“كلوندايك”.. هزيمة وانتصار لعائلة أوكرانية تكتوي بنيران الحرب الانفصالية
لا يبتعد فيلم “كلوندايك” (Klondike) للمخرجة الأوكرانية “مارينا إر غورباتش” كثيرا عن سياق الحرب الإعلامية الموازية لحرب الجيوش بين الروس والأوكرانيين ومعهم الغرب برمّته تقريبا.
وعلى الرغم من أنّ قصة الفيلم الأساسية تدور حول الحرب والموت، فإن الحياة تحضر بقوة من خلال فعل الولادة الذي تقول صاحبته بلسان فصيح “صحيح أن الحرب هي الجحيم، وأن البعض يتوحش فيها، لكن ثمة ما هو إنساني ومُشرق دائما، قد يصنعه الرجل أو المرأة أو الاثنان معا، ليُعيدا للحياة خيط الأمل الذي نتشبّث به جميعا مهما كان واهيا أو ضعيفا”.
يتجاوز الفيلم فكرة الحرب ليقفز إلى تداعياتها كالعنف والخراب والأزمات النفسية والسياسية والاجتماعية التي لم تخرج عن إطار التطاحن بين القوتين العظيمتين وارتداداه على البلدان التي تدور في فلكيهما، لكن ما يميز هذا الفيلم الدرامي عن بقية أفلام الحروب أنه مصنوع برؤية امرأة، وأن البطلة الرئيسية فيه هي امرأة أيضا، لكنها من نوع خاص، فهي قوية وصبورة ومُوشكة على الإنجاب.
وهنا لا بد من الاتكاء على رأي صانعة الفيلم ومبدعته التي تقول في هذا الصدد: يمكن للحرب والولادة استكشاف المزيج الجميل من الشعر المرئي القوي والواقعية المثيرة لقصة شخصية، فالعلاقة بين الحرية والرغبة الأنثوية في البقاء مهمة بالنسبة لي كموازنة للتباينات في العصر الحديث.
وإذا كانت الحرية هي الشرط الأساسي للإبداع والعيش الكريم الذي لا تؤرِّقه المنغصات الفكرية والاجتماعية والعاطفية، فإن سؤال البقاء واستمرارية الوجود مرهونان بشروط الحرية التامة وغير المنقوصة.
نزاع دونباس.. عوالم السياسة تمزق عائلة متنوعة
يعتمد الفيلم في بعض تفاصيله على اللغة الخبرية التي تناقلتها وسائل الإعلام المرئية فيما يتعلق بسقوط الطائرة المدنية الماليزية وتحطّمها في 17 يوليو/تموز عام 2014 إثر تعرضها لصاروخ “أرض جو” من نوع “بوك” (BUK) بسبب النزاع الدائر بين الانفصاليين والقوات الأوكرانية، وراح ضحية الحادث المروّع 298 مدنيا.
وهذه اللغة التقريرية تؤكد لنا مرة أخرى سياق الحرب الإعلامية الدائرة بين روسيا من جهة، وبين أوكرانيا التي تؤازرها أوروبا والغرب الأمريكي.
لا تحتاج القصة السينمائية إلى شرح طويل، إذ تتمحور حول عائلة صغيرة جدا تتألف من “إيركا”، وهي امرأة أوكرانية حامل تنتظر قدوم مولودها البكر، و”توليك” الزوج الروسي الذي يُعتَقد أنه ينتمي للانفصاليين في إقليم دونباس الذي يشكِّل فيه الروس غالبية واضحة.
وضمن إطار هذه العائلة الصغيرة يلتحق “ياريك” شقيق “إيركا” المتحمس لقوميته الأوكرانية، فيناصب الانفصاليين الروس عداء كبيرا، ويمكن إضافة شخصية “سانيا” صديق “توليك” الذي ينتمي لإحدى التنظيمات الانفصالية المسلحة.
قذيفة طائشة.. حرب تقرع باب الأبطال وتغير مصائرهم
تحدث الانعطافة الأولى في قصة الفيلم (من كتابة المخرجة أيضا) عندما تجتاح القوات الانفصالية إقليم دونباس، وتهاجر العوائل الأوكرانية من خطوط التماس والمناطق التي تندلع فيها الاشتباكات، ثم تتفاقم الأحداث بعد إسقاط الطائرة المدنية الماليزية من قِبل التنظيمات الانفصالية التي يؤازرها الجيش الروسي في مقاطعة دونيتسك، وتحديدا في قرية خاربوف التي يسكن فيها “توليك” (الممثل سيرجي شادرين) وزوجته “إيركا” (الممثلة أوكسانا تشيركاشينا).
