“أسوأ إنسان في العالم”.. رحلة البحث عن الذات لابنة العالم المعاصر
يبدو أن “يواكيم ترير” نجح في مهمة بدت من قبل مستحيلة، فقد قدم لنا فيلم “أسوأ إنسان في العالم” (The Worst Person In The World) في العام الماضي، وهو فيلم يتبع تصنيف “روم كوم” (RomCom)، وهي اختصار لرومانسي وكوميدي.
لسبب مجهول يبدو أن صناع السينما قرروا عدم إنتاج أفلام قيّمة تتبع هذا التصنيف، ولسنوات طويلة وقع تحت هذا التصنيف عدد لا نهائي من الأفلام غير ذات المضمون، والتي عادة ما تكون على نمط شاب بائس ويائس -أو فتاة- يلتقي بفتاة تصبح في نهاية الفيلم فتاة أحلامه، ويمر هو أو تمر علاقتهما أثناء ذلك بالكثير من المواقف المضحكة المبكية.
لقد أصبح وصف فيلم بـ”روم كوم” مرادفا لكونه فيلما لقضاء وقت سلبي بعد يوم عمل مرهق، دون تفكير أو تفاعل من طرف المشاهد. لهذا كان التحدي المستحيل الذي خاضه ترير هو إنتاج فيلم “روم كوم “متميز ومتقن إلى درجة ترشحه لجائزتي أوسكار عن أفضل فيلم أجنبي وأفضل سيناريو.
يوليا.. عقدة الثلاثين في العالم المعاصر
يواكيم ترير مخرج نرويجي، وفيلمه الأخير “أسوأ شخص في العالم” يمثل القصة الثالثة والأخيرة في ثلاثيته “ثلاثية أوسلو” التي كتبها مع صديقه “إسكيل فوجت”.
وعلى الرغم من بساطة الفيلم ومباشرته الشديدة وتطرقه للعديد من الموضوعات، فإنه يقدم قصة “يوليا”، فاختصار الفيلم في تعبير “قصة يوليا” هو الاختصار الأفضل والأكثر تعبيرا وشمولا لكافة زوايا الفيلم. فمن هي يوليا إذن؟
يقدم يواكيم والممثلة النرويجية “ريناتا راينسفي” يوليا بوصفها فتاة ثلاثينية معاصرة، وهو أيضا وصف بسيط يليق بيوليا، لكننا لا نعتقد أن هذا الوصف يكفي، وفي هذا المقال نتحرى الجوانب الأخرى لشخصية يوليا التي لا تكتمل الصورة من دونها.
ما يقصده كل من يواكيم وريناتا هو أنها فتاة ولدت في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، ونشأت في عالم حر مفتوح يمكن فيه للإنسان أن يدرس ما يحب، وهذا العالم يعترف بقدر هائل من الحقوق للنساء، وعلى الرغم من نقصه فإنه يتيح لهن ما لم يتح من قبل في أي مرحلة تاريخية سابقة.
هذه الفتاة تعيش في مجتمع مستقر اجتماعيا وماديا، فإذا كانت ترغب في الدراسة الجامعية وتحتاج إلى المال، يمكنها أن تقترض قرضا خاصا بالطلاب، أو أن تعمل عملا جانبيا بسيطا يوفر لها متطلباتها المالية الأساسية.
حياة يوليا مستقرة وحرة، ونتيجة ذلك فإنها مليئة بالخيارات، وهذه الخيارات كلها ممكنة الحدوث، حيث يمكن ليوليا أن ترتبط بمن تحب، وأن تنفصل عنه عندما تشعر أن علاقتهما ليست مناسبة لها، ويمكن ليوليا أن تدرس طب الجراحة، وأن تنجح في دراسته وتحصل على درجات متميزة، لكن بسبب شعورها أن تخصص الجراحة لا يشبعها نفسيا تتركه وتتحول إلى الطب النفسي، حتى تترك الطب بأكمله وتتحول إلى دراسة التصوير طالما رغبت في ذلك.
