الرقابة الخفية.. معلومات استخباراتية تفضح آثار التنين
للدلالة على مخاوفهم يكتشف مفتشون حكوميون وجود أجهزة رقابة نصبها المهندسون الصينيون بالخفاء، ومن دون تبليغ مديري الميناء بوجودها.
الأمر نفسه يحدث مع ميناء فينافيورد الآيسلندي، فبعد موافقة رئيس الجمهورية على التعاون مع الصينيين لتطويره، واتخاذه مركزا لسفنهم؛ أثارت المعارضة الشكوك حول نيات الصين الخفية، وقد دعمت شكوكها بمعلومات أمريكية نقلتها أجهزتها المخابراتية، وكلها تؤكد رغبة الصين في الوصول إلى الممر الشمالي الغربي للقطب عبر المشروع.
الممر الإستراتيجي مهم جدا لدول حلف الناتو، فقد نصبت فيه خلال الحرب الباردة مركز مراقبة (محطة رادار) يمكن بواسطتها مراقبة التحركات السوفياتية عن قرب، ولهذا لا يريد الناتو للصين الاقتراب منه.
رجال الحزب الشيوعي.. حقائب الأعمال التي تخدم مشاريع التوسع
ما حدث في آيسلندا يحدث مع المشاريع الصينية التي تدعو للتعاون التجاري مع بلديات في السويد، وأخرى في ولاية ألاسكا الأمريكية، فبعد مدة من موافقة مسؤوليها المحليين على عقد صفقات تجارية مع رجال أعمال صينيين يظهر أنهم مُكلفون من الحكومة الصينية، وهم أعضاء في الحزب الشيوعي الصيني ينشطون ويتحركون لعقد الصفقات التجارية، وفق ما يمليه عليهم قادته.
رغم كل ذلك، لم يكف الصينيون عن نشاطهم الذي تُوِّج عام 2013 بقبول دولتهم عضوا مراقبا إلى جانب 6 دول جديدة، بينها 5 دول آسيوية في “مجلس القطب الشمالي” الذي هو بمثابة منتدى لثماني دول قطبية مكرس لتطوير الأبحاث العلمية والبيئة والبحرية.
إصرار الصين على وجودها في المجلس -بحسب خبراء عسكريين وسياسيين- متأتٍّ من حماسة الرئيس الصيني “شي جين بينغ” لتوسع طريق الحرير الجديد الذي يهدف من ورائه إلى فتح ممرات جديدة، يمكن عبرها الوصول على مناطق ذات أهمية إستراتيجية لم تكن للصين من قبل إمكانية للوصول إليها.
استخراج الغاز.. موطئ قدم في روسيا تمليه المصالح القيصرية
يحدث نفس الأمر في روسيا كما يبين الوثائقي من خلال حرب الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” ضد أوكرانيا، فقد استغلت الصين مقاطعة الغرب له، ففتحت أبوابها أمام منتجاته النفطية، وعرضت عليه المشاركة في مشاريع عملاقة، فالصين لديها المال، لكن تنقصها الموارد الطبيعية والمواقع الإستراتيجية، وبشكل خاص في منطقة القطب التي فتح “بوتين” أبوابها أمامهم من خلال السماح لهم بالإشراف المباشر على مشروع لاستخراج الغاز من باطن أرض شبه جزيرة يامال.
لا يخفي الروس مخاوفهم من الوجود الصيني في مناطقهم القطبية، لكن حاجتهم تدفعهم للسكوت عليها، وما فعلت في روسيا أرادت فعله في ألاسكا الأمريكية، وذلك من خلال تقديمها لإدارة الولاية في عهد الرئيس “دونالد ترامب” مشاريع استثمار مشترك للغاز الطبيعي في مناطقها القطبية.
لم ينجح الأمر كما كانوا يخططون له، فقد أوقف الأمريكيون المشروع قبل البدء العمل به، إثر معلومات سرية تقدمت بها المخابرات الأمريكية كشفت عن خفايا المشروع، كما دعمت وجهة نظرها من خلال كشف الخبراء الآيسلنديين عن أهداف المنصة التي يشرع الصينيون في نصبها قرب إحدى الجزر القطبية التابعة لهم.
“لا توجد دولة شبه قطبية، إما أن تكون قطبية أو لا تكون”
اكتشف الخبراء الآيسلنديون أن المنصة التي تنصبها الصين أعدت بالأساس لبناء قواعد لغواصات صينية تعمل بالطاقة النووية، مما يعني تفوقا صينيا على أمريكا وحلفائها.
وعلى المستوى التطبيقي يخشى الغرب من وجود صيني مؤثر في سياسات دول الحلف، كما وقع في اليونان التي اكتشفت أن الصين أخذت تتدخل في شؤونها الداخلية، وتحاول حرف مساراتها لصالحها، بعيدا عما أعلنته يوم وقّعت معها مشاريع قالت إنها اقتصادية بحتة.
المخاوف من الوجود الصيني في القطب الشمالي لم يخفها وزير الخارجية الأمريكي السابق “مايك بومبيو” في اجتماعه مع دول مجلس القطب الشمالي عام 2019، حين أعلن بنبرة حادة وواضحة “لا توجد دولة شبه قطبية، إما أن تكون قطبية أو لا تكون”، وذلك في إشارة إلى عدم ارتياح بلده لوجود الصين في المجلس بصفة عضو مراقب.
يقدم الوثائقي في ختام مساره جزيرة غرينلاند القطبية التابعة للدنمارك مثالا للضرر الناتج عن طموحات الدول الكبرى في السيطرة والهيمنة على الأراضي القطبية التي لا يحصل سكانها منها إلا على مشاريع عسكرية تهدد وجودهم، وأخرى اقتصادية لا تدر عليهم نفعا، بل على العكس من ذلك فإنها تدمر بيئتهم النظيفة وتسرق ثرواتهم الطبيعية، كما يحدث الآن في الجزيرة القطبية الراغبة في خلاص من صراعات على نفوذ لا نهاية لها.