تأخذ الأحداث منحى تصاعديا لا يمكن تفاديه، خاصة بعد أن سقطت قذيفة هاون وقوّضت الجدار الأمامي من غرفة الاستقبال، وتركت البيت مفتوحا على الفضاء الخارجي، ولم يعد باستطاعتهم ستر حركتهم الداخلية والحفاظ على خصوصية حياتهم الزوجية التي باتت مكشوفة لجميع أفراد القرية، بل وللناس الفارين من المناطق التي تندلع فيها الاشتباكات والمناوشات العسكرية، وحتى لبعض الناشطين الذين يتابعون القضايا الإنسانية في أوقات الحروب والأزمات العصيبة التي تُنهك المدنيين وتأخذ منهم مأخذا كبيرا.
يعترف “سانيا” بأن قصف منزل صديقه “توليك” كان خطأ غير متعمّد، ووعده بأن يرممه في أقرب فرصة ممكنة، لكن هذا الصديق الانفصالي بدأ يتطاول على خصوصيات “توليك” وحياته الشخصية، فقد أخذ سيارته بحجة قضاء بعض المهمات والأشغال العسكرية التي تتعلق برفاقه في السلاح ووعده بإرجاعها بأسرع وقت ممكن، بينما كانت “إيركا” في أمسّ الحاجة إليها، فهي تريد أن تشتري عربة أطفال، أو أن تذهب إلى المستشفى إذا ما فاجأها المخاض.
ذبح البقرة.. عاصفة الانفصاليين تلتهم كل شيء
يتجسّد الحس القومي المتطرف لدى “ياريك” الذي يستمع إلى أغان أوكرانية فقط، بينما يحاول “توليك” منعه وإجباره على سماع الأغاني الروسية، لكي لا يلفت انتباه التنظيمات الانفصالية ويثير حفيظتهم.
وبما أن الشخصيتين متوترتان، فلا غرابة أن يتشاجرا ويتشابكا بالأيدي، الأمر الذي يدفع “إيركا” على رشقهما بدلو من الماء الساخن حتى تفضّ النزاع وتذهب لجلب ماء الشرب من بئر قريبة، لكنها تعود خالية الوفاض، فالحرب تدمر كل شيء بدءا من الماء والكهرباء، وتسبب شُحا في المواد الغذائية والطبية، وتعدم الأمن والأمان وما إلى ذلك.
ومن حسن الحظ أن لديها مزرعة توفِّر لها ما تحتاجه من خضراوات، ولديها بقرة تدرُّ بالحليب، وبعض الدواجن التي تسدّ حاجتها من البيض واللحوم البيضاء.
يحاول “ياريك” إقناع شقيقته “إيركا” بمغادرة هذا المكان الخطر، إلا أنها تتشبث بمنزلها ومزرعتها رغم أن العناصر الانفصالية قد أمروا زوجها بذبح البقرة، وأخذوا لحمها لمجاميعهم الموجودة في تلك المضارب، كما أن الدور سيأتي على الدواجن، فالأفواه الجائعة تحتاج لما يسد رمقها باستمرار.
رصاص الانفصاليين.. موت هادئ للغريمين في المنزل
تنهمك “إيركا” في تنظيف الأريكة، بينما يأخذ “توليك” و”يارك” على عاتقهما بناء الواجهة الأمامية التي تقوّضت، لكنهما كانا يتشاجران طوال الوقت خاصة بعد أن تسلّم “توليك” الزي الخاص بالانفصاليين الذي يوحي بأنه ينتمي إليهم ويؤازرهم في هذه الحرب التي تزداد ضراوة يوما بعد يوم، فيضطر لأن يسجنه في القبو، ويعامله معاملة سيئة لا تخلو من خشونة وفظاظة وألفاظ نابية، لكنه يظل في خاتمة المطاف شقيق زوجته، وإن اختلفت الآراء وتضاربت الأفكار بشأن الوطن والعقيدة، وما بينهما من قناعات فكرية وسياسية واجتماعية.
تحدث الانعطافة الثانية في قصة هذا الفيلم حين يُداهم عناصر المليشيات الانفصالية المنزل، ويبدأ قائدهم في استجواب “توليك” الذي يقرّ بأنه قد شاهد الطائرة الماليزية وهي تسقط في مزرعته، وأن بعض مقاعد الطائرة قد تساقطت مع بقايا جثث متفحمة على عربة الأطفال التي اقتناها سابقا وأعطبتها كليا.
