“بلدي المتخيل”.. عدسة ثورية تعود لتوثيق انتفاضة تشيلي

في 17 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019 خرج أكثر من مليون شخص إلى شوارع العاصمة التشيلية سانتياغو، كانت تلك ثورة شبيهة بثورات الربيع العربي، ثورة غضب اتخذت أشكالا مشابهة، لكن الأسباب كانت تختلف.
كانت الشرارة التي أشعلت الثورة هي قرار الحكومة بزيادة أسعار تذاكر القطارات، فقد تبادل الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي الدعوة إلى الاحتجاج على هذا القرار، لكن القرار المفاجئ كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فحجم الغضب كان هائلا والأسباب كثيرة.
لم يتصور الشباب الذين دعوا للاحتجاج عبر مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت أن دعوتهم ستلقى صدى عند الملايين في عموم البلاد، كان الكيل قد طفح، ومن الاحتجاج على رفع أسعار تذاكر القطارات تصاعدت المطالب وارتفع السقف كثيرا، ليصل إلى الدعوة لتغيير الدستور والإطاحة بالرئيس، أي تغيير النظام.
“معركة تشيلي”.. صورة بليغة من أيقونات السينما الوثائقية
لم يثنِ التقدم في العمر المخرج الكبير “باتريشيو غوزمان” (81 عاما) عن الاهتمام بما يحدث في بلده تشيلي، ولم يصبح السن عائقا أمام رغبته الدائمة المتوهجة في سبر أغوار الواقع، وقد عاد حسه الثوري الممتد منذ 50 عاما بقوة عندما اندلعت الانتفاضة الشعبية في تشيلي عام 2019، لكنه كان وقتها يقيم في باريس، واقتضى الأمر مرور بعض الوقت إلى أن حسم الرجل أمره، وعاد إلى بلاده لكي يرسم صورة بليغة لما يحدث هناك.
في فيلمه الوثائقي الملحمي الشهير المكون من ثلاثة أجزاء “معركة تشيلي” (The Battle of Chile) الذي أنتج عام 1975، كان “غوزمان” يرصد صعود زعيم الحركة الشعبية في تشيلي “سلفادور أليندي”، وهو أول رئيس اشتراكي في العالم يبلغ منصبه من خلال انتخابات ديمقراطية، ثم يصل للإطاحة به بواسطة الانقلاب العسكري الدموي بقيادة الجنرال “بينوشيه”.
كان ما يشغل “غوزمان” في فيلمه الكبير القديم الذي أصبح إحدى كلاسيكيات السينما التسجيلية الثورية في العالم؛ هو أن يكون شاهدا بالصورة والصوت على الحدث وقت وقوعه، وكان الرجل هناك منذ الوهلة الأولى، واندمج تماما في الأحداث وأصبح جزءا منها، وكاد أن يفقد حياته أمام دبابات الانقلاب، بل قُتل مصوّر فيلمه على أيدي العسكر أثناء التصوير، ونحن نرى في الفيلم الرصاصة المباشرة التي انطلقت في اتجاه الكاميرا، وسقوط الكاميرا من يدي المصور، لكن “غوزمان” استعان بمصور آخر، واستكمل الفيلم الذي يُعد توثيقا للذاكرة الجماعية.
“إذا أردت أن تصور حريقا يجب أن تكون بقرب الشرارة الأولى”
عرض الفيلم الوثائقي الجديد “بلدي المتخيل” (My Imaginary Country) ضمن برنامج العروض الخاصة بالدورة الـ75 لمهرجان كان السينمائي، ويفتتحه المخرج “غوزمان” بعبارة يرددها بصوته الذي نسمعه على مدار الفيلم كله بنبرته الهادئة الرصينة، فهو يتذكر أن أستاذه المخرج الوثائقي الثوري الفرنسي “كريس ماركر” نصحه في بداية مساره في السينما قائلا له “إذا أردت أن تصور حريقا يجب أن تكون بقرب الشرارة الأولى”.