تصل يوليا إلى الثلاثين من عمرها لتجد أن حياتها لم تتحول إلى الاستقرار بعد، فهي لا تزال تجرب وتتنقل بين مختلف خيارات الحياة المتاحة لها.
وعلى الجانب الآخر، عندما أتمت والدة يوليا الثلاثين من عمرها كانت أما مطلقة، أي أنها تزوجت ثم انفصلت عن زوجها في الثامنة والعشرين، ولديها طفلة بالفعل، كان هذا يحدث بينما تعمل محاسبة في دار للنشر.
لا يقارَن هذا بالطبع بجدة يوليا التي كان لديها ثلاثة أطفال عندما كانت في الثلاثين من عمرها، إضافة إلى كونها ممثلة مسرحية مشهورة.
تستمر يوليا في التفكير والمقارنة مع أسلافها والتأمل في حياتها، حيث لا تعمل في وظيفة ثابتة، ولم تحقق شيئا عظيما بعد بما يشمله هذا من تكوين أسرة أو إنجاب الأطفال. فيوليا كما يقول ترير وريناتي هي ابنة العالم المعاصر.
مفارقة المساواة بين الجنسين.. كلما زادت المساواة زادت الفروق
يوليا ليست مجرد فتاة أخرى، هناك الكثير من الملامح المميزة لشخصيتها والتي تقدم تفسيرا أعمق لحياتها التي نشاهدها على الشاشة. يمكننا ببساطة وقبل مناقشة أي شيء أن نشير إلى عنصر بالغ البساطة يفتقر إليه وصف ترير، وهو أن يوليا ليست ابنة هذا العالم، لكنها ابنة العالم الغربي، وإذا أردنا مزيدا من الدقة فيوليا ابنة شمال أوروبا.
في واحدة من الظواهر الاجتماعية الإحصائية نلاحظ أن الفتيات في الدول ذات المعدلات المرتفعة في المساواة بين الذكور والإناث تميل إلى ترك المجالات العلمية لصالح المجالات ذات الطابع الإنساني والشخصي، والمقصود بالمجالات العلمية تحديدا هو المجالات التي يطلق عليها مصطلح “ستيم” (STEM)، وهي اختصار لـ”العلم التجريبي والتقنية والهندسة والرياضيات”.
يطلق على هذه الظاهرة “مفارقة المساواة بين الأنواع الجنسية”، وما تلاحظه عدد من الدراسات أن هناك علاقة عكسية بين الميل لدراسة هذه المجالات في دولة معينة وبين درجة تحقق المساواة بين الأنواع الجنسية فيها، أي أنه كلما زادت الدولة في المساواة بين الذكور والإناث زاد عزوف الإناث عن هذه المجالات والعكس.
هناك عدد من النظريات المختلفة تحاول تفسير هذه الظاهرة، فتذهب بعضها إلى أن الإناث لديهن دافع أكبر لدراسة هذه المجالات في الدول التي بها مستويات تفرقة عالية، وذلك في محاولة منهن للوصول إلى منزلة اقتصادية واجتماعية تساعدهن في الحصول على حقوق أكثر، وعندما لا تكون هناك حاجة إلى ذلك فإنهن يعزفن عن دراستها.
ليس لدينا حتى الآن دليل مؤكد يقدم تفسيرا لهذه الظاهرة، لكننا نعلم أن أكثر الدول مساواة بين الذكور والإناث هي الدول الإسكندنافية، وفي هذه الدول -وبالأخص النرويج وفنلندا- أكبر نسبة عزوف للإناث عن دراسة المجالات العلمية. وعلى الجانب الآخر ففي دول مثل السعودية وعُمان التي تحقق مستويات منخفضة للغاية في المساواة بين الذكور والإناث نلاحظ أنهم يحققون أعلى المستويات في إقبال الإناث على دراسة المجالات العلمية.