وأكثر من ذلك فإن آمر المجموعة المتمردة يرى مسدسا بحوزة “توليك” يدعي بأنه يعود لشخص ميت، وحينما يضيّق عليه الخناق بالأسئلة العبثية يطلب منه أن يطلق النار على “ياريك”، لكنه يمتنع عن تنفيذ هذا الأمر، فيسلّم المسدس إلى “ياريك” ويأمره بأن يُطلق النار على صهره “توليك”، لكنه يفعل العكس، فيُطلق النار مباشرة على آمر المجموعة الانفصالية فيسقط مضرجا بدمائه، كما سقط في الوقت ذاته “توليك” و”ياريك” معا برصاص الانفصاليين المتأهبين، ثم سحبوا جثة قائدهم إلى السيارة، وغادروا المكان على عجل، من دون أن يكترثوا بالضحيتين اللتين تنزفان دماء كثيرة وتفارقان الحياة بهدوء تام وسكينة مُطلَقة.
صرخة الولادة.. نهاية سعيدة لفيلم مليء بالألم
على الرغم من عبثية الحرب ووحشيتها، فإن المخرجة الأوكرانية “مارينا إر غورباتش” قد جسّدت رؤيتها الفنية والفكرية في آن معا، عندما ارتأت أن تُنهي قصة فيلمها نهاية مُعبِّرة، وذلك حين ركزت عدسة كاميرتها على “إريكا” وهي تعاني من مخاض عسير لا تُساعدها ممرضة أو جدة كبيرة في السن لها خبرة في التوليد المنزلي الذي يحدث في كثير من القرى والأرياف، ويعتبرونه أمرا طبيعيا لا يستدعي تجشّم عناء الذهاب إلى مستشفيات الولادة، أو حتى المراكز الطبية المبثوثة في المناطق النائية من البلاد.
ربما تكون الدقائق الخمس الأخيرة من هذا الفيلم (مدته 100 دقيقة) هي الأكثر توترا، فالقلق والانفعال والخشية تنتقل تباعا إلى المُشاهدين الذين تتسمّر أعينهم على الشاشة وهم يترقبون قدوم هذا المولود الجديد الذي انتظرته الأم على أحرّ من الجمر.
وما إن نسمع الصرخات الأولى للطفل القادم حتى نتيقّن أن الحياة يمكنها أن تنتصر في اللحظات العصيبة، وأن الموت لا بد أن يتراجع ليُفسح المجال أمام البراعم الجديدة التي تملأ العالَم صخبا وضجيجا مُستحبَين.
“أنتَ لست انفصاليا يا توليك، أنت عبد”.. صراع البقاء
ثمة سؤال مُربك أجابت عليه المخرجة بتؤدة بعد أن أدخلَت المُشاهد في دوّامة من الشكوك مفاده: هل كان “توليك” انفصاليا، أم أنه يحب الوطن الذي يعيش فيه ويأكل من خيراته؟ ولماذا قَبِلَ أن يأخذ زي الانفصاليين ويدمغَ نفسه بهذه العلامة الفارقة التي تُوحي بنَفَسه الانفصالي؟
ربما نجد الإجابة الشافية والوافية في كلمات “ياريك” في أكثر لحظات الفيلم عنفا وتوترا حين قال بيقين ثابت هذه المرة “أنتَ لست انفصاليا يا توليك، أنت عبد”. فلقد مارس “توليك” التقِيّة ليتفادى شرور الانفصاليين ويضمن حياته وحياة زوجته، ورغم ذلك فقد سبق السيف العذل، وخرج من الرهان خاسرا، لكنه ضمن على الأقل حياة زوجته وابنته البكر التي ستحمل من دون شك اسما محليا يجنّبها السقوط في فخ المهاترات القومية المتطرفة.
يُعيدنا عنوان هذا الفيلم إلى حُمّى الذهب التي أغرت مئات الآلاف من المغامرين ممن تجشموا أخطار السفر بحثا عن هذا المعدن النفيس الذي يفضي إلى الإثراء السريع، لكنه لا يضمن السكينة وراحة البال، وربما يكون إقليم دونباس حاضنة لكثير من المناجم والخيرات والموارد الطبيعية، لكنه سيتحول حتما في الأوقات الحربية العصيبة إلى جحيم لا يُطاق.
في الختام لا بد من الإشارة إلى أن الفيلم قد حصد عددا من الجوائز، من بينها جائزة الإخراج في مهرجان صندانس، وجائزة الجمهور في مهرجان برلين، والتوليب الذهبية في مهرجان إسطنبول، وجائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان سياتل السينمائي.