“فحص عميق”.. عنصرية توحد الطوائف والأعراق في بلدة رومانية
عاد المخرج الروماني المرموق “كريستيان مونجيو” صاحب فيلم “4 شهور و3 أسابيع ويومان” (4 Months, 3 Weeks and 2 Days) الفائز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان عام 2007؛ هذا العام إلى مسابقة مهرجان كان الأخير بفيلمه الجديد “آر إم إن” (R.M.N) الذي يتناول موضوعا معاصرا شديد الحساسية، وهو موضوع تفشي النزعة العنصرية في بيئة فقيرة، وما يترتب على هذا من ميل للعنف والخروج عن السيطرة.
يقدم “كريستيان مونجيو” أيضا صورة أكثر شمولا لحالة التفسخ الاجتماعي السائدة في رومانيا اليوم، ليس بالمفهوم الأخلاقي، بل على صعيد البناء الاجتماعي والتركيبة العرقية، من التهديد بانفجار المتناقضات داخل النسيج المختلط من الأعراق والثقافات واللغات التي ظلت متجاورة عبر مئات السنين، وتتجسد كأفضل ما يكون في منطقة ترانسلفانيا الرومانية.
الفحص العميق.. مغزى مجازي لحالة مرضية تُهدد المجتمع
الفيلم بعنوان “آر إم إن” (R.M.N)، وهي حروف تختصر باللغة المحلية الفحص العميق بالرنين المغناطيسي المعروف بـ”إم آر آي” (MRI) الذي يجرى للمرضى، لكن إذا كان السياق الواقعي للتعبير الذي يمكن ترجمته إلى “الفحص العميق” يشير إلى حاجة إحدى شخصيات الفيلم للمرور بمثل هذا الفحص الطبي بسبب حالته المرضية، فالمغزى المجازي يرمز إلى ما يحتاجه هذا المجتمع المصغر (الذي يختصر صورة المجتمع الأكبر) إلى فحص دقيق لحالته المرضية، وتسليط الضوء عليها لكشف تناقضاتها التي تهدد بالانفجار.
اتحدت منطقة ترانسلفانيا مع رومانيا عام 1918، لكنها ظلت تحتفظ بتركيبتها السكانية المختلطة من الألمان والمجريين والرومانيين والتشيك، واعتبرت بالتالي رمزا للوحدة الوطنية أو للهوية الوطنية الرومانية، لكن اليوم برزت التناقضات بين المجموعات السكانية، وأصبح كل فصيل يتشدق بتفوقه المزعوم على الآخر، والمفارقة أنهم يجتمعون على رفض وجود “غرباء” بينهم قادمين من الخارج، لا يختلفون عنهم إلا في لون الجلد والدين.
شخصيات الفيلم.. عالم من الصراع في بلدة جبلية ساحرة
تدور أحداث الفيلم في بلدة صغيرة في ترانسلفانيا تحيط بها طبيعة جبلية خضراء فائقة الجمال، ويتكون بناء الفيلم أو مساره السردي من عدة خيوط، ويكتسب المشهد الأول دلالة رمزية، ويلعب دورا دراميا في الفيلم رغم غموضه، وليس مصورا اعتباطا، فأول من يظهر على الشاشة هو صبي صغير يُدعى “رودي” يسير في الغابة القريبة، وفي طريقه إلى المدرسة فجأة يرى شيئا لا نراه نحن، حيث يقف متسمرا في مكانه، لقد وجد نفسه -على ما يبدو- أمام كائن غريب، أو شيء مفزع جعله يجفل عائدا إلى البيت خائفا، ومنذ تلك اللحظة كف عن الكلام تماما.
من جهة أخرى، هناك في بلدة ألمانية قريبة من الحدود، رجل روماني هو “ماثياس” يعمل في مسلخ كبير، لكن رئيسه الألماني في العمل يوجه إليه إهانة ذات طابع عنصري عندما يصفه بـ”الغجري الكسول”، فما كان منه إلا أن لقنه درسا عنيفا، ثم فر عبر الحدود في طريقه إلى بلدته. و”ماثياس” هو في الحقيقة والد الطفل “رودي”، وهو أيضا زوج “أنا” التي تستقبله ببرود، فهي تعرف أنه يتوق لاسترجاع علاقته القديمة مع “سيلا”.