ابنة العالم الغربي.. معضلة أن تكون أنثى في مجتمع منفتح
على الرغم من أن الظروف التي تحيط بحياة يوليا هي ظروف عامة تشترك فيها غالب فتيات الغرب، إلا أن تجربتها ليست بنفس الدرجة من العمومية. فنحن نلاحظ في أحداث الفيلم أن يوليا شخص متحرر يحب التجارب الجديدة، والتجارب الجديدة لا تعني التجارب العابرة كزيارة أماكن جديدة، لكنها تجارب عميقة تتطلب قدرا من الالتزام، فيوليا درست طب الجراحة وحصلت فيه على درجات مرتفعة، لكنها قررت أن تخوض تجربة جديدة وأن تبدأ دراسة الطب النفسي، وظل مستواها العلمي مرتفعا في تخصصها الجديد حتى تركته لصالح التصوير الذي نجحت فيه أيضا، وعندما قررت ممارسة كتابة المقالات نجح مقالها الأول في الانتشار بدرجة كبيرة وأثار إعجاب القراء.
تتميز يوليا وبمنتهى الوضوح بما يسمى الشخصية المنفتحة، وعنصر الانفتاح هو عنصر من خمسة عناصر تكوّن نظرية “سمات الشخصية الخمس الكبار” (Big Five Personality Traits)، والتي تعرف اختصارا بالخمس الكبار.
تندرج نظرية الخمس الكبار تحت نظرية “السمات” (Trait Theory)، وهي نظرية نفسية ترى أن الإنسان لا يولد صفحة بيضاء لتُشكله بيئته، بل إن لديه مجموعة من السمات التي تتفاعل مع بعضها البعض وينتج عنها شخصيته النهائية، وهذه السمات لا تتغير بدرجة كبيرة، فمن الممكن أن تتطور وتزيد وتنقص لكنها تظل جوهريا ثابتة.
واحدة من هذه السمات الخمس هي “الانفتاح على التجارب” (Openness To Experience)، وهي السمة اللافتة في شخصية يوليا، فالأشخاص الذين يتميزون بدرجة عالية من هذه السمة يتميزون بحس إبداعي، ومن المهم أن نلاحظ أن الإبداع لا يعني سوى الإتيان بجديد، ولا يعني بالضرورة الحس الفني أو الحسي الجمالي. عادة ما تميل هذه الشخصيات إلى عدم الالتزام بمسار واحد أو عمل واحد لفترات طويلة، وعادة ما يغيرون مساراتهم كل بضع سنوات.
الأهم من كل هذا أن هذه الشخصيات غالبا ما تتمكن من الوصول بسرعة بالغة إلى مستويات مرتفعة نسبيا من الإتقان في أي مجال جديد تتعلمه، لكنها بمجرد وصولها إلى مستوى فوق المتوسط تترك المجال إلى مجال جديد، وبمرور الزمن تملك هذه الشخصيات الكثير من المهارات في الكثير من المجالات، لكنها لا تصبح أبدا خبيرة في مجال معين.
تكمن نقطة قوة هذه الشخصيات في قدرتها على الجمع بين المهارات المختلفة وإيجاد علاقات عابرة للتخصصات، لكن نقطة ضعفها تظل هي عدم قدرتها على الوصول إلى موقع الخبير في أي من هذه المجالات.
هذه الشخصية هي يوليا، وهي أيضا النسبة الأقل من الإناث، حيث تشير الدراسات الإحصائية إلى أن الفتيات اللواتي يملن إلى تحقيق درجات عالية من الانفتاح على التجربة لا تزيد نسبتهم عن 40%.
مكمن الخلل.. لماذا أسوأ إنسان في العالم؟!
لماذا يقدم ترير يوليا على أنها أسوأ إنسان في العالم إذن؟
حسنا، ليست يوليا أسوأ إنسان في العالم بالتأكيد، لكنها تشعر كذلك، وهي ليست وحدها من يشعر بهذا الشعور. في الواقع لم تكن يوليا من استَخدم هذا التعبير في الفيلم، بل كان صديقها “أيفيند” الذي ارتبطت به.
كان أيفيند مرتبطا بـ”سونيفا” التي كانت تهتم بقضايا الحفاظ على البيئة، وكانت سونيفا شخصا واعيا بالقضايا الإنسانية الكبرى، وتحاول قدر المتاح أن تعيش حياة صحية مستدامة، ولا تستخدم البلاستيك أو منتجات الشركات التي لا توفر للعمال مقابل عملهم.
أثناء علاقتهما التقى أيفيند بيوليا وسحرته بساطتها، وتملّك أيفيند شعور عميق بالرغبة في ترك صديقته التي أطلق عليها “مجموع شعور الغرب بالذنب تجاه العالم” ولقاء يوليا، وفي هذه اللحظة شعر أيفيند بأنه أسوأ شخص في العالم.
كانت يوليا في موقف شبيه، فقد كان رفيقها السابق مهتما بإنشاء أسرة مستقرة وإنتاج أعمال فنية ذات مضمون عميق، بينما تركته هي لتلحق بأيفيند الذي لا يرغب في إنجاب أطفال، وغير مهتم بإنتاج أعمال عظيمة، فهو يعمل في مقهى بسيط.
يوليا وأيفيند محاصران بين القدرة على معرفة كل مشكلة يمر بها كل إنسان في هذا العالم، ومن ثم الشعور بالمسؤولية تجاه مشكلات العالم بأكمله، وبين القدرة على اختيار حياة بسيطة تخلو تقريبا من الكفاح.
يمكن ليوليا أن تعمل في المكتبة التي تعمل فيها إلى الأبد وتظل حياتها مستقرة ماديا، ويمكنها أن ترتبط بالكثير من الأشخاص وتنتقل من واحد إلى الآخر متى شعرت، ويمكنها أيضا أن تختار تكوين أسرة مستقرة، وأن تعمل طبيبة أو مصورة أو أي شيء.
أعتقد أنه يمكن لكل منا أن يشاهد في نفسه شيئا من يوليا. وعلى الرغم من خصوصية تجربتها فإن الحدود بين الثقافات المختلفة أصبحت غير واضحة، وعلى الرغم من عدم وجود نفس الظروف التي عاشت في خضمها يوليا في بلاد أخرى مثل بلادنا العربية فإنه من الممكن أن نقول إن الفكر العام الذي يقود تفكير يوليا يهيمن على شباب العالم كله.
لقد رسم يواكين صورة متقنة للحياة المعاصرة، أو بالأحرى صورة متقنة لما تعد به الثقافة الغربية المعاصرة، بينما استطاعت الجميلة ريناتا أن تقوم بأفضل أدوارها على الإطلاق.
حسنا، إن هذا الدور الرائع الذي قامت به ليس أفضل أدوارها فقط، بل هو دور البطولة الوحيد لها، لقد كانت ريناتا ممثلة طموحة لكنها لم تجد الفرصة سوى في أدوار هامشية محدودة وفي عدد من الأعمال، حتى شاركت في فيلم “أوسلو” (Oslo) و”31 أغسطس” (31 August)، وهو الفيلم الأول في ثلاثية أوسلو للمخرج يواكين ترير نفسه، وفي هذا الفيلم قامت بدور هامشي محدود للغاية. يقول يواكين إنه لم يبحث عن ممثلة تقوم بدور يوليا في فيلمه الأخير، بل العكس هو الصحيح، لقد بحث عن فيلم تكون بطلته ريناتا.
ربما لهذا السبب كان أداء ريناتا لدور يوليا مثاليا، لكن مثالية ريناتا ليست هي العامل الحاسم في التحدي المستحيل، من المؤكد أن قدرة يواكين ترير على إدارة كافة تفاصيل الفيلم بداية من القصة ومرورا بالموسيقى والتصوير كانت العامل الأكبر في إخراج فيلم “روم كوم” يتجاوز عائق اللغة النرويجية، ليستمتع به المشاهدون حول العالم ويحصل على تقدير لجنة الأوسكار.