“انعكاس”.. جراح متطوع يقع رهينة للصراع الروسي الأوكراني

يحضر “فالنتين فسيانوفيتش” مع صبية صغيرة لتقديم فيلمه “انعكاس” (Reflection) المنتج عام 2021 لجمهور مهرجان “كارلوفي فاري” السينمائي الدولي، وتقدمه مبرمجة الفيلم كمخرج معروف شارك في دورة مهرجان البندقية الـ76 عام 2019، ونال عن فيلم “أتلانتس” (Atlantis) حينها جائزة أفضل فيلم في قسم “آفاق”.
المخرج هو كاتب النص السينمائي لفيلم “انعكاس” أيضا، ويقول إن الفكرة راودته حين بدأت عودة جنود أوكرانيين بعد فترة سجن لدى الجيش الروسي أو مناصريه في شرق أوكرانيا، وبعد ظهور ميل واضح لديهم للانعزال عن المجتمع نتيجة ما عانوه، ثم قرأ ما كتبه أحد هؤلاء الذين قضوا وقتا في هذا السجن وشهدوا التعذيب فيه.
من لم تتسن له رؤية فيلمه السابق سيفاجئ بالتعرف على هذا المخرج الخمسيني (ولد عام 1971)، وسيشعر بكسب كبير لاختياره “انعكاس” آخر أفلامه للمشاهدة ضمن هذا الكم الكبير من الأفلام المتاحة في النسخة الـ56 لمهرجان “كارلوفي فاري” الذي عقد بجمهورية التشيك في الفترة ما بين 1 وحتى 9 يوليو/ تموز عام 2022.
أوكرانيا تحت المجهر.. فضول سينمائي لرسم معالم البلد
تثير أوكرانيا فضولا سينمائيا كبيرا نظرا لقدرة سينماها على فرض نفسها، وذلك لما تتمتع به من قيمة فنية عالية، كما أنها -بسبب الظروف السياسية الحالية- تُعتبر اليوم مصدرا للاطلاع على نظرة خاصة بعين فنان تجاه ما يجري.
هناك سينمائيون مثل “فسيانوفيتش” أخذوا على عاتقهم تصوير الوقائع وتقديمها، وهو في “أتلانتس” (2019) يستكشف الخسائر البشرية للحرب في أوكرانيا، متخيلا نتائجها المروعة عام 2025 من خلال عيون جندي فقد عائلته ومنزله على خلفية ما جرى بين كييف والانفصاليين المدعومين من روسيا في شرق أوكرانيا.
لكن هذا المخرج الأوكراني لم يكن يظن أن رؤيته المتخيلة لما ستكون عليه الأوضاع عام 2025 بعد انتهاء الحرب مع روسيا في منطقة دونباس المنكوبة؛ ستكون واقعا قبل هذا التاريخ، واقعا اليوم في 2022.

معارك دونباس.. جراح متطوع في أيادي المرتزقة الروس
في فيلمه الأخير “انعكاس” يتابع المخرج ما بدأه في “أتلانتس”، لكنه هنا يستبدل الجندي بطبيب جرّاح يحاول إعادة بناء علاقته مع ابنته وزوجته السابقة بعد تجربة مؤلمة في الوقوع في الأسر في نفس منطقة الصراع، فحين تطوع “سيرجي” وهو جرّاح لرعاية جرحى المعارك الدائرة في دونباس، لم يكن يتصور أن حياته ستنقلب بعد أخذه رهينة.
الزمان هو 2014 العام الأول للهجوم الروسي على أوكرانيا، خلال تنقل له في سيارة عسكرية، يتيه السائق في غابات ثلجية وضباب، ليقع في منطقة حربية يسيطر عليها مرتزقة روس. وبعد إلقاء القبض عليه وقتل سائقه، يُواجه “سيرجي” بالعنف والتعذيب المروّع، لكن المسؤول عن الوحدة العسكرية يقرر الاحتفاظ به لمساعدتهم.
فرن حرق الجثث.. أساليب التعذيب النفسي والجسدي
في مشاهد شديدة القسوة وصعبة التحمل غادرت على أثرها نساء عدة قاعة العرض، لم يتوانَ “فسيانوفيتش” عن تقديم كل ما يخطر ولا يخطر على البال من أساليب تعذيب وإهانة وذل يقوم بها المعتدي للحصول على المعلومات. كان من ضمن المهمة التي أعطيت للجرّاح التأكد من موت الأسير، بهدف عدم إضاعة المزيد من الوقت في إكمال استجوابه.