أما “سيلا” فهي تفوقه ثقافة وتعليما، وهي تعزف على آلة التشيلو، وتتمتع بذوق موسيقي، كما أنها شقت طريقها إلى العمل المستقل في القرية بعد أن شاركت سيدة أخرى في إدارة مخبز آلي حديث بدعم مالي من الاتحاد الأوروبي.
“سيلا” هي أيضا أكثر انفتاحا على الآخر بحكم ثقافتها، وقد نشرت إعلانا تطلب فيه عمالا للعمل في المخبز، لكن لم يتقدم أحد من رجال القرية للعمل، فرجال القرية يفضلون العمل في ألمانيا للحصول على أجور عالية، رغم المعاملة السيئة التي يلقونها هناك كما رأينا. لذا استعانت “سيلا” باثنين من اللاجئين من سيريلانكا، ثم أتوا أيضا بشخص ثالث معهما.
“من يبدي الشفقة هو أول من يموت، وأنا أريدك أن تعيش”
الصورة التي يقدمها الفيلم لهؤلاء الرجال المسلمين صورة إيجابية تماما، بل بالأحرى واقعية، فهم مسالمون يُجهدون أنفسهم في العمل، ويبتكرون وسائل جيدة لتجويد المنتج، فهم يريدون الاحتفاظ بثقة السيدة التي منحتهم فرصة العمل والعثور على مأوى في تلك البيئة المعزولة البعيدة عن عيون الشرطة، لكنهم أصبحوا يواجهون الآن رفضا جماعيا من جانب رجال القرية ونسائها، فالمعروف أنه عندما تشتد الظروف الاقتصادية تبرز النزعة العنصرية تجاه الغرباء.
“ماثياس” شخص يميل إلى العنف بالفطرة، فنراه يحمل بندقيته معظم الوقت، وينصح ولده “رودي” عندما يأخذه معه إلى الغابة، ثم في جولة بالقارب في البحيرة القريبة؛ أن لا يكون طيبا متسامحا مع الآخرين، ويحذره من إبداء الشفقة عليهم، مرددا على مسامع الطفل أنه “من يبدي الشفقة هو أول من يموت، وأنا أريدك أن تعيش”.
يخبرنا الفيلم أن “ماثياس” ينتمي فعلا إلى غجر رومانيا، وهذا ما قد يفسر نزوعه إلى الخشونة، مع نزعة رومانسية تجعله يستجيب لما تطلبه منه “سيلا”، وهو بالإضافة إلى مشكلة ولده لديه أيضا مشكلة والده المريض الذي يحتاج إلى إجراء فحص دقيق على الدماغ، سينتج عنه -كما سنعرف- تأكيد إصابته بورم في المخ.
يستقبل “ماثياس” نتائج فحص الـ”إم آر آي” على هاتفه المحمول، ويتأمل دقائق الورم من خلال صور الأشعة النووية العميقة، وذلك في تعبير مجازي أيضا عن السرطان المتفشي في القرية، وقد يشير على صعيد رمزي أيضا إلى ما يعاني منه العالم اليوم من تشظٍ وتفتت وصراعات مدمرة، مع بروز النزعات العنصرية نتيجة الهوس بالتعصب القومي.
يصل الفيلم إلى هذه الفكرة في المشهد الرئيسي من الفيلم الذي يدور في قاعة البلدية.
الأيدي الملوثة.. اجتماع عنصري لرفض وجود المسلمين
يصور “مونجيو” مشهد قاعة البلدية مع مدير تصويره البارع “فلاديمير باندورو” في لقطة واحدة طويلة متصلة، بكاميرا تدور وتنتقل وتتوقف وتستمع لنحو 26 شخصا، وتستغرق هذه اللقطة/ المشهد 17 دقيقة من دون أي قطع، ونرى فيها حشدا من رجال ونساء القرية من خلفيات عرقية وثقافية مختلفة، بل ومن طوائف دينية مختلفة أيضا من الكاثوليك والأرثوذوكس وهم يتبادلون الاتهامات، ثم يتفقون على رفض وجود المسلمين الثلاثة من سريلانكا في العمل بالمخبز، فيتحول الاجتماع إلى ما يشبه المحاكمة لـ”سيلا”، لكنها تدافع عن نفسها بالقول إنها اضطرت للاستعانة بهم لرفض رجال القرية العمل بالأجور التي يمكنها دفعها، ولا تستطيع أن تتحمل أكثر منها.