لكن “غوزمان” لم يكن في تشيلي وقت اندلاع الحريق، بل كان في فرنسا، وبالتالي فقد فاته أن يكون قرب الشرارة الأولى، وقد فاجأته الأحداث التي لم تكن متوقعة، وفاجأه أكثر اتساع نطاق الأحداث، خصوصا وأن “الثورة” لم يكن لها قيادات، بل تجاوزت غالبية التنظيمات والأحزاب السياسية التقليدية، تماما مثل ثورة يناير 2011 في مصر، لكن أوجه الشبه لا تنحصر في هذا الجانب فقط كما سنرى.
ينغمس “غوزمان” في تصوير الاحتجاجات التي امتدت إلى العام التالي، ويعود بين آونة وأخرى فيستخدم مقاطع من فيلمه القديم “معركة تشيلي”، لا لكي يقارن بين الحدثين، بل لكي يعرب -وهو ابن النضال القديم ضد الديكتاتورية العسكرية- عن دهشته وإعجابه بتلك الصحوة المفاجئة في الحاضر، رغم غياب الدوافع الفكرية القديمة، مؤكدا على أن ما تشهده تشيلي من حركة رفض عارم لسياسات الرئيس “سيباستيان بينييرا” تتجه إلى ثورة ترمي لإحداث تغييرات جذرية في النظام.
تشيلي ومصر.. تشابه الثورات وأساليب القمع الخبيثة
يتابع الفيلم على نحو ما رأينا في الأفلام الوثائقية التي ظهرت عن ثورات “الربيع العربي” كيف تحولت الاحتجاجات على رفع أسعار تذاكر المترو إلى احتجاجات على التجاوزات وأعمال العنف التي وقعت من جانب السلطات خلال قمع المظاهرات السلمية، ثم كيف تحولت المظاهرات من طابعها السلمي إلى العنف.
ومن المشاهد المثيرة في الفيلم نرى كيف كان الشباب الثائرون يقرعون الأواني المعدنية أو الأسطح المعدنية المختلفة التي تقابلهم في وقت واحد وفي إيقاع واحد، مما سبّب الاضطراب لقوات الأمن، فردت باستخدام أقصى درجات القوة لفض التظاهرات، لكن دون جدوى.

ولعل من المثير للتأمل أيضا ما يصوره الفيلم ويركز عليه كثيرا من تعمد قوات الأمن التصويب على عيون شباب المتظاهرين وإصابتهم، بحيث تخترق الرصاصات العيون، وتؤدي إلى فقدان البصر.
ومرة أخرى يعود التشابه، فهذا هو نفس ما وقع في ثورة يناير 2011 في مصر، وكأن هناك تخاطرا عقليا بين سلطات القمع المختلفة في بلدان العالم الثالث.
مقابلة الثائرين.. جميع ألوان الشعب على العدسة
يجري “غوزمان” مقابلات (من وراء الكاميرا) مع أكثر من 40 شخصية من الشخصيات التي شاركت في الأحداث، من الشباب ومن الكبار، من الفتيان والنساء ربما أكثر من الرجال، ومن كافة الأطياف والخلفيات الاجتماعية، من النشطاء والطلاب والعلماء والمشردين والمحللين السياسيين والاقتصاديين، وممثلي السكان الأصليين وقيادات الحركة النسائية.
إنه يريد أن يفهم وأن يقارن وأن يعرف الطموحات التي تحرك هؤلاء جميعا، إنها الحالة المتردية للأجور، والنقص الكبير في المساكن، والتضخم الذي جعل المعاشات التقاعدية تتآكل، والخدمات الصحية التي جرت خصخصتها وأصبحت خارج قدرة الطبقات الشعبية الفقيرة، والغضب العارم من جانب النساء إزاء تزايد حالات الاعتداء الجنسية.