يحمل “سيرجي” القتلى إلى فرن للحرق تحت مسؤولية أحد الانفصاليين الروس، إنه رجل بسيط لم يكن يحلم إلا بشراء سيارة أجرة والعمل عليها، لكنه وجد نفسه هنا أمام فرن حرق الجثث، ينتظر أن يحضرها الطبيب له ليشعل الفرن ثم يضعها فيه. وأثناء ذلك يجلس ليتبادل قليلا من الكلمات مع الأسير.
كان “سيرجي” قد تعرّف على صديق زوجته السابقة، وهو جندي نبيل ومقاوم وقع في الأسر وعُذّب حتى الموت. لقد تجرأ على مفاوضة الجندي بجملة واحدة للاحتفاظ بالجثة لقاء مبلغ كبير من المال سيسمح له بتحقيق حلمه، وهو ما سيحصل في الجزء الثالث من الفيلم.
ما بعد الأسر.. تحديات العودة إلى الحياة الطبيعية
ينقسم الفيلم إلى ثلاث مراحل، الأولى قبل الأسر، حين كان الجراح يعمل في مستشفى المدينة ويجري عملية تلو أخرى محاولا إنقاذ المصابين، ويلتقي من حين لآخر بابنته وزوجته السابقة وزوجها الحالي المقاتل.
يسرد الجزء الثاني الوقوع في الأسر وعذاباته، أما الثالث فهو جزء لا يقل إيلاما من حياة “سيرجي”، ويحاول خلاله الإجابة على سؤال حول كيفية العيش بعد تعرضه لمثل هذه الفظائع. لقد خرج بمبادلة أسرى، وتأثرت عودته إلى المنزل بشدة بالصدمة التي مرّ بها، وأصبحت ابنته المراهقة رفيقة مهمة في رحلة العودة هذه.
حياة الطبيب ويومياته وما يصادفه خلال يومه من دماء وموتى في مراحل حياته تترك فيه آثارا عميقة، لكنه يختار الصمت في مواجهة الألم.

إيحاءات مؤلمة في عالم أزرق بارد.. فن السرد الصامت
لا يثرثر الفيلم في الحديث عن صدمات وأوجاع داخلية، إنه يكتفي بالإيحاء، برسم أجواء كفيلة بنقل مشاعر من أسى وإحساس بعدم الجدوى أمام مقدرة البشر الفذة على ارتكاب الأهوال.
منذ البداية يبدو أسلوب “فسيانوفيتش” المميز والمؤثر سائرا في هذا الاتجاه، مع استخدامه لقطات ثابتة طويلة لمكان ولشخصيات في المكان، تتحرك بأقلّ ما يمكن، ولا تجد ضرورة في الشرح والبوح إلا بالقدر الذي يساعد المشاهد على فهم ما يجري ليتخيل هو الباقي، وليشعر به بنفسه.
الصورة باردة، ودائما هذا اللون الأزرق الرمادي يوحي بكآبة الأجواء، لا لقطات مقربة، حيث يصعب تذكّر وجوه الشخصيات والتعرف عليها، اللقطات تؤخذ دائما على مسافة من الشخصية التي هي جزء من محيط واسع، وكأن المخرج يوجّه المشاهد بكل هدوء إلى حيث يجب أن تذهب عينه، يتيح له الوقت الكافي للتأمل فيما يراه.
كأنها لوحة فنية كل تفصيل مهم فيها، لوحات تعطي للفيلم نغمته الخاصة التي هي دائما حزينة محملة بالأسى.

