“نوستالجيا”.. حنين لتصفية الحسابات في الحي العتيق بنابولي بعد 40 عاما

هل ترغب في العودة إلى بلدك الذي غادرته إلى الخارج قبل ثلاثين عاما لكي ترتاح بعد أن تستعيد علاقتك بالمكان وبالناس وتتأقلم مع التغيرات التي وقعت؟ أم أن بحثك عن المكان وإعادة اكتشافك له لن يجلبا لك سوى الألم والمزيد من الرغبة في تصفية الحساب مع الماضي الغامض، وبالتالي تبدأ السير في طريق البحث عن المتاعب؟

هذا هو موضوع الفيلم الإيطالي الذي أنتج عام 2022 “نوستالجيا” أو “حنين” (Nostalgia)، وقد عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان الأخير. وهو من إخراج الإيطالي “ماريو مارتوني” (63 عاما) ذو الخبرة الطويلة في العمل السينمائي، فقد أخرج حتى الآن أكثر من 40 فيلما طويلا وقصيرا، ومن النوع التسجيلي والروائي، كما أخرج أيضا أعمالا للتلفزيون.

عودة إلى الماضي لتحقيق الخلاص.. تساؤلات أخلاقية

مثلما استوحى المخرج “ماريو مارتوني” موضوع فيلمه السابق “عمدة ريوني سانيتا” (Il Sindaco del Rione Sanita) من مسرحية للكاتب “إدواردو دي فيليبو”، فقد استوحى موضوع فيلمه الجديد “نوستالجيا” من رواية “إيرمانو ري”، ولعل القاسم المشترك بين هذين الكاتبين وبين المخرج وكثير من أفلامه السابقة، يعود إلى انتماء الثلاثة إلى مدينة نابولي التي ولد ونشأ فيها “مارتوني”.

 

لذلك قد يبدو الفيلم -للوهلة الأولى- كما لو كان من نوع “السيرة الذاتية”، إلا أنه في الحقيقة عمل مبتكر يثير الفكر، ويطرح تساؤلات أخلاقية عن مسؤولية الفرد وعن اختياراته الشاقة في الحياة، عن ماضيه وعائلته، وعن علاقته بذاته التي حاول طويلا الهرب من مواجهتها، لكنه أيضا فيلم عن حماقات الإفراط في حسن الظن، وعن غياب التقدير السليم للأمور تحت وطأة الرغبة في التصالح مع الماضي، وتحقيق الخلاص بالمعنى الروحاني.

ريوني سانيتا.. حي تتقاطع فيه مصائر شخصيات الفيلم

في الفيلم جانبان بارزان، وهما جانب روحاني يمثله القس رجل الدين رمز الكنيسة الكاثوليكية، وهو صديق للبطل الذي اعتنق الإسلام، ومع ذلك لا يرفض ثقافته المسيحية الأصلية ولا ينكرها.

ومن الجهة الأخرى هناك المجرم زعيم العصابة الذي يطلقون عليه “الرجل السيئ”، وهو يحكم قبضته الحديدية على المدينة، ويتخذ مقرا له داخل حي ريوني سانيتا في قصر يشبه القلعة، فقد شيّده فوق مرتفع في قلب ذلك الحي الشعبي الفقير العتيق الذي تخشى قوات الحكومة دخوله، لذا فقد تركه طويلا مهملا ومهمشا.

ريوني سانيتا هو الحي الذي نشأ فيه بطل الفيلم الذي نرى الأحداث من وجهة نظره طوال الوقت، وهو نفسه المكان التي كانت تدور فيه أحداث الفيلم السابق للمخرج “مارتوني”، أي فيلم “عمدة ريوني سانيتا” (2020)، لكن بينما كان هذا الفيلم يدور في معظمه داخل غرف وقاعات وحدائق منزل زعيم الحي أو رجل المافيا المحلية “توني”، فإن “نوستالجيا” يدور في الخارج.