ومن المشاهد المثيرة في الفيلم، مشهد نرى فيه تجمعا حاشدا للنساء يهتفن في نفس واحد “أنت المغتصب”، وذلك دلالة على رفض ما يتعرضن له من اعتداءات من جانب الرجال، سواء في المنازل داخل الأسرة أو في الشارع، وهي ظاهرة تقول إحدى النساء إنها ازدادت بدرجة ملحوظة في السنوات الأخيرة.
شوارع سانتياغو.. ملحمة شعبية فنية يقودها الثوار
لعل من الأمور الجديرة بالانتباه في هذا الفيلم أن “غوزمان” لا يكتفي بتصوير المواجهات العنيفة بين الأمن والمتظاهرين الذين كانوا يتصدون بكل شجاعة بأجسادهم للمدرعات على نحو مماثل لما شهدناه في ثورة يناير 2011 في مصر تماما، بل سرعان ما اتجهوا أيضا إلى تحويل الثورة إلى كرنفال مستمر، عن طريق الغناء والرقص والرسم على الجدران وأرضيات الشوارع.
وتذكرنا اللقطات الطويلة المصورة من طائرات “الدرون” من أعلى للحشود الضخمة التي تمتد عبر كيلومترات عدة في شوارع سانتياغو؛ بالملايين الذين احتلوا ميدان التحرير والشوارع المحيطة به وتفاصيل الأحداث المماثلة، مثل الصدامات الدامية مع قوات الأمن، ومشاهد الاستعراضات والرقص في ساحة إيطاليا، ونزول أعداد كبيرة من المهمشين والمحرومين وانضمامهم إلى الشباب.
كلها مشاهد هائلة مثيرة تُجسّد الملحمة الشعبية التي لا نملك سوى الوقوف أمامها في احترام وتقدير، إنها عودة للوعي وتجسيده في أجيال جديدة استفادت دون شك من تجربة الماضي الأليمة، خصوصا أن بينهم من عاشوا عنف السبعينيات وقمع نظام الجنرال “بينوشيه”.
حالة الطوارئ.. حملة تقلب الطاولة على النخب الحاكمة
أعلن الرئيس “بينييرا” حالة الطوارئ في البلاد بعد أن امتدت الاضطرابات لتشمل جميع المدن، ونزلت قوات الأمن تطلق الرصاص على المتظاهرين، لكنها فشلت في إخماد الثورة، بل أدى تدخلها العنيف كما نرى إلى مزيد من الغضب، وانضمام أعداد أكبر من القوى الشعبية إلى الثوار، ثم ارتفع سقف مطالب الثوار إلى المطالبة برحيل الرئيس “بينييرا”، وضرورة الاقتراع على مادة قانونية لإلغاء الدستور القائم، وإعداد دستور جديد يقر بحقوق الإنسان، ويعترف بحقوق الطبقات الشعبية، ويفرض رقابة على الرئيس ويحدّ من سلطاته.
وتقف الحملة الشعبية متحدة وراء هذا الهدف الذي يتحقق بالفعل بعد أن تضطر الحكومة لقبول المسودة الجديدة للدستور التي اقترع عليها الشعب وحصلت على 80% من الأصوات. في الوقت نفسه يجري انتخاب جمعية وطنية جديدة (برلمان) تدخلها ناشطات كثيرات من الحركة النسائية، وتترأسها امرأة من السكان الأصليين الذين ظلوا لقرون محرومين من حقوقهم السياسية.
كل هذه التطورات يصورها ويرصدها “غوزمان”، كما يعلق عليها بصوته دون أن يجعل التعليق الصوتي يقتحم الصورة أو يفرض نفسه فرضا عليها، وهو يتوقف أمام أبطال التغيير من الناس العاديين (غير المسيّسين) ويوجه لهم الأسئلة، يحاول استقراء أفكارهم للمستقبل، دون أن يفرض عليهم وصايا فكرية.