لقطات طويلة تصنع تركيبة بديعة.. ثلاثية شعرية في ساعتين
تكمن قوة الفيلم في جمالياته البصرية الآسرة، في السمات السردية للمخرج “فالنتين فسيانوفيتش” باعتبار فيلمه “انعكاس” ثلاثية شعرية في ساعتين، في شحذ جمالية اللوحة بعناصر إضافية كهذه الشاشات، أو النوافذ التي تقف كحواجز أمام رؤية مباشرة، كأنه يقول إن الرؤية لما يجري تحصل من مسافة بعيدة، هناك نافذة غرفة العمليات، ونافذة كبيرة تطل على المدينة في بيت “سيرجي”، وزجاج سيارة أمامي مخدوش يتبين من خلفه الطريق. يمكننا بالتأكيد أن نرى عبر هذه النوافذ، لكن من على مسافة، وكأن هذه رسالة المخرج كل ما يصلنا هو من مسافة.
سحر الفيلم يتأتى من هذه التركيبة البديعة للقطات الثابتة التي تطول، وكأنها بوابة لإدراك أوجاع الشخصية للتعاطف معها بعمق. وحين يحصل أي شي كأن تفتح بوابة ما، فإن ذلك يقع على مهل، وكأنها تتيح للمشاهد أو تساعده على تذوق خوف “سيرجي” ويأسه وإحساسه بالعجز.
إنه فيلم يدرّب على تطوير المشاعر، وهذا يتجلى في المشهد الأخير، إذ تقف شخصيات الفيلم الطبيب والزوجة والبنت -كلّ بدوره- في مسرح، موجهة وجهها نحو الكاميرا في لقطة مقربة، وللمرة الأولى في الفيلم يرى المشاهد وجوههم ويتعرف عليها، وخلفها يعبر شخص لا تراه، لكن عليها التعرف عليه، من خطواته ورائحته، من مشاعر قد تطفو حين مروره.
إنها تمارين على المشاعر وتدريب على الأحاسيس، فكيف لك أن تتعرف على من تحب أو شخص قريب منك بمجرد سماع خطواته، بمجرد اقترابه منك دون أن يقول كلمة؟ كيف لك أن تشعر بآلام الآخر دون تنبيه؟
هذا هو فيلم “انعكاس”.
“أفضل حمل الكاميرا على حمل السلاح”.. حرب الروس
منذ الهجوم الروسي الأخير على بلاده أخذ “فالنتين فاسيانوفيتش” الكاميرا ليشارك بطريقته الخاصة في المجهود الحربي. وفي تصريح لوكالة “رويترز” قال: سأكتشف فيما بعد ما يمكنني فعله بهذه الصور، ما يمكننا القيام به مع كل ما يجري هنا. أفضل حمل الكاميرا على حمل السلاح.
في عام 2014 نفّذت روسيا عددا من العمليات العسكرية في الأراضي الأوكرانية، وذلك بعد احتجاجات الميدان الأوروبي وعزل الرئيس الأوكراني “فيكتور يانوكوفيتش”، فقد سيطر الجنود الروس على مواقع إستراتيجية وحيوية في شبه جزيرة القرم، بعد ذلك ضمّت روسيا القرم تحت سيادتها، وبعد الاستفتاء في القرم صوت السكّان لصالح الانضمام إلى روسيا الاتحادية بحسب النتائج الرسمية.

بعد ذلك تصاعدت مظاهرات الجماعات الانفصالية المؤيدة لروسيا في دونباس، مما أدى إلى حدوث صراع مسلح بين الحكومة الأوكرانية وتلك الجماعات الانفصالية المدعومة من روسيا.
في شهر أغسطس/آب عبرتْ المدرعات الروسية حدود دونيتسك من عدة مواقع، واعتبرَ توغل الجيش الروسي مسؤولا عن هزيمة القوات الأوكرانية في بداية سبتمبر/أيلول.
في نوفمبر/تشرين الأول عام 2014 أعلن الجيش الأوكراني عن تحرك مكثف للقوات والمعدات الروسية تجاه المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون في الشرق الأوكراني.