البطل العائد يتلمس الواقع ويستكشف المتغيرات بعد سنين طويلة من الغياب

تتحرك الكاميرا في أرجاء الحي، وتصعد السلالم الحجرية الضيقة، وتهبط إلى الساحات العامة، لتتسلل داخل الكنيسة العتيقة الكائنة في منتصف الحي، تتابع الأطفال في لهوهم ومرحهم، تصور مناظر الفقر والتدني وغياب الخدمات، وانتشار العنف والخروج على القانون، كما ترصد دخول عنصر جديد لم يكن له وجود في الماضي إلى المنطقة، أي المهاجرون الوافدون من أفريقيا.

من القاهرة إلى نابولي.. سيرة بطل مسلم يجتره الحنين للوطن

بطل الفيلم هو “فيليس لاسكو” الذي نراه في البداية يجلس في الطائرة في طريقه من القاهرة إلى نابولي، يتذكر لحظات وداعه لزوجته التي يعشقها، وهي سيدة مصرية تحادثه بلغة عربية يجيدها هو أيضا، فقد مضت عليه الآن 40 عاما منذ أن غادر بلاده، وظل لفترة ينتقل من بلد إلى آخر في القارة الأفريقية، إلى أن استقر في مصر وعاش فيها طويلا.

أسس “فيليس” هناك شركة مقاولات بمساعدة عمه، وحققت نجاحا كبيرا، والواضح أنه اندمج كثيرا في طريقة الحياة العربية في مصر، بل واعتنق الإسلام وتزوج من السيدة المصرية “أرليت” التي وقع في حبها، وهو يعود الآن إلى بلده لأول مرة منذ أن غادر نابولي، على وعد لزوجته بأن تلحق به قريبا بعد أن تستقر أحواله.

وإذا كان “فيليس” قد بلغ الآن 55 عاما فيمكننا الاستنتاج أنه كان ابن 15 عاما عندما غادر إيطاليا إلى مصر، لكن لماذا مصر تحديدا؟

روحانية الشرق.. سحر يأسر المثقفين الإيطاليين

لا يتضح تماما اختيار البطل لمصر، لكن ربما يكون المقصود أنه أراد الاندماج في مجتمع له سمات أخرى مختلفة عن سمات المجتمع الإيطالي، والرغبة في استلهام “روحانية الشرق”، وهي فكرة تسيطر على كثير من المثقفين الإيطاليين، ويعتبر المخرج الإيطالي الراحل “بازوليني” من أكثرهم ولعا بالعودة إلى روحانية الشرق في كثير من أفلامه.

 

السبب المعلن لعودة “فيليس” إلى نابولي هو رغبته في رؤية أمه العجوز “تيريسا” الطاعنة في السن التي أصبحت أيضا شبه عمياء ومشرفة على الموت، وهو يجدها قد تعرضت لعملية احتيال من جانب رجل كان يفترض أنه صديق للعائلة، فقد جعلها تتنازل عن منزلها الفسيح مقابل بعض المال، وتنتقل إلى منزل ضيق مظلم كئيب في مبنى عتيق متداعٍ، مما يجعلها تشعر بالاكتئاب.

وهذه هي الصدمة الأولى التي يتلقاها “فيليس”، وتشي بأن هناك كثيرا من الأمور قد تغيرت في هذا الحي العتيق، وهي متغيرات سيكشف عنها الفيلم تدريجيا كلما مضى في السرد.

الحي العتيق.. وهم الأصوات والألوان والروائح الثابتة

من الطبيعي أن يخطر على الذهن هنا سؤال حول الأسباب التي حالت دون عودة “فيليس” ولو مرة واحدة فقط لرؤية أمه طوال تلك السنين، إلا أن الأمر يظل غامضا، كما تظل علاقته بزوجته المصرية مهمشة لا يوليها الفيلم ما تستحقه من اهتمام.

ولا يتوقف كما كان يجب أمام اعتناقه الإسلام، ورغم أنه يُخبر زوجته “أرليت” عبر الهاتف أن لا شيء تغيّر في الحي العتيق ريوني سانيتا، سواء الأصوات والألوان والروائح والاشتباكات، فإن هناك تغييرا في الواقع، غير أنه لا يريد أن يراه ويظل ينكره، وهو في الحقيقة الذي سيؤدي إلى نهايته التراجيدية.