لم يكن معنى استبعاد الفكر اليساري خارج السياق، إذ لم تكن هناك حركة وعي سياسي لدى النشطاء الثوريين، فالفيلم يستعرض لنا الجماعات المختلفة، من ناشطات الحركة النسائية الجديدة، إلى القوى الاجتماعية من أسفل السلم الاجتماعي التي تنشد العدالة في توزيع الثروة، إلى ممثلي حركة الوعي الجديد لدى السكان الأصليين للبلاد الذين همشوا طويلا، إلى الشباب الذين يتطلعون إلى التخلص التام من كل مخلفات نظام الجنرال “بينوشيه”، وأولها الدستور الموروث الذي استطاب لأعضاء النخبة الحاكمة المهيمنة من الليبراليين الجدد.
ويصور الفيلم الاجتماعات والمناقشات التي كانت تدور عبر أشهر بين هذه القوى المختلفة، وكيف تمكنت من إرغام القوى التقليدية على الرضوخ وتقديم التنازلات لها.
حنين إلى تشيلي.. أبعاد شخصية تربط الماضي بالحاضر
ينتهي الفيلم في مارس/آذار عام 2022، أي قبل أن يأتي للعرض في مهرجان كان بمدة قصيرة للغاية، ويصور نجاح “غابرييل بوريك” مرشح تحالف اليسار (مواليد 1986) في انتخابات الرئاسة، بعد أن حصل على تأييد شعبي غير مسبوق، ليصبح أصغر رئيس في تاريخ تشيلي بل وفي العالم.

هناك بُعد شخصي في الفيلم يجعله عملا حميميا صادقا، وهو بُعد يتعلق بذلك الاستدعاء المستمر للماضي، لتجربة “غوزمان” نفسه في مواجهة الانقلاب الدموي على نظام الرئيس “سلفادور أليندي” عام 1973، فهو يتوقف مثلا أمام الملعب الرياضي في سانتياغو ليروي لنا تجربة اعتقاله مع عشرات الآلاف داخل هذا الملعب الذي أصبح سجنا كبيرا لقوى اليسار لفترة طويلة، ويدعم “غوزمان” شهادته أو ذكرياته بالصور الوثائقية سواء الثابتة أو المتحركة.
ويتمثل البُعد الشخصي أيضا في ذلك الحنين إلى تشيلي، إلى عيش تجربة الثورة والتغيير مع جيل آخر لديه طموحات أخرى مختلفة، مع بروز القوى النسائية بدرجة كبيرة، على نحو لم يكن قائما في الماضي.
ثمار الانتفاضة.. ثورة ناجحة وطموحات تنتظر الشروق
رغم ابتعاد الفيلم عن النغمة الفلسفية المعهودة التي عرفناها في أفلام “غوزمان السابقة”، فإنه لا يخلو من نَفَس شعري عبر التعليق المصاحب للصورة على شريط الصوت، فـ”غوزمان” الذي غادر بلاده إلى المهجر منذ السبعينيات يخبرنا بأنه يرى تشيلي الآن وكأنه يراها للمرة الأولى، تشيلي التي لا يعرفها، وهي الآن تنتفض على حاضرها وتتمرد على مصيرها، لتحقق ما فشل في تحقيقه جيل “غوزمان” نفسه الذي قُمع بالدبابات بعد قتل الرئيس “أليندي” عام 1973.
لقد حققت انتفاضة 2019-2020 الكثير، إلا أن الصورة المتخيلة لما يريده الناس مستقبلا لم تتحقق بعد، وهي صورة مجتمع تختفي منه قوى الاستغلال والتفاوت الطبقي، لذلك اختار “باتريشيو غوزمان” أن يطلق على فيلمه “بلدي المتخيل”، فصورة تشيلي المستقبلية هي الصورة المتخيلة، وستغادر الخيال لتصبح حقيقة فقط عندما تتحقق على أرض الواقع، وطموحات الشعوب لا تعرف حدودا.