وتعترض إحدى النساء زاعمة أن “هؤلاء المسلمين يختلفون في سلوكياتهم وعاداتهم عنا، وليس من الممكن أن يتحلوا بالنظافة، وبالتالي لا يمكن تناول الخبز من بين أيديهم”، وهنا تصل الهستيريا العنصرية إلى ذروتها، حينما يرفض الجميع شراء الخبز من المخبز، بدعوى أن السريلانكيين يمكن أن ينقلوا فيروسات من أيديهم الملوثة، وهو موقف تسخر منه “سيلا”، وتدافع عن العمال الثلاثة المسلمين، بل يحاول القس أيضا لفت أنظار الجميع إلى التحلي بسعة الصدر والترحيب بالغرباء اللاجئين، لكن دون جدوى.
سوف يجبر هذا الموقف “سيلا” على الاستجابة لشريكتها، أو بالأحرى المرأة الأكثر نفوذا منها في إدارة المخبز، لتستغني عن خدمات العمال السريلانكيين، وسيتحول الأمر في النهاية إلى مشهد عنيف يليق بنهايات “تشيكوف”.
الباحث الفرنسي.. غريب من الاتحاد الأوروبي يغلق مناجم القرية
في الفيلم شخصية لشاب فرنسي موفد من إحدى المنظمات غير الحكومية المدعومة من الاتحاد الأوروبي، لدراسة التناقص المتسارع في الحياة الطبيعية في الغابات المحيطة بالقرية، وخصوصا تراجع أعداد الدببة التي أصبحت مهددة بالانقراض.
وجود هذا الشاب يتسبب أيضا في موجة هجوم عليه من جانب الأهالي في سياق الهجوم على الاتحاد الأوروبي (الذي التحقت به رومانيا مع بلغاريا في عام 2007)، فهم يرون أن البلدان الأكثر ثراء في الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا وألمانيا تنظر إليهم نظرة استعلاء عنصرية، لكن هناك أيضا سبب آخر براغماتي أكثر، وهو أن نتائج أبحاث هذا الفرنسي أدت إلى إغلاق المناجم التي كان أبناء القرية يعملون فيها بعد أن ثبت تلوثها، مما أدى إلى هجرتهم للعمل في الخارج.
في الفيلم خيوط متعددة وقضايا مختلفة يلمسها السيناريو من خلال تلك الدراما التي يحرص المخرج “مونجيو” على استخلاص دلالاتها من دون أن يفرض شيئا عليها من خارجها. إنه يحرص هنا -كما كان في كل أفلامه السابقة، ومن أشهرها أيضا فيلم “تخرج” (Graduation) البديع الحائز على جائزة أفضل إخراج بمهرجان كان السينمائي 2016- على التمسك بأسلوبه الواقعي الذي يجعل الشخصيات في علاقة وثيقة مع المكان ومع الزمان، ويجعل المكان جزءا أساسيا من الدراما، رغم أنه يكسبه أيضا بعض الملامح الرمزية.
إننا داخل بؤرة صراع يوشك على الانفجار، ولا نعرف ماذا سيحدث بعد.
واقعية الفيلم.. إيقاع بطيء أقرب إلى الطابع التسجيلي
قد يشوب الفيلم بعض البطء في الإيقاع، لكن هذا هو إيقاع الواقع، فالمونتاج السريع كما يرى “مونجيو” يؤثر سلبا عل استقبال المتفرج للأحداث والشخصيات، لذا لا يفضل الإفراط في الانتقال في الزمن داخل الفيلم، بل يميل إلى السرد المنطقي الذي يمتد صعودا من البداية إلى النهاية.
وتصل واقعيته إلى ذروتها في مشهد الاجتماع الذي يبدو شديد التلقائية، ولا بد أنه قد أجرى كثيرا من التدريبات عليه مع الممثلين، فالكاميرا تتحرك من شخصية إلى أخرى في الوقت المناسب، لتنهض شخصية ثانية تتحدث، ومنها إلى حديث قادم من جهة أخرى، مع الاحتفاظ بالصخب والتعليقات الصادرة من الخلف، في سياق أقرب ما يكون إلى الطابع التسجيلي، أو حتى أسلوب مدرسة “سينما الحقيقة” التي ظهرت في الستينيات، وكان روادها يؤمنون بعدم تدخل المخرج في تشكيل الصورة أو توجيه الممثلين، خصوصا أن “مونجيو” استعان أيضا بكثير من القرويين الحقيقين. لهذا جاء فيلمه متمتعا بكل تلك التلقائية والصدق.