الجرائم العنيفة التي تقع في الشوارع لا تثني البطل عن رغبته في البقاء

لكن قبل أن تأتي النهاية المأساوية التي أشرت إليها تمر أحداث كثيرة، وسنطلع على كثير من المقارنات بين شباب اليوم وشباب الأمس، بين أصدقاء الماضي كيف كانوا وكيف أصبحوا.

خيوط الحنين.. محاولة فاشلة لاستدعاء الماضي السحيق

علاقة “فيليس” بالمكان، بالحي العتيق، وبنابولي الكبرى، تظل أساسا علاقة نوستالجيا، أي حنين جارف يجعله يستدعي باستمرار الماضي الذي يتداعى في ذهنه على هيئة صور ولقطات لما كان عليه من مرح وانطلاق ومشاغبات ومغامرات أقرب إلى اللهو، أيام شبابه في صحبة رفيق طفولته وصباه وشبابه المبكر “أوريستي سبسيانو”، فنحن نرى الاثنين على دراجة نارية يجوبان حواري نابولي الضيقة، أو يسبحان في البحيرة، ثم يقومان معا ببعض السرقات الصغيرة.

يحصل “فيليس” أولا لوالدته المسنة على منزل فسيح مضيء يقع في الطابق الأرضي، وبه حديقة جميلة أيضا، ثم يقضي بعض الوقت مع أمه، فيقوم بمساعدتها على الاستحمام، تماما كما كانت تفعل له وهو طفل صغير، وقد تبادلا الأدوار الآن.

ورغم سعادة الأم بعودة الدفء إلى العلاقة مع ابنها، فإنها تعيش لحظاتها الأخيرة، فسرعان ما يأتي الموت، لكن غيابها نهائيا عن المشهد يجعل “فيليس” يقرر البقاء في نابولي.

“دون لويجي”.. تحذيرات القس من لقاء وحش القلعة

بعد قراره البقاء في موطنه يعلن “فيليس” أنه يعتزم شراء بيت، لكن لا أحد يفهم رغبته هذه، وعندما يلتقي في كنيسة الحي العتيق بالقس “دون لويجي” الذي كان صديقا له في الماضي قبل أن يصبح قسا؛ يبدي القس دهشته من رغبة “فيليس” في البقاء في واقع صعب لا يستطيع أن يفهمه.

يسقط في يدي القس عندما يبدي “فيليس” رغبته في مقابلة صديقه القديم الذي يصفه بأنه كان بمثابة شقيقه، أي “أوريستي” الذي أصبح يقيم داخل قلعته الحصينة، محاطا بحراس مدججين بالسلاح من المجرمين والقتلة والخارجين على القانون.

يحذره “دون لويجي” من مقابلة ذلك الرجل الذي يخشاه الجميع، كما يحذره جميع من يحدثهم أو يسألهم عن “أوريستي”، لكن هناك رغبة دفينة بداخله تدفعه دفعا إلى السعي لمواجهة “أوريستي” وتصفية حساب قديم معه.

البطل يقف أمام قصر صديق طفولته الذي صار قائد عصابة إجرامية واسعة النفوذ

رئيس العصابة.. مواجهة مع صديق قديم صار عدوا

سنعرف أن “فيليس” و”أوريستي” اشتركا في الماضي في سطو مسلح نتج عنه قتل رجل، ولم يكن “فيليس” هو المسؤول عن القتل، بل “أوريستي”، لكن “فيليس” فر إلى الخارج بعد الحادث مباشرة، وتمكن “أوريستي” من الإفلات من السجن، ثم تضاعف نفوذه الإجرامي.

يحدث اللقاء بين الرجلين داخل قصر “أوريستي” في غرفة مظلمة تتشح بالظلال، ويبدو هنا التناقض الكبير بين “فيليس” الذي يريد أن يفتح قلبه متمثلا بالصداقة العميقة القديمة التي جمعت بينهما، بينما يبدي “أوريستي” التحفظ والغضب تجاه “فيليس”، ويحذره من محاولة اللقاء به مجددا، وأن ما كان قد كان وقضي الأمر.

إن هذا المشهد الرئيسي في الفيلم بين الرجلين يكشف محاولة “فيليس” الفاشلة التمسك المستحيل بما يولده الحنين إلى الماضي، أي بالنوستالجيا بديلا عن الواقع الذي لا يريد أن يراه.

إنه ما زال يظن أن من الممكن أن يحدث تفاهم بينه وبين هذا الشبح الذي يتحرك بجواره “أوريستي”، يريد أن يعيده إلى رشده دون أن يدرك أنه لم يعد ذلك الصبي البريء العابث، بل فقد براءته منذ عهد بعيد، وأصبح يعيش سجينا داخل نفسه، وهو الآن يشعر بتهديد ما من عودة “فيليس”، ليس تهديدا ماديا أو جسديا، بل تهديدا بفتح أبواب الماضي الذي أغلقه نهائيا، ولا يرغب في استعادته، لا بالحنين ولا بالمشاعر.

“المعرفة تكمن في الحنين”.. مقدمة تلخص فلسفة النص السينمائي

يبدأ الفيلم بكتابة على الشاشة منسوبة إلى المخرج “بازوليني” تقول إن “المعرفة تكمن في الحنين”. لكن كلما غرق “فيليس” في الحنين محاولا معرفة مغزى ما كان في الماضي واستعادته، أصبح أكثر انفصالا عن الواقع، وأكثر قربا من الموت.

 

ربما لا يكون الفيلم على مستوى بعض أفلام مخرجه السابقة، وربما كان ينقصه بعض التعمق في الموضوع، وعدم الانحراف في الثلث الأخير في اتجاه فيلم الإثارة البوليسية أو فيلم الجريمة. ورغم ذلك فإن هناك مناخا جديدا وروحا جديدة تسري في الفيلم، مع مسحة من الغموض المقصود، وتجسيد جيد للعلاقة بين الشخصية الرئيسية والمكان، وبين الماضي والحاضر.

كما وفق الممثل “بييرفرانشيسكو فابيانو” في دور “فيليس”، وبرع في التحكم في التعبير عن مشاعره، وانتقاله من الشعور بالدهشة إلى الاستغراق في استدعاء الذكريات، مدفوعا بالحنين الجارف إلى عصر آخر، ثم الرغبة في مواجهة نفسه من خلال المواجهة مع “الصديق” الذي لا يدرك أنه لم يعد صديقا، بل أصبح “الرجل السيئ” عدو الجميع.

رسم ملامح الشخصيات.. نقاط سوداء تفسد بريق الفيلم

ربما يكون من عيوب الفيلم إسناد دور “أرليت” التي يفترض أن تكون مصرية إلى الممثلة المغربية صوفيا السعيدي التي فشلت في التحدث باللهجة المصرية، بل وترتدي أيضا الملابس المغربية.

وكان يمكن أيضا الكشف أكثر عن شخصية “أوريتسي” الذي ظهر في مشهدين فقط من الفيلم، وأصبح في النهاية هو شبح الموت، فرفضه مصافحة صديقه القديم وعناده وتبريراته ثم تهديداته ليست كافية لإبراز جوانب شخصيته.

وهو على العكس تماما من شخصية زعيم العصابة الدموي الذي يحكم قبضته على حي ريوني سانيتا، حتى إنهم يطلقون عليه “عمدة الحي”، ولم يكن يتورع عن القتل لأتفه الأسباب، إلا أنه كان في الوقت نفسه يمتلك قلبا رحيما طيبا، فهو على استعداد للمضي قدما حتى نهاية الشوط لنصرة شاب يلجأ إليه طلبا لحمايته من جبروت والده الشرير، لكن كما أن في الحياة اختيارات، ففي الفن اختيار أيضا.


